"سلاح الجوع" في غزة والفاشر... أعراض تآكل النظام العالمي

تحويل الطعام إلى وسيلة قهر سياسي وعسكري

أ.ب
أ.ب
معاناة الفلسطينيين اليومية في قطاع غزة أثناء محاولة الحصول على حصة من الطعام الشحيح في خان يونس، 1 سبتمبر

"سلاح الجوع" في غزة والفاشر... أعراض تآكل النظام العالمي

المجاعة ليست نتيجة جفاف طبيعي أو شح موارد بقدر ما هي انعكاس لخيارات سياسية. هذا ما بيّنه أمارتيا سن الاقتصادي الهندي البارز الحائز على جائزة نوبل في عمله الرائد حول الفقر والمجاعات في سبعينات القرن الماضي، حين أكد أن المجاعات ليست ناتجة عن غياب وجود الطعام في ذاته، بل عن غياب إمكانية الحصول عليه. هذه الحقيقة تتجلى اليوم بأبشع صورها في غزة والفاشر، حيث يتم استعمال التجويع عمدا كسلاح حرب.

نحن أمام حالتين متوازيتين: في غزة، يُترك أكثر من مليوني إنسان فريسة للتجويع المنظم عبر حصار مطبق تفرضه إسرائيل، وفي الفاشر في شمال دارفور، حيث تفرض ميليشيا "قوات الدعم السريع" الحصار على مليون مدني منذ مايو/أيار 2024، في تكرار مأساوي لذاكرة الإبادة في الإقليم.

المشهدان يكشفان عن عطب عميق في النظام الدولي: صمت، تواطؤ، وحياد زائف يساوي بين الجلاد والضحية. تتطلب المآسي التي تحدث على أساس يومي في غزة والفاشر انتباها أكثر مبدئية وأكثر أخلاقية من المجتمع الدولي وتدخلا عاجلا، يقوم على مخاطبة الواقع الفعلي لهذه الأزمات، بشكل يتجاوز الراحة الوهمية للحياد الشكلي الكاذب بين الأطراف. إذ لا يمكن للعالم أن يحول بصره عن تسليح الجوع، وإلا أصبح شريكا في استمراره.

التاريخ الدموي للتجويع

لطالما كان التجويع السلاح المفضّل للفاشية في حروب الإبادة، فالتاريخ البشري زاخر بفصول دامية تؤكد أنّ المجاعة المصنوعة ليست كارثة طبيعية ولا نتيجة عرضية للنزاع، بل أداة مقصودة لكسر إرادة المجتمعات وإخضاعها بالإذلال والموت البطيء.

من أوكرانيا إلى غزة، ومن إثيوبيا إلى دارفور، يتكرّر النمط ذاته بتجليات مختلفة، لكن بجوهر واحد: تحويل الطعام، أبسط مقومات الحياة، إلى وسيلة قهر سياسي وعسكري.

ففي ثلاثينات القرن الماضي، شهدت أوكرانيا واحدة من أبشع صور التجويع حين فرض ستالين سياسات مصادرة المحاصيل الزراعية، فمات الملايين في مجاعة "الهولودومور". لم تكن تلك المجاعة ثمرة قحط أو جفاف، بل كانت سلاحا متعمدا استُخدم لتدمير مجتمع بكامله وشلّ إرادته.

هذه الأزمات المتماثلة في غزة والفاشر ليست حوادث معزولة بل أعراض لتآكل أوسع في النظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يبرز التجويع المفرض كأداة إكراه في تحدٍ للقانون الإنساني الدولي 

وفي حصار لينينغراد بين عامي 1941 و1944، ضرب النازيون طوقا خانقا حول المدينة طيلة 872 يوما، قضى خلالها أكثر من مليون إنسان جوعا وبردا. لم يكن الهدف عسكريا فحسب، بل كان إخضاعا مدروسا عبر الموت الجماعي البطيء.

وفي إثيوبيا خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي، تحوّلت المجاعة إلى أداة حرب في إقليم تيغراي، حيث مُنعت المساعدات وفرضت عمليات ترحيل قسري. الصور المروعة التي هزّت ضمير العالم لم تكن نتاج الطبيعة، بل كانت انعكاسا لسياسة ممنهجة. وفي سوريا خلال العقد الأخير، شاهد العالم فصول الحصار في الغوطة وحمص، حيث اضطر المدنيون إلى أكل الأعشاب للبقاء على قيد الحياة. الحصار لم يكن عارضا، بل ممارسة مدروسة لتحويل الجوع إلى سلاح قمع. في غزة وفي الفاشر تتكرر هذه الوقائع، الممتدة من الماضي إلى الحاضر، ليس كأحداث متفرقة، بل حلقات متصلة في سلسلة واحدة مظلمة: سلسلة استخدام الجوع كسلاح سياسي.

غزة والمأساة الفلسطينية المتطاولة

تتبدّى مأساة غزة في قلب أزمة الشرق الأوسط المتطاولة وهو صراع أحال حياة الفلسطينيين إلى حلقة مغلقة من التهجير والحرمان والمعاناة. فمنذ هجمات "حماس" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وما تبعها من ردّ عسكري إسرائيلي واسع، يعيش أكثر من 2.3 مليون إنسان في قطاع غزة تحت حصار خانق قطع شرايين الحياة الأساسية. وبحلول أغسطس/آب 2025، أعلن التصنيف الأممي للأمن الغذائي المتكامل (IPC) أنّ غزة دخلت رسميا مرحلة المجاعة القصوى من المرحلة الخامسة، وهي الدرجة الأعلى في سلم الكارثة الغذائية.

هذا الوضع ليس حادثا عرضيا ولا نتيجة ظرف طارئ، بل ثمرة سياسة إسرائيلية متعمّدة. فالتقارير الصادرة عن "منظمة العفو الدولية" وخبراء الأمم المتحدة تكشف بوضوح كيف أن القيود المفروضة على دخول المساعدات، إلى جانب تدمير البنية التحتية الزراعية وشبكات المياه، قادت إلى انهيار منهجي لقدرة المجتمع على توفير الغذاء. وقد حذّر الخبير الدولي أليكس دي وال بأنّ غزة وصلت إلى نقطة "لم يعد مجتمعها قادرا ببساطة على إعالة نفسه"، متهما إسرائيل بارتكاب "تجويع إبادي" يترك جروحا عميقة لن تندمل لأجيال قادمة.

الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وصف الوضع في غزة بأنه "كارثة من صنع الإنسان"، لكنه تجنّب الإشارة في بيانه إلى من يقف خلفها، واكتفى بمطالب سياسية عامة، قد تكون وجيهة في سياق الصراع الأوسع، لكنها تتجاوز القضية الجوهرية للبيان: المجاعة المصنوعة نفسها. هذا التجاوز ليس عجزا في صياغة البيان فحسب، بل يعكس خللا أخلاقيا أوسع، إذ يختزل المأساة في التوصيف السياسي ويصرف النظر عن المسؤولية المباشرة عن جريمة التجويع. وبذلك يصبح التجويع قابلا للتطبيع كسلاح مشروع في الحرب، ويجد مستخدموه سبيلا إلى التبرير أو الإفلات من العقاب عبر الوسائل السياسية. ولكن مهما كانت تعقيدات الصراع وتشابكاته السياسية والعسكرية، تبقى هناك حقيقة لا تقبل المواربة: الأطفال الذين يتضورون جوعا ويموتون يوميا في غزة لا يملكون ترف الانتظار حتى تسفر مفاوضات وقف إطلاق النار أو صفقات تبادل الأسرى عن نتائجها.

إنّ القيود الإسرائيلية المفروضة على دخول الغذاء والدواء، مهما صيغت لها ذرائع أمنية أو دوافع انتقامية، لا يمكن القبول بها ولا تبريرها. فهي لا تنتهك القانون الإنساني الدولي فحسب، بل تقنن استعمال التجويع كسلاح مقبول في الحروب وتطيل دائرة الإفلات من العقاب، وتُقوّض في جوهرها مبادئ الكرامة والعدالة التي يفترض أن تُشكل الضمير الأخلاقي للعالم.

حصار الفاشر وشبح الإبادة الجماعية

في نفس الوقت وفي ركن آخر من العالم، في مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور بالسودان، تتكشّف مأساة مشابهة. تخوض القوات المسلحة السودانية حربا ضارية ضد "قوات الدعم السريع" منذ أبريل/نيسان 2023. هذه الحرب شرّدت ملايين المدنيين حول السودان، ولكنها حوّلت الفاشر إلى بؤرة مجاعة خانقة. وأكد التصنيف الأممي للأمن الغذائي المتكامل أنّ المجاعة قد تتسع لتشمل أكثر من مليون ونصف المليون شخص في المدينة ومعسكرات النزوح القريبة مثل زمزم وأبو شوك.

منذ مايو/أيار 2024، فرضت ميليشيا "قوات الدعم السريع" حصارا كاملا على الفاشر. أغلقت الميليشيا الطرق المؤدية إلى الفاشر، ونهبت القوافل، ومنعت وصول المساعدات الإنسانية. وأعادت دارفور– التي ما زالت تحمل جراح إبادة 2003-2008– إلى مسرح جديد للتجويع. اضطرت العائلات اليائسة إلى تناول علف الحيوانات كطعام للبقاء على قيد الحياة بينما يموت الأطفال من سوء التغذية الحاد تحت قصف لا يتوقف.

أ.ف.ب
سودانيات ينتظرن الحصول على وجبات غذائية عاجلة في الفاشر، 11 أغسطس

تستخدم "قوات الدعم السريع"-الميليشيا المنحدرة من إرث الجنجويد- الجوع كسلاح بشكل منهجي.

وقد صنّفت الولايات المتحدة هذه الأفعال على أنها إبادة جماعية، في تذكير بفشل المجتمع الدولي السابق في دارفور. ورغم ذلك، تنكر "قوات الدعم السريع" أفعالها وتدّعي أنّ حربها هو محاولة إصلاح ضد بقايا نظام عمر البشير المخلوع. لكن أدلة الممارسات الفاشية الممنهجة للانتهاكات ضد المدنيين تكشف عدم صحة هذه المزاعم.

بيانات مشروع رصد مواقع وأحداث النزاع المسلح (ACLED) تشير إلى أنّ "قوات الدعم السريع" نفذت 77 في المائة من أعمال العنف ضد المدنيين في السودان بنهاية عام 2024، بينما جاءت نسبة بقية الأطراف أقل بكثير، بما فيها القوات المسلحة السودانية. وفي عام 2025 واصلت القوات ذاتها النهج نفسه. فقد وثّق تقرير صادر عن منظمة "إنسايتس" المستقلة مقتل 765 مدنيا في شهر يوليو/تموز وحده، ونسب 88 في المائة من هذه الجرائم إلى "قوات الدعم السريع".

رغم وضوح أسباب الكارثة والفاعلين فيها، عجزت الاستجابة الدولية عن التصدي الفاعل بوضوح لها

رغم وضوح أسباب الكارثة والفاعلين فيها، عجزت الاستجابة الدولية عن التصدي الفاعل بوضوح لها. في يونيو/حزيران 2025، اقترح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش هدنة إنسانية لسبعة أيام لتسهيل إدخال المساعدات إلى الفاشر. وافقت الحكومة السودانية على أعلى مستوياتها على مقترح غوتيريش الذي تلقى موافقة مباشرة من عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني، لكن "قوات الدعم السريع" رفضت المقترح وواصلت هجماتها على الفاشر والتي استهدفت المدنيين بشكل مباشر. وفي غضون عشرة أيام فقط من أغسطس/آب، قتلت الميليشيا 89 شخصا في الفاشر ومحيطها خلال هذه الهجمات.

وفي 18 أغسطس، وجّه رئيس الوزراء السوداني رسالة إلى مجلس الأمن دعا فيها الأمم المتحدة إلى التحرك العاجل لرفع المعاناة عن الفاشر ومواجهة الكارثة الإنسانية المتفاقمة. وأكّد في رسالته أنّ ما يحدث هناك "ليس أزمة إنسانية فحسب، بل اختبار أخلاقي للأمم المتحدة". بهذه الكلمات، نزع رئيس الوزراء كل ذريعة قد تتكئ عليها المنظمة الدولية لتبرير صمتها أو استمرار عجزها الفاضح عن التعامل مع مأساة الفاشر.

تزيد التشابكات الجيوسياسية من تعقيد الأوضاع في الفاشر، إذ أتاح الدعم الخارجي للميليشيا العمل بلا عقاب، مستفيدا من النفوذ الدولي لرعاتها لتفادي المساءلة. وثّقت تقارير عديدة، منها صادرة عن لجنة خبراء الأمم المتحدة وإحاطات الحكومة الأميركية للكونغرس ، تزويد الميليشيا بالأسلحة من أطراف خارجية، بما أتاح ارتكابها لجرائم واسعة النطاق. كما أظهرت محاولات السودان أمام محكمة العدل الدولية أن هذا الدعم لم يقتصر على التسليح، بل شمل أيضا التواطؤ السياسي الذي حال دون محاسبة حقيقية. وكما أسهمت قوى دولية أخرى مثل المملكة المتحدة، عبر محاولات التغطية أو كبح الانتقادات لهذا الدعم الخارجي، في توفير مظلة إضافية لإفلات الميليشيا من العقاب. هذا التردد العالمي في مواجهة الرعاة الخارجيين حوّل الأزمة السودانية إلى ورقة مساومة في صراعات النفوذ، وأطال أمد المأساة الإنسانية.

التواطؤ الدولي والاختبار الأخلاقي الذي يواجه العالم

هذه الأزمات المتماثلة في غزة والفاشر ليست حوادث معزولة بل أعراض لتآكل أوسع في النظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يبرز التجويع المفرض كأداة إكراه في تحدٍ للقانون الإنساني الدولي ويتم استدعاء الحسابات الأمنية والسياسية لتبرير الفظائع. في كلا السياقين، يغذي الاستبداد المقارب للفاشية آلية الموت. مواجهة هذه الأزمات لا تحتاج إلى إدانات جديدة، بل إلى خطوات ملموسة. أما التجاهل فهو ليس فعلا سلبيا بل تواطؤ كارثي وتنازل عن المسؤولية الأخلاقية وغض للنظر عن بشاعة الحقيقة.

أولا: يجب إعادة تعريف مبدأ "المسؤولية عن الحماية" بوصفه التزاما أخلاقيا لحماية المدنيين من الإبادة، وتحريرها من السجن الفكري الذي يتعامل معها كمجرد مرادف للتدخل العسكري، ويجب إعادتها إلى جوهرها الأخلاقي والعملي الأصلي: حماية البشر من الإبادة لا مجرد شعار يرتبط بالتدخل العسكري أو الحسابات السياسية.

ثانيا: توفير الغذاء والدواء لم يعد خيارا مؤجلا. على المجتمع الدولي أن يستعمل كل الأدوات المتاحة عمليا لإيصال المساعدات. الإسقاط الجوي للمساعدات الإنسانية لم يعد خيارا أخيرا في غزة والفاشر، بل هو الخيار الوحيد المتاح لإنقاذ حياة المدنيين. وهو إجراء يستند إلى سوابق عملية أثبتت نجاحها من قبل (جسر برلين الجوي، وعمليات جبال النوبة وجنوب السودان).

أ.ف.ب
جندي من الجيش السوداني يراقب خط المواجهة مع "الدعم السريع" في الخرطوم

 

يجب كسر وهم "الحياد الأخلاقي". المساواة بين الجناة وضحاياهم ليست حيادا بل تواطؤ خطير

ثالثا: لا يكفي التنديد بمنع المساعدات. يجب تسمية الجهات المعرقلة، وإدانتها علنا، ومحاسبتها أمام القانون الدولي، سواء كانت أطرافا محلية أو داعمين خارجيين يزودون الميليشيات بالسلاح أو يوفرون لها الغطاء السياسي.

رابعا: المساءلة ركيزة أساسية. التجويع سلاح متعمد يرقى إلى جريمة إبادة، والتعامل معه كأمر ثانوي يشرعن الإفلات من العقاب. على المجتمع الدولي أن ينسب المسؤولية عن الجرائم بوضوح إلى مرتكبيها: لإسرائيل في سياساتها في غزة، ولـ"الدعم السريع" وداعميها في السودان.

خامسا: يجب كسر وهم "الحياد الأخلاقي". المساواة بين الجناة وضحاياهم ليست حيادا بل تواطؤ خطير. الاستسلام للتماثل الأخلاقي الكاذب الذي يمحو التمييز بين الجناة وضحاياهم، هو تشريع للإفلات من العقاب وتحويل الحياد إلى تواطؤ.

اللامبالاة والتجاهل هما الحاضنة الأوسع للشر وأخطر وجوهه. وكما قال أمارتيا سن فإن المجاعة ليست حتمية طبيعية، بل بناء سياسي. وما يصنعه القرار السياسي يمكن أن يُفككه قرار سياسي مضاد. ولكن الشرط الأول هو الاعتراف، والشرط الأعمق هو الفعل. إن المأساة في غزة والفاشر ليست مجرد كارثتين منفصلتين، بل إنذار نهائي: إن لم يستعد العالم جوهر إنسانيته، فسيتحوّل التجويع إلى سلاح الحرب المهيمن في القرن الحادي والعشرين، وسيتجلى الانهيار النهائي الأعمق للنظام الدولي، حيث تُفرَّغ القيم الإنسانية من معناها وتُستحضر كزينة خطابية، نادرة الحضور في ساحة الفعل.

font change