في الشهر الماضي، بدت المفاوضات السورية-الإسرائيلية أقرب ما تكون إلى تحقيق تقدم ملموس. فبعد أشهر من المحادثات السرية، أعلنت السلطات الانتقالية السورية رسميا عقد أول اجتماع مباشر ورفيع المستوى مع مسؤولين إسرائيليين في باريس. وشارك الوفد السوري، برئاسة وزير الخارجية أسعد الشيباني، في محادثات مع الجانب الإسرائيلي بوساطة أميركية هدفت إلى بحث إمكانية التوصل إلى ترتيب أمني يخفف حدة التوتر.
وقد عكست طبيعة هذه المحادثات غير المسبوقة في الذاكرة الحديثة وجود زخم يدفع المسار إلى الأمام، وسرعان ما ظهرت تكهنات بإمكانية إبرام اتفاق قبل الخطاب المرتقب للرئيس المؤقت أحمد الشرع أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أواخر سبتمبر/أيلول. غير أن فرص تحقيق اختراق حقيقي أخذت تتراجع تدريجيا، بعد أن بدلت العمليات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة داخل سوريا مسار التوقعات، وأسفرت عن مقتل عدد من عناصر الجيش السوري. ورغم أن البعض اعتبر هذا التصعيد تراجعا مفاجئا، فإنه لم يكن مستبعدا تماما.
لقد أكد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على الدوام أن السلام الإقليمي لا يتحقق إلا بالقوة. وفي هذا السياق، جاء تصعيد العدوان الإسرائيلي الأخير ليؤكد ثبات هذه العقيدة وليس الانحراف عنها. إن الإصرار على اتباع نهج "السلام بالقوة"، من دون مبررات حقيقية، يقوض فرص التوصل إلى سلام.
استراتيجية "تصفير المشاكل" السورية
منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، اتبعت الحكومة الانتقالية السورية بقيادة الرئيس أحمد الشرع نهجا مختلفا بوضوح في الدبلوماسية الإقليمية. فقد أوضح الشرع أن سوريا "لا تشكل تهديدا لأحد"، وأن حكومته لن تسعى إلى مواجهة مع إسرائيل، بل ستركز جهودها على الحوار والسيادة والرقابة الدولية لا على الحرب.
وقد أتاح هذا التحول سلسلة من المحادثات المباشرة وغير المباشرة مع إسرائيل، بوساطة دول عدة منها أذربيجان والولايات المتحدة، وتوجت في باريس عندما جلس وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني وجها لوجه مع وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، في لقاء غير مسبوق أقرت به دمشق علنا.
وعبرت سوريا، بقيادة الشرع، عن موقفها التفاوضي بوضوح. فالأولوية بالنسبة لدمشق هي استعادة وحدة أراضيها ومنع التدخل الأجنبي في شؤونها الداخلية. ورفض الشرع صراحة نموذج اتفاقيات إبراهام، التي أدت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية دون معالجة الخلافات الجوهرية. وقال: "الوضع السوري مختلف. لدينا أراض محتلة في مرتفعات الجولان."
ويرى الشرع أن الهدف الحالي هو التوصل إلى اتفاق يعيد إحياء المبادئ الأساسية لاتفاقية فض الاشتباك لعام 1974، وهو اتفاق يقوم على إجراءات لبناء الثقة بين الجانبين وترسيخ الاستقرار في جنوب سوريا. ويؤكد أنه عندها فقط يمكن دفع المفاوضات نحو تسوية أشمل تعالج احتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان.
منذ الإطاحة بالأسد، وسعت إسرائيل هجماتها ووجودها على الأراضي السورية، واستولت على أراض جديدة وأقامت قواعد عسكرية
العدوان بدل المشاركة
لم ترد تل أبيب بالمثل على هذا التحول في الخطاب. فمنذ الإطاحة بالأسد، وسعت إسرائيل هجماتها ووجودها على الأراضي السورية، واستولت على أراض جديدة وأقامت قواعد عسكرية. وفي خطوة مثيرة للجدل، سعت أيضا إلى التأثير في المشهد الداخلي السوري من خلال مطالبتها بمنطقة منزوعة السلاح في جنوب البلاد.
وترى دمشق في هذا المطلب مساسا بجوهر سيادتها. وقد برزت السويداء على وجه الخصوص كبؤرة توتر، حيث قادت القوات السورية هجوما على المحافظة لفرض سيطرتها في يوليو/تموز، فوقعت اشتباكات عنيفة وانتهاكات واسعة النطاق. وردت إسرائيل بغارات جوية استهدفت القوات السورية في الجنوب، ولم تقتصر على ذلك بل طالت أيضا مؤسسات سيادية في العاصمة دمشق، من بينها مبنى وزارة الدفاع.
ورغم هذا العدوان، واصلت دمشق محادثاتها مع إسرائيل في محاولة لتجنب مزيد من التصعيد. وكان إرسال وزير خارجيتها إلى باريس والإعلان العلني عن المحادثات إشارة واضحة من الشرع إلى التزامه بالسعي نحو اتفاق. لكن بدلا من الرد بالمثل، صعدت إسرائيل من عملياتها ونفذت عدة هجمات عسكرية في سوريا، أبرزها الغارة الجوية في ريف دمشق التي أودت بحياة أكثر من ستة جنود سوريين.
وهذا يبرز التباين العميق في مقاربة الطرفين لهذه العملية: فبالنسبة لسوريا، تشكل المحادثات وسيلة للحد من الصراع وتثبيت السيادة؛ أما بالنسبة لإسرائيل، فهي امتداد لاستراتيجيتها القائمة على الإكراه.
يرسل الموقف الأميركي الحذر إشارات إلى إسرائيل بأنها قادرة على مواصلة استراتيجيتها القائمة على "السلام بالقوة" من دون حساب للعواقب
"السلام بالقوة"
لم يخف نتنياهو نواياه ورؤيته للعالم. فمن غزة إلى لبنان إلى سوريا، تمسك على الدوام بمبدأ "السلام بالقوة" ودافع عنه بشدة. وقد عبّر اجتماعه الأخير مع زعماء الدروز داخل إسرائيل عن الرسالة نفسها، حين أكد أن على إسرائيل تأمين حدودها عبر الهيمنة العسكرية ورسم الواقع السياسي على طول حدودها الشمالية.
لكن هذا النهج فشل في إنهاء أي من صراعات إسرائيل المستمرة، وهو الآن يهدد بفتح الطريق أمام صراع جديد مع سوريا. فإصرار إسرائيل على استخدام القوة تترتب عليه عواقب استراتيجية وسياسية بالنسبة لسوريا. فمع كل هجوم تنفذه إسرائيل تتراجع مكانة الشرع في الداخل، مما يقوض جهوده الدبلوماسية ويمنح المتشددين ذريعة لاعتبار المفاوضات طريقا مسدودا.
وإذا تمادت إسرائيل في عدوانها، فقد يخسر الشرع المصداقية الداخلية التي يحتاج إليها للإبقاء على المفاوضات قائمة، مما يوسع الهوة بين الطرفين ويهدد استقرار العملية ويضيق مساحة التسوية. والأسوأ أن البيئة الأمنية الهشة، التي يغلب عليها الغضب الشعبي وانتشار السلاح بلا ضوابط، قد تتيح لجهات ناشئة في الداخل السوري شن هجمات خاصة ضد القوات الإسرائيلية، بما يرفع خطر انزلاق الوضع إلى تصعيد أوسع وخارج عن السيطرة.
الدبلوماسية في ظل انعدام النفوذ
ما يجعل مبدأ "السلام بالقوة" الذي يتبناه نتنياهو بالغا في خطورته هو الاختلال الواضح في ميزان القوى بين الجانبين. ونادرا ما تنجح المفاوضات عندما يميل الميزان بهذا الشكل الفادح. فإسرائيل تدخل إلى المحادثات وهي تمتلك تفوقا عسكريا كاسحا وإرادة معلنة لاستخدامه، في حين تخرج سوريا من حرب أهلية طويلة وتعيش مرحلة انتقالية هشة، وتفتقر إلى النفوذ الذي يمكّنها من فرض أثمان أو انتزاع تنازلات.
ولا ينعكس هذا التباين على مواقف التفاوض فحسب، بل أيضا على الثقة التي يتعامل بها كل طرف عند الجلوس إلى الطاولة. فإسرائيل تستطيع قصف أهداف سورية حتى أثناء سير المفاوضات دون خشية انهيارها، بينما تضطر سوريا إلى حساب كل خطوة بدقة لتجنب تصعيد قد يعصف بمؤسساتها المرهقة.
ويزيد غياب وسيط موثوق من حدة التحديات. فرغم أن الولايات المتحدة لعبت دورا في جمع الأطراف، فإنها لم تُبد الإرادة أو القدرة الكافية للضغط على إسرائيل من أجل تسوية حقيقية. وقد وصف المسؤولون الأميركيون المحادثات بأنها "إيجابية"، لكنهم تجنبوا دعوة إسرائيل إلى كبح عملياتها العسكرية.
وبذلك يرسل الموقف الأميركي الحذر إشارات إلى إسرائيل بأنها قادرة على مواصلة استراتيجيتها القائمة على "السلام بالقوة" من دون حساب للعواقب. والنتيجة عملية تفاوض يسعى فيها طرف واحد إلى فرض شروط لا يمكن للطرف الآخر قبولها من دون أن يعرّض موقعه السياسي للخطر.
الشرق الأوسط لا يحتاج إلى المزيد من عمليات السلام، بل إلى عملية واحدة قادرة على تحقيق نتائج فعلية
الجمود في الحركة
ولكن على الرغم من هذه التحديات، من المرجح أن تستمر المفاوضات بين سوريا وإسرائيل، ولن يكون دافعها التفاؤل بقدر ما تكون القيود الصارمة التي يفرضها الواقع الجغرافي والأمني. ولكن إذا كان لهذه المحادثات أن تفضي إلى نتائج مجدية، فحسن النوايا وحده لن يكون كافيا، ولاسيما إذا كان يتدفق في اتجاه واحد فقط. فالتقدم الحقيقي يحتاج تغييرا في الظروف الأساسية: وضع حد للتصعيد الإسرائيلي، ووجود وساطة دولية موثوقة، والاعتراف بهشاشة المشهد الداخلي السوري. وفي غياب هذه العوامل، ثمة خطر حقيقي بأن تصبح الدبلوماسية مجرد تمثيلية أو استعراض للمواقف لا أكثر، مما يترك المنطقة عرضة لتجدد الصراع.
إن القيود المفروضة على العملية الحالية تفصح عن فشل هيكلي أوسع. فهي تفضح بنية حل النزاعات الجوفاء في المنطقة، حيث الاتفاقيات الملزمة نادرة، وآليات التنفيذ ضعيفة، والمشاركة متعددة الأطراف عرضية في أحسن الأحوال. وإذا ما بقي سيف العمل العسكري الأحادي مسلطا على الدبلوماسية، فسوف تبقى ضعيفة وعرضة للخطر، وغير فعالة إلى حد كبير.
وإذا سُمح لهذه اللحظة بالانزلاق إلى فرصة ضائعة أخرى، فسوف يمتد الضرر إلى ما هو أبعد من سوريا، وسوف يصبح أمرا طبيعيا ومقبولا نموذج المفاوضات الشكلية التي لن يكتب لها النجاح مطلقا. لكن الشرق الأوسط لا يحتاج إلى المزيد من عمليات السلام، بل إلى عملية واحدة قادرة على تحقيق نتائج فعلية.