مناطق أكراد إيران… بحر من الذهب والفقر والبيئة المدمرة

لا يكفون عن الاحتجاج ضد ما يعتبرونه إجحافا بحقهم

 ويكيبيديا
ويكيبيديا
أكراد يحتفلون بعيد النوروز في كردستان إيران، 2024

مناطق أكراد إيران… بحر من الذهب والفقر والبيئة المدمرة

في أوائل شهر أغسطس/آب اعتقلت السلطات الأمنية الإيرانية خمسة مواطنين أكراد/إيرانيين من قرية "ميركى نخشبى" القريبة من مدينة سقز الكردية غرب البلاد، بعد احتجاجهم على ما اعتبروه "أعمالاً تدميرية للبيئة" تقوم بها شركة "تعدين الذهب" الحكومية في منطقتهم، ووجه لهم المدعي العام في المنطقة تهمة "مس استقرار البلاد". الحدث جاء عقب عريضة شعبية وجهها مئات النشطاء المحليين الأكراد في تلك المنطقة للسلطات الحكومية، عبروا فيها عن شكواهم مما تمارسه تلك الشركات من تحطيم للبيئة الطبيعية في مناطقهم، من قطع للغابات وتلويث للمياه وتخريب للطرق القروية، بحثاً عن الذهب، الذي تصدره لمصفاة المعادن في مدينة سقز.

اطلعت "المجلة" على منشورات وبيانات منظمة "هنغاو" لحقوق الإنسان، الناشطة في المناطق الكردية في إيران، والتي تُدير شبكة أنشطتها من الدول الأوروبية، وعلمت أن تلك الحادثة جزء دوري من سلسلة أعمال أمنية تقوم بها السلطات الإيرانية ضد النشطاء المدنيين والبيئيين والحقوقيين الأكراد لنفس السبب، حيث يعتبرون مناطقهم ومجتمعاتهم المحلية ضحايا التلهف الحكومي لاستخراج الذهب، دون أي اعتبارات بيئية أو تعويضات اقتصادية. فنسبة قليلة للغاية من سكان المنطقة تعمل في المؤسسات الحكومية أو الأجنبية الحاصلة على استثمارات تلك المنطقة، بينما تواجه مناطقهم أعلى مستويات البطالة بسبب قلة الاستثمارات الحكومية، ولا تشهد أية تنمية اقتصادية، فيما تلاقي البيئة الزراعية التي يعتمد عليها السكان تدهوراً متلاحقاً، بسبب زيادة مستويات التلوث والملوحة في المياه الجارية والباطنية بسبب عمليات التعدين التي تستخدم مواد غير مطابقة للمعايير الدولية.

تُعتبر المحافظات الكردية الثلاث شمال غربي البلاد (كرمنشاه وكردستان وأذربيجان الغربية) المنطقة الأكثر غزارة بالثروات المعدنية، لا سيما الذهب

كردستان إيران بحر الذهب

لا تُصدر السلطات الإيرانية أية إحصاءات رسمية عن ثروة البلاد من الذهب، سوى بعض البيانات المتناثرة، التي يُتقصد منها تشجيع الشركات العالمية للاستثمار في قطاع تعدين الذهب في إيران، خصوصاً بعد تنامي العقوبات على إيران. لكن مركز "الأبحاث البرلمانية في إيران" أصدر أوائل العام الجاري بحثاً أكد فيه امتلاك إيران لأكثر من 800 طن من احتياطي الذهب، تُقدر قيمته السوقية بقرابة 50 مليار دولار، تشغل فيه إيران المرتبة 18 على مستوى العالم من حيث احتياطيات الذهب.

تُعتبر المحافظات الكردية الثلاث شمال غربي البلاد (كرمنشاه وكردستان وأذربيجان الغربية) المنطقة الأكثر غزارة بالثروات المعدنية، لا سيما الذهب. فالمحافظات الثلاث التي لا تزيد مساحتها على 5.7 في المئة من مساحة إيران (90 ألف كم مربع من أصل 1.6 مليون كم مربع)، تحتوي نحو ثلثي كامل احتياطيات البلاد من المعدن الثمين. فخمسة مناجم فقط في منطقتي سنندج من محافظة كردستان وأورمية من محافظة أذربيجان الغربية، يزيد احتياطها على 330 طناً من الذهب الخالص.

أ.ف.ب
إيراني يصمم خاتما في ورشته بالبازار الكبير بطهران، 14 سبتمبر 2021

يُعد منجم "زرشوران" للمعادن الثمينة، والواقع في محافظة أذربيجان الغربية، أكبر مناجم الذهب في منطقة الشرق الأوسط، إذ يحوي لوحده ثُلث احتياطيات إيران من الذهب، ويعمل فيه قرابة 700 عامل ومهني، يستخرجون سنوياً أكثر من ثلاثة أطنان من الذهب، تبلغ قيمتها السوقية قرابة 150 مليون دولار، وهو واحد من 52 معدناً آخر في تلك المنطقة.

مثله أيضاً يعمل منجم "قولقولى" بالقرب من مدينة سقز في محافظة كردستان. إذ تُشير الدراسات المباشرة حوله إلى احتوائه على 8 أطنان من الذهب الخالص (عيار 24 قيراط)، وأكثر من 100 طن من الذهب غير الخالص، فيما تخمن الأوساط البحثية وجود قرابة 50 طناً من الذهب الخالص في المساحة الجغرافية المحيطة بالمنجم.

إلى الشمال منه، على بُعد قرابة 150 كلم، يقع منجما "أغرا" و"باريكا" بالقرب من مدينة أورمية ذات الأغلبية الكردية، ويحويا احتياطيات تزيد على 155 طناً من الذهب الخالص.

وتعمل المناجم الثلاثة بكامل طاقتها، فيما تستعد السلطات الإيرانية لافتتاح منجمين آخرين في منطقة "بانه" الواقعة بين هذه المناجم. وهي جزء من شبكة ضخمة لمناجم المنطقة، إذ ثمة 469 منجماً صغيراً ومتوسط الحجم في المحافظات الثلاث، يعمل فيها قرابة 5.5 ألف عامل.

عُرفت إيران تاريخياً كواحدة من البلدان المنتجة للذهب، إذ تشير واحدة من النصوص السومرية القديمة (3000 عام قبل الميلاد) إلى منطقة مسماة "زرشاشوم" كمنبع للذهب، ويعتقد الباحثون التاريخيون أن ذلك المكان الجغرافي هو نفسه منطقة "زرشوران" التي تحوي منجم الذهب الشهير.

كانت المناطق الكردية غرب البلاد الأكثر ثراء بالتنوع البيئي، تضم أنواعاً نادرة من النباتات والحيوانات البرية، التي لم تنقرض مثل الكثير من مناطق البلاد

لا تكشف السلطات الإيرانية عادة حجم العائدات التي توفرها الثروات المعدنية المستخرجة من المناطق الكردية لصالح الخزينة العامة، لما تعتبره "أمناً قومياً". فمقارنة حجم مساهمة تلك المحافظات الكردية في الميزانية العامة، مقارنة بحالة الفقر وسوء التنمية التي تعيشها، قد يخلق قلاقل أمنية. لكن وكيل وزارة المناجم في المديرية العامة للصناعة والمناجم في محافظة كردستان مهدي سيف ياغي، صرح بشكل استثنائي لوكالات الأنباء المحلية أوائل العام الجاري، كاشفاً جزءا من الصورة العامة للثروات المعدنية في محافظة كردية واحدة: "تتمتع كردستان بمكانة خاصة في صناعة التعدين في البلاد بسبب وجود الذهب وخام الحديد والرخام والسيليكا والباريت والمعادن الصناعية الأخرى، وأصبح التعدين أحد المحركات الرئيسة لتنمية المحافظة. هناك حالياً 210 مناجم نشطة و50 منجماً شبه نشط في المحافظة. حتى الآن تم إصدار 380 رخصة استغلال و151 رخصة استكشاف و19 شهادة اكتشاف في قطاع التعدين بالمحافظة. فحجم الإيرادات الحكومية المحصلة من مناجم المحافظة خلال العام الماضي بلغت 2.8 تريليون تومان إيراني (قرابة 75 مليون دولار، حسب سعر صرف التومان الإيراني خلال العام الماضي)".

تدمير البيئة

لأسباب عديدة ومركبة، مثل نوعية العقوبات الدولية التي تحرم إيران من الكثير من التكنولوجيا والخبرات الدولية، أو عدم رغبة السلطات الحكومية صرف المزيد من الأموال في سبيل "جودة وسلامة استخدام المناجم"، وإلى جانبها سوء الانتباه والاعتداد الحكومي بالمسألة البيئية، تخلف عمليات استخراج الذهب آثاراً مُدمرة على البيئة الطبيعية في المناطق الكردية.

أ.ف.ب
خلال تظاهرة للتنديد بوفاة مهسا أميني التي توفيت أثناء احتجازها لدى السلطات الإيرانية، في أربيل، إقليم كردستان - العراق في 24 سبتمبر 2022

وفي حديث مع "المجلة"، يشرح الناشط البيئي المحلي درباز شكاكي تلك الآثار تفصيلاً: "كانت المناطق الكردية غرب البلاد الأكثر ثراء بالتنوع البيئي، تضم أنواعاً نادرة من النباتات والحيوانات البرية، التي لم تنقرض مثل الكثير من مناطق البلاد بسبب البيئة الريفية التي حافظت على خصائصها. لكن نفس المناطق، وبسبب عمليات التعدين غير المسؤولة، تشهد راهناً انتشاراً واسعاً لمختلف أنواع السرطان، والملوحة الفائضة تصيب تربتها الزراعية، فيما تعاني الينابيع من جفاف وزيادة في نسبة الملوثات، والحيوانات البرية والمائية تواجه خطر الانقراض بسبب تلوث ما يحيط بها من بيئة سامة".

يتابع شكاكي حديثه شارحاً أسباب ذلك: "استخراج الذهب من مناجم كردستان يتم فعلياً حسب أكثر الطرق بدائية، إذ تُنقل التربة الأولية من المناجم إلى مصانع الفصل، وهناك تُستخدم عشرات الأنواع من المواد الكيماوية بغية فصل الذهب عن باقي الرواسب المعدنية، ما يخلق نفايات معدنية شديدة التلوث، تُحفظ في خزانات كبيرة، لكنها فعلياً تتسرب إلى التربة والمياه بالتقادم الزمني. لا تتوقف تلك المخاطر على بيئة المناطق الكردية في إيران فحسب، بل تتجاوزها إلى إقليم كردستان العراق، فالسواقي المائية تتدفق عادة من إيران إلى العراق، وبذلك تتسبب في آثار كارثية، كما أثبتت الدراسات التي أجريت على نهر الزاب الصغير في إقليم كردستان".

يطالب النشطاء المدنيون والبيئيون والسياسيون الأكراد بتحقيق ما يعتبرونه "عدالة نسبية" من عمليات التعدين المفتوحة في مناطقهم

مطلبان كرديان

في المقابل، ليس من مراكز للدراسات البيئية في المناطق الكردية، أو حتى مستشفيات مختصة بالأمراض التي قد تتسبب بها تلك الأعمال، أو حتى مبادرات بيئية تتقصد تعويض ما يصيب المنطقة من تدمير متقادم. إذ ليس في الميزانية العامة للبلاد أي بند يخصص جزءا من واردات المحافظات من الثروات الباطنية لصالحها، بغرض تحسين البيئة أو تعويض السكان المحليين جراء ما يلحق بهم من أضرار. حتى الدراسات الجامعية الخاصة بهذه المسائل تتعرض لمراقبة أمنية وأكاديمية محكمة جداً.

لا يتوقف الأكراد الإيرانيون الذين يشكلون قرابة 12 في المئة من سكان البلاد (من أصل 80 مليون نسمة) عن الاحتجاج على ما يجري في مناطقهم، ووصل الأمر قبل قرابة عام حد تدخل قوات الحرس الثوري الإيراني لمواجهة احتجاجات أهالي قرية "آغ دره" بالقرب من مدينة تكاب، حيث اندلعت أعمال العنف جراء المواجهات بين المتظاهرين المعترضين على أعمال المنجم القريب من قريتهم وقوات الأمن، وحينما تدخل الحرس الثوري فرّ المئات من السكان المحليين إلى الجبال القريبة. لا تعرض وسائل الإعلام المحلية، الحكومية بأغلبيتها المطلقة، تلك الاحتجاجات بصورة مهنية، بل تصورها وكأنها "أعمال شغب".

أ.ف.ب
احتجاجات للتنديد بوفاة مهسا أميني في سنندج، عاصمة إقليم كردستان الإيراني، في 19 سبتمبر 2022

يطالب النشطاء المدنيون والبيئيون والسياسيون الأكراد بأمرين محددين لتحقيق ما يعتبرونه "عدالة نسبية" من عمليات التعدين المفتوحة في مناطقهم: أن يكون ثمة مركز دراسات مختص بالاستشعار البيئي في مناطقهم، ويكون الحصول على موافقة مسبقة منه شرطاً لافتتاح أي منجم أو مصنع خاص بالمعادن، وأن تجرى دراسات دورية مستندة إلى المعايير الدولية لتحديد مدى صلاحية أو أضرار أي منجم أو مصنع خاص بالتعدين. كذلك أن تكون نسبة معتبرة من عائدات المعادن المستخرجة لصالح تلك المحافظات، وأن تذهب حصراً لصالح إعادة ترميم البيئة ومعالجة الضحايا المباشرين لهذه الأعمال.

ترفض الحكومة الإيرانية أي نقاش قانوني أو سياسي في هذا الإطار، لأنها تعتبر المناجم جزءاً من الثروة الوطنية، تختص السلطات المركزية وحدها بحق العمل بها وإدارتها والإشراف عليها، مثلها مثل الثروة النفطية.

font change