تجميع السيارات في مصر... صناعة واعدة تبحث عن استثمارات أجنبية

القطاع يتطلع الى شراكات دولية لنقل التكنولوجيا وضخ رؤوس الأموال وتدريب الكوادر

Shutterstock
Shutterstock
سيارة "داشيا داستر" تم تجميعها في مصر

تجميع السيارات في مصر... صناعة واعدة تبحث عن استثمارات أجنبية

تجتهد الحكومة المصرية لتوطين صناعة السيارات، مدفوعة برغبة في مواجهة التقلبات التي شهدها الاقتصاد المحلي بعد أزمات ارتفاع سعر صرف الدولار، وتاليا أسعار السيارات المستوردة، وتراجع القدرة الشرائية. ففي خلال ثلاث سنوات فقط، قفز سعر الدولار من 15 جنيها إلى 70 جنيها، قبل أن يتراجع إلى نحو 49.50 جنيها، مما أدى إلى تضاعف أسعار السيارات ثلاث مرات، وانكماش مبيعات المستوردة منها.

في المقابل، بدأت مصر في استقطاب علامات تجارية عالمية، خصوصا الصينية، التي رأت في السوق المصرية نقطة انطلاق نحو القارة الأفريقية والشرق الأوسط. وتستعد سبع علامات سيارات صينية لبدء الإنتاج المحلي خلال عامي 2025 و2026، من بينها "إم جي"، و"جيتور"، و"جي إيه سي"، و"شانغان"، و"هافال"، و"بايك"، إضافة إلى "جيلي" التي بدأت الإنتاج فعليا في يناير/كانون الثاني 2025.

تترافق هذه التحركات مع حوافز ضريبية سخية، وسياسات تشجيعية، أبرزها استراتيجيا صناعة السيارات الوطنية، التي تهدف إلى زيادة المكوّن المحلي، وتحسين البيئة التشريعية، وتوفير التمويل، وتشجيع التصدير، مع التركيز على قطاع السيارات الكهربائية كأحد المحاور المستقبلية.

الطموحات الكبيرة تصطدم بالواقع الصعب

على الرغم من هذه المبادرات، لا تزال الصناعة تفتقر إلى أساسيات التحول إلى مركز تصدير إقليمي. فبحسب الخبير في صناعة السيارات محمد شتا، فإن المصانع القائمة في مصر لا تتجاوز طاقتها الإنتاجية السنوية حاجز الخمسة آلاف سيارة، باستثناء شركات "نيسان"، و"غبور"، و"شيفروليه" التي تنتج ما يقارب 10 آلاف سيارة سنويا. ومعظم الإنتاج موجه للسوق المحلية، من دون وجود صادرات حقيقية أو منتظمة للأسواق الخارجية.

يقدر أن يبلغ حجم الإنتاج الكلي للسيارات المجمعة في مصر خلال عام 2025 نحو 60 ألف سيارة، وهو رقم متواضع مقارنة بمثيله في دول مثل جنوب أفريقيا (650 ألف سيارة سنويا)، والمغرب 530 ألف سيارة سنويا، أكثر من 60 في المئة منها للتصدير

ويضيف شتا "أن ضعف الجودة وغياب المواصفات العالمية يقفان عائقا أمام التصدير، مما يجعل الصناعة المحلية في حالة عزلة نسبية، لا تستفيد منها الدولة بالشكل الكافي، سواء على مستوى التوظيف أو الإيرادات من العملة الأجنبية".

وبحسب تقديرات السوق، فإن حجم الإنتاج الكلي للسيارات المجمعة محليا في مصر خلال عام 2025 لن يتجاوز 60 ألف سيارة، وهو رقم متواضع مقارنة بمثيله في دول مثل جنوب أفريقيا (650 ألف سيارة سنويا)، والمغرب 530 ألف سيارة سنويا، أكثر من 60 في المئة منها للتصدير.

تجارب دولية ناجحة... ودروس مستفادة

تشير التجارب الدولية، لا سيما في دول أفريقية وعربية، إلى أن نهضة صناعة السيارات لا تقوم فقط على التجميع المحلي، بل على وجود شراكات استراتيجية مع شركات تصنيع عالمية، واستثمارات أجنبية مباشرة ضخمة، تضمن نقل التكنولوجيا، وتطوير خطوط الإنتاج، وتحقيق معايير الجودة اللازمة للتصدير.

في المغرب، على سبيل المثل، نجحت الحكومة في استقطاب استثمارات مباشرة من شركات كبرى مثل "رينو" و"بيجو"، بمتوسط استثمار يتراوح بين مليار وملياري دولار للمصنع الواحد، مما أتاح للمغرب تصدير أكثر من نصف إنتاجه إلى أوروبا وأفريقيا. وفي المملكة العربية السعودية، شرعت شركة "هيونداي" أخيرا في تأسيس أول مصنع لها باستثمار أجنبي مباشر، مما يعكس ثقة الشركات العالمية في المناخ الاستثماري هناك.

ويكبيديا
خط تجميع لشاحنات النقل في مصنع جنرال موتورز مصر.

أما في مصر، فلا تزال الشركات الأجنبية تتحفظ على الدخول في استثمارات مباشرة، ويرجع ذلك، بحسب شتا، إلى أسباب عدة، "منها صغر حجم السوق (10 ملايين مركبة فقط)، وغياب البنية التحتية الصناعية المتطورة، وقيود الاستيراد المفروضة منذ عام 1998، والتي تمنع دخول السيارات المستعملة".

رأيان ما بين دعم الصناعة وتقييم الجدوى

بناء عليه، لا يزال الجدل حول جدوى تجميع السيارات محليا قائما في الأوساط الاقتصادية. بينما يرى عضو رابطة تجار السيارات منتصر زيتون، "أن الصناعة تدعم الاقتصاد الوطني عبر توليد فرص عمل وتحفيز الصناعات المغذية (التي تشمل حالياً أكثر من 200 مصنع)"، ويؤكد "أن التجميع المحلي يخفض الأسعار في شكل ملحوظ مقارنة بالمستوردة"، يرى شتا "أن عدم وجود صادرات ذات جودة عالية يجعل من التجميع المحلي نشاطا تجاريا داخليا لا أكثر".

لا يزال سعر النهائي للسيارات المجمعة في مصر مرتفعا، بسبب ضعف الجودة وتكلفة الإنتاج، ما يفقدها ميزة المنافسة داخليا وخارجيا، ويحد من انتشارها، خصوصا في غياب بدائل حقيقية من السيارات المستعملة التي تمنع الدولة استيرادها

محمد شتا، خبير في صناعة السيارات

ويشير زيتون إلى أن المصانع القائمة تساهم في رفع نسبة المكون المحلي، وتقلل الرسوم الجمركية المفروضة على السيارات المستوردة. على سبيل المثال، تصل الجمارك على السيارات المستوردة ذات محرك 1600 سي سي إلى 65 في المئة، بينما لا تتجاوز الرسوم على مكونات الإنتاج في حال التجميع المحلي سبعة في المئة، مما يمنح السيارات المجمعة محليا ميزة سعرية نسبية.

في المقابل، يقول الخبير شتا أن السعر النهائي للسيارات المجمعة في مصر "لا يزال مرتفعا، بسبب ضعف الجودة وتكلفة الإنتاج، مما يفقدها ميزة المنافسة داخليا وخارجيا، ويحد من انتشارها، خصوصا في غياب بدائل حقيقية من السيارات المستعملة التي تمنع الدولة استيرادها".

استراتيجيا التحول من التجميع إلى التصنيع الكامل

من الواضح أن الحكومة المصرية تدرك أهمية التحول من نمط التجميع إلى التصنيع الكامل، وهو ما تحاول تحقيقه من خلال الاستراتيجيا الوطنية لصناعة السيارات. وتتضمن هذه الاستراتيجيا إنشاء بنية تحتية صناعية متكاملة، تشمل الصناعات المغذية، والموردين المحليين، ومراكز البحوث، والتدريب الفني.

Shutterstock
مصنع في الإسكندرية لتجميع وإنتاج اللوحات الكهربائية، 18 فبراير 2025

ومن المنتظر أن تساهم هذه المنظومة في رفع نسبة المكون المحلي تدريجيا إلى 60 في المئة أو أكثر، مما يفتح الباب أمام إنتاج سيارات مصرية ذات قيمة مضافة عالية، تلبي المعايير الدولية، وتنافس في الأسواق الإقليمية.

الدعم الرئاسي والتمويل الحكومي... هل يكفيان؟

في خطوة تعكس الاهتمام الرئاسي بهذا القطاع الحيوي، أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي تخصيص 100 مليار جنيه (نحو ملياري دولار) لدعم قطاع السيارات، لكن السؤال المطروح: هل يكفي هذا الدعم لتحقيق النمو المنشود في القطاع؟

وكذلك، أطلق رئيس الوزراء مصطفى مدبولي برنامج تحفيز صناعة السيارات، الذي يتضمن حوافز مالية وضريبية للشركات التي تلتزم زيادة المكون المحلي، وتطوير التكنولوجيا، ورفع كفاءة خطوط الإنتاج.

يلعب الموقع الجغرافي المتميز لمصر، دورا محوريا في تسهيل عمليات تصدير السيارات إلى أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا

العديد من الخبراء يرون أن التمويل وحده لا يكفي، ما لم يقترن بخطة شاملة لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وإزالة العوائق البيروقراطية، وتحرير السوق من القيود، وتطوير التعليم الفني، وضمان وجود بنية تحتية صناعية داعمة، بما يشمل الموانئ والطرق ومراكز الخدمات.

وبحسب تقديرات غير رسمية، فإن تكلفة إنشاء مصنع سيارات بطاقة إنتاجية 200 ألف سيارة سنويا تتراوح بين مليار دولار وملياري دولار. وبالتالي، فإن المبلغ المخصص من الحكومة لا يكفي وحده لبناء أكثر من مصنع أو اثنين، مما يستدعي ضرورة دخول القطاع الخاص المحلي والأجنبي كشريك رئيس في العملية.

التحديات والفرص أمام صناعة السيارات

تواجه صناعة السيارات في مصر عدد من التحديات، أبرزها:

1- محدودية السوق المحلية: على الرغم من التعداد السكاني الذي يتجاوز 108 ملايين نسمة، فإن عدد المركبات في مصر لا يتجاوز 10 ملايين مركبة، مما يشير إلى ضعف في الاستهلاك مقارنة بدول أخرى أقل عددا وأكثر كثافة في استخدام المركبات.

.أ.ف.ب
سوق للسيارات المستعملة في الضاحية الشرقية لمدينة القاهرة، 25 أكتوبر 2025

2- غياب العلامات التجارية الكبرى: لا توجد مصانع مملوكة مباشرة لشركات مثل "تويوتا" أو "فولكس فاغن" أو "فورد" في مصر، مما يحد من إمكان نقل التكنولوجيا، وتطوير خطوط الإنتاج.

3- ضعف الصناعات التكميلية: على الرغم من وجود أكثر من 200 مصنع للصناعات التكميلية في القطاع، فإن قدرتها على تلبية متطلبات الجودة والكمية لا تزال محدودة، مما يفرض على المصانع الاعتماد على الاستيراد.

4- مستويات الأسعار المرتفعة: حتى بعد التصنيع المحلي، تظل الأسعار مرتفعة نسبيا، مما يجعل السيارات المجمعة غير جاذبة للمستهلك المصري الذي يبحث عن سيارة بسعر مناسب وجودة مقبولة.

ما هي الفرص الواعدة؟

وفي المقابل، هناك فرص واعدة، أبرزها:

1- الموقع الجغرافي المتميز لمصر، الذي يسمح بتصدير السيارات إلى أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا.

2- الاتفاقات التجارية المتعددة، مثل اتفاقية الكوميسا، التي تتيح دخول الأسواق الأفريقية دون رسوم جمركية.

3- توجه عالمي نحو السيارات الكهربائية، مما يمنح مصر فرصة للتميز إذا ما ركزت عليه مبكرا.

صناعة واعدة تحتاج الى استثمارات أجنبية

إن الرغبة السياسية في تحويل مصر إلى مركز إقليمي لصناعة السيارات موجودة، كما أن الحوافز متاحة، والاستراتيجيات واضحة. لكن العنصر الحاسم الذي لا يزال غائبا هو الاستثمار الأجنبي المباشر، خصوصا من شركات تصنيع كبرى لديها القدرة على نقل التكنولوجيا، وضخ رؤوس الأموال، وتدريب الكوادر.

في غياب هذا العنصر، ستظل صناعة السيارات في مصر تدور في فلك التجميع المحدود، من دون تحقيق طموحات التصدير المطلوبة أو القفزة النوعية في الجودة والإنتاج. وإذا أرادت مصر فعلا أن تحذو حذو المغرب أو جنوب أفريقيا، فعليها أن تفتح الباب واسعا أمام الشراكات الدولية، وتبني نموذجا إنتاجيا حديثا يرتكز على الجودة، والتنافسية، والاستدامة.

font change

مقالات ذات صلة