ترمب يخطط للسيطرة على الاحتياطي الفيديرالي… لا مجرد خفض الفائدة

مصادرة استقلاليته والتحكم بقرارات مجلسه وبالسياسة النقدية للولايات المتحدة

المجلة
المجلة

ترمب يخطط للسيطرة على الاحتياطي الفيديرالي… لا مجرد خفض الفائدة

بعد صدور قرار المحكمة العليا الأميركية في 22 مايو/أيار الماضي، الذي أكد "الهيكلية الفريدة" لبنك الاحتياطي الفيدرالي التي تحمي أعضاء مجلس الحاكمية، خصوصا رئيسه، من الإقالة التعسفية من قبل رئيس البلاد، عدّل الرئيس دونالد ترمب خطته للضغط على رئيس الفيديرالي جيروم باول لخفض معدل الفائدة، بالتركيز على محورين:

الأول: نفقات مشروع تجديد مقر الاحتياطي الفيديرالي في واشنطن، والتي يعتبرها ترمب مكلفة للغاية بحيث تقلل أرباح الاحتياطي الصافية المقررة لوزارة الخزانة الأميركية، وهو ما قد يوفر له مدخلا قانونيا لإقالة باول.

الثاني: إقالة ليزا كوك من عضوية مجلس الحاكمية بعد اتهامها بتزوير وثائق للحصول على قرض عقاري، والدعوة لاختيار مرشحين بديلين مؤيدين لخفض معدل الفائدة: كوك على الرغم من اعتراضها القضائي على الإقالة، وأدريانا كوغلر التي سبق لها أن استقالت من المجلس.

علما أن اثنين من أعضاء المجلس، كريستوفر والر وميشيل بومان، وكلاهما عينه ترمب في ولايته الأولى، صوتا في الاجتماع الذي تلا الاستقالة ضد إبقاء معدل الفائدة على حاله، وأوصيا بخفضه.

وقد أوضحت بومان أن بيانات الوظائف تعزز قرار خفض معدل الفائدة الذي سيحمي من تدهور إضافي في سوق العمل وفي النشاط الاقتصادي، وأن أخطار التضخم تراجعت، وأن تأثير الرسوم الجمركية الجديدة على الأسعار بات في نظرها محدودا. توجه لم توافق عليه غالبية المجلس التي صوتت على إبقاء معدل الفائدة في انتظار بيانات اكثر وضوحا.

شهد التاريخ الأميركي عددا من الحالات المماثلة لتصرف ترمب، أشهرها الضغوط التي مارسها الرئيس ليندون جونسون على رئيس الاحتياطي الفيديرالي ويليام مارتن الإبن لإبقاء معدل الفائدة منخفضا حتى لا يشعر الناس بتكلفة الحرب في فيتنام

شهد التاريخ الأميركي عددا من الحالات المماثلة لتصرف ترمب، أشهرها الضغوط التي مارسها الرئيس ليندون جونسون على رئيس الاحتياطي الفيديرالي ويليام مارتن الإبن لإبقاء معدل الفائدة منخفضا حتى لا يشعر الناس بتكلفة الحرب في فيتنام، مما يسهل عليه الترشح مجددا لانتخابات عام 1968، في حين كان جونسون متخوفا من ظهور "علامات مقلقة" تقارب في نظره بين اقتصاد الستينات وعشرينات القرن الماضي الصاخبة التي سبقت الكساد الكبير، لذا كانت رغبته تهدئة الانفاق من خلال رفع معدلات الفائدة.

كذلك مارس الرئيس ريتشارد نيكسون ضغوطا على رئيس الاحتياطي الفيديرالي آرثر بيرنز للحفاظ على معدل فائدة منخفض قبل انتخابات عام 1972، فعقد معه 160 اجتماعا خلال سنوات ولايته الست، بينما بلغ عدد اجتماعات الرئيس السابق بيل كلينتون بمسؤولي الاحتياطي الفيديرالي خلال فترة رئاسته التي استمرت ثماني سنوات ست اجتماعات فقط.

أ.ف.ب.
جيروم باول رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، يتحدث إلى وسائل الإعلام في مقر البنك ،واشنطن 30 يوليو 2025

وشهدت البرازيل أخيرا جدلا حول معدلات الفائدة مشابه الما يحدث في دول أخرى، بين رئيسها لولا دا سيلفا وحاكم المصرف المركزي السابق روبرتو كامبوس نيتو، الذي انتهت ولايته نهاية العام الماضي، وحل محله مطلع هذا العام غابرييل موريكا غاليبولو. ومثلما فعل ترمب، وجّه لولا انتقادات حادة للحاكم السابق، واصفا سلوكه بأنه "غير مألوف ويفتقر إلى الاستقلالية، ذو توجه سياسي، ويضر بالبلاد أكثر مما ينفعها، كما أن معدل الفائدة المرتفع يعيق القطاعات الإنتاجية ويخنق النمو الاقتصادي ويقوض أجندة الحكومة". وهدد بأنه سيعيّن بديلا "ناضجا وذا خبرة ومسؤولية، يحترم المنصب ولا يخضع لضغوط السوق"، لكنه لم ينفذ تهديده.

الطبيعة المالية والنقدية للخلاف بين ترمب وباول

يشكل الخلاف بين ترمب وباول حول معدل الفائدة حلقة جديدة من سلسلة الأزمات الناشئة بين الحكومات والمصارف المركزية، خصوصا مع تنامي مهمات هذه المصارف وتمسك القائمين عليها باستقلاليتهم تجاه حكوماتهم، على الرغم من أنهم غير منتخبين من الشعب. ويأتي هذا في إطار ما يُنسب إلى المصرفي ماير أمشيل روتشيلد: "أعطني سلطة الرقابة على إصدار النقد وسأريك كيف أتجاوز هؤلاء الذين يصنعون القوانين".

 دفعت الأزمة المالية في عام 2008 إلى تحمل المصارف المركزية مهمات جديدة أهمها التنظيم الاحترازي على المستويين الجزئي والكلي

تتعدد الأسباب التاريخية الداعية إلى تدعيم استقلالية المصارف المركزية. البداية كانت في إبعاد هذه المؤسسات عن تمويل المجهود الحربي وعن المشاركة المباشرة بالدين العام. فكان دورها الرئيس ضمان استقرار القيمة الخارجية للنقد، ثم العمل كمقرض الملاذ الأخير وتأمين الاستقرار في الأسعار وسوق العمل، وكذلك استقرار الاقتصاد الكلي والاستقرار المالي. وقد دفعت الأزمة المالية في عام 2008 إلى تحمل المصارف المركزية مهمات جديدة أهمها التنظيم الاحترازي على المستويين الجزئي والكلي واستخدام تدابير وصفت بأنها غير تقليدية تعززت بمقتضاها ميزانياتها العمومية عبر شراء الأوراق المالية السيادية بهدف توفير السيولة ودعم استقرار الأسعار والنمو.

Shutterstock
استمرار تراجع الدولار على وقع قرارات ترمب

أدى هذا التطور إلى تلاشي الخط الفاصل بين السياسة النقدية والسياسة المالية، بحيث أصبح أي تراجع في الطلب على الأوراق المالية ينعكس بارتفاع أسعار الفائدة الطويلة الأجل، ويؤثر سلبا على تكلفة تمويل الدين. ومع ذلك، لم تصحب المهام الإضافية وتطبيق الأدوات الجديدة أي مراجعة لحوكمة المصارف المركزية، مما يخفف وطأة استقلالية القائمين عليها من خلال تعزيز المساءلة وتشديد الرقابة الديمقراطية، أو عبر تعزيز التنسيق مع الحكومة في صنع القرار. ومن بين الاقتراحات المطروحة في هذا الإطار، ضم عضو من الحكومة إلى اجتماعات السياسات النقدية بهدف التنسيق، من دون السماح له بالتصويت على القرارات، أي أن تتمكن الحكومة من التعليق على السياسة النقدية بالطريقة التي يمكن المصرف المركزي التعليق فيها على السياسة المالية.

جدال استقلالية المصارف المركزية

يظهر هيكل الاحتياطي الفيديرالي الأميركي بوضوح أنه صمم لضمان أفضل استقلالية له عن الضغوط السياسية. فهو وكالة مستقلة لا تتلقى أي تمويل أو مخصصات من الكونغرس. وليس جزءا من السلطات التنفيذية أو التشريعية أو القضائية للحكومة. ولا تتغير قيادته بانتخاب رئيس أميركي جديد أو كونغرس جديد. ويعين أعضاء مجلس محافظيه لفترات مدتها 14 عاما لفصلهم عن الدورة الانتخابية.

لكن الاقتصادي الشهير ميلتون فريدمان يشك في قدرة بلاده أو أي دولة أخرى على إدارة مصرف مركزي مستقل بالمعنى الكامل للكلمة. فبمجرد أن ينشأ صراع جدي وعميق بين مصالح السلطات المالية الحريصة على جمع الأموال ومصالح السلطات النقدية الحريصة على عرض العملة، يكون المصرف المركزي هو الجهة المتنازلة في معظم الأحيان وليس العكس.

يرى الاقتصادي الأميركي ويليام نوردهاوس حامل جائزة نوبل للاقتصاد أن الحكومات عادة ما تضغط على مصارفها المركزية لاتباع سياسات نقدية توسعية لزيادة العمالة والنشاط الاقتصادي على المدى القصير، بهدف تحقيق نجاحات سياسية، غير آبهة بالآثار التضخمية المحتملة

ويرى الاقتصادي الأميركي ويليام نوردهاوس حامل جائزة نوبل للاقتصاد أن الحكومات عادة ما تضغط على مصارفها المركزية لاتباع سياسات نقدية توسعية لزيادة العمالة والنشاط الاقتصادي على المدى القصير، بهدف تحقيق نجاحات سياسية، غير آبهة بالآثار التضخمية المحتملة، وأهمها عدم الاستقرار الاقتصادي على المدى الأبعد. وهو ما يتعارض مع السياسات النقدية للمصارف المركزية التي ترسم عادة لضبط استقرار الأسعار لآجال متوسطة وطويلة. تعبر عن هذا الأمر بوضوح المادة المعنونة "أهداف السياسة النقدية" في قانون الاحتياطي الفيديرالي الأميركي، حيث تشير إلى فكرة "الأجل المديد" ثلاث مرات في نص المادة الذي يتحدث عن "حرص مجلس محافظي نظام الاحتياطي الفيديرالي ولجنة السوق المفتوحة الفيديرالية (FOMC) على الحفاظ على النمو 'الطويل الأجل' للمجموعات النقدية والائتمانية بما يتناسب مع إمكانات الاقتصاد على 'المدى الطويل' لزيادة الإنتاج، وذلك لتعزيز أهداف الحد الأقصى من العمالة واستقرار الأسعار وأسعار الفائدة المعتدلة 'الطويلة الأجل' بشكل فعال". وذلك من دون تحديد أي أرقام، ما يعني أنه يعود للاحتياطي الفيديرالي ولجنته تحديدها.

الرقابة من مسؤولية الكونغرس وليس ترمب

استنادا الى النص السابق، تقع على عاتق الكونغرس الأميركي، وليس رئيس البلاد كما يفعل ترمب، مهمة الرقابة على الاحتياطي الفيديرالي والتأكد من أدائه مهامه الدستورية. وفي هذا الإطار يقول الرئيس الأسبق للاحتياطي الفيديرالي بن برنانكي: "سنفعل ما يأمرنا به الكونغرس، وإذا كان غير راض عن إجراءاتنا فلديه سلطة إجبارنا على التصرف بشكل مختلف".

أ.ف.ب.
الرئيس الأميركي دونالد ترمب

مع ذلك، لا يوجد قانون صريح يفرض عقوبات على رئيس الاحتياطي الفيديرالي إذا لم تتحقق الأهداف، على عكس قوانين بعض الدول الأخرى. ففي المملكة المتحدة، تحدد الحكومة التضخم المستهدف، ويتعين على محافظ بنك إنكلترا إرسال خطاب إلى وزير الخزانة عند انحراف التضخم عن الهدف لأكثر من نقطة مئوية لشرح الأسباب. أما في نيوزيلندا، فتحدد الحكومة التضخم المستهدف أيضا، ويمكن مراجعة الهدف خلال فترة ولاية المحافظ، الذي قد يُعفى من منصبه إذا فشل في تحقيقه.

في منطقة اليورو، تكاد الرقابة الديمقراطية على المصرف المركزي الأوروبي تكون غائبة، ويقتصر دور البرلمان الأوروبي على جلسة استماع ربع سنوية لرئيس المصرف، دون أي سلطة للضغط أو فرض التزامات.

هل حجج الاحتياطي الفيديرالي قاطعة؟

لا تثبت حجج الاحتياطي الفيديرالي بأنها قاطعة، خصوصا عندما تصبح ديناميكيات الدين العام المهيمنة في مثل الظروف الراهنة، مما يجعل قدرة الاحتياطي الفيديرالي على التحكم في الأسعار مرتبطة باستدامة الدين. يشكل بذلك عمليا نظامين لتحديد الأسعار: نظام الهيمنة النقدية ونظام الهيمنة المالية. وقد تؤدي السياسة النقدية الأكثر تشددا إلى تفاقم صعوبة استدامة الدين، عبر تأثيرها على عبء الفائدة وإجبار الحكومة على اعتماد سياسة مالية أكثر تشددا.

خلال أزمة عام 2008، تدخل الاحتياطي الفيديرالي لإنقاذ "بير ستيرنز" وسمح في المقابل بانهيار "ليمان براذرز"، مما أثار وقتها تساؤلات حول حقيقة استقلاليته التي يتشدق بها حاليا باول في نزاعه مع الرئيس ترمب

كذلك، ينص مبدأ "مقرض الملاذ الأخير" على أن تقرض المصارف المركزية مؤسسات الائتمان التي تفتقر إلى السيولة، ولكن لا يجوز لها التدخل عند تعسر إحداها، فهذه الحالة تستدعي توزيع تكاليف الإعسار بين المساهمين والدائنين ودافعي الضرائب. والقرار يجب أن تتخذه جهة مسؤولة أمام دافعي الضرائب، أي الحكومة، كونه يتعلق بالموازنة العامة. لكن خلال أزمة عام 2008، تدخل الاحتياطي الفيديرالي لإنقاذ "بير ستيرنز" وسمح في المقابل بانهيار "ليمان براذرز"، مما أثار وقتها تساؤلات حول حقيقة مفهوم الاستقلالية وحدودها وشروطها.

المخطط الذي يعمل عليه فريق ترمب

يكشف ترشيح الرئيس ترمب لرئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض ستيفن ميران، لشغل المنصب الشاغر في مجلس إدارة الاحتياطي الفيديرالي بعد استقالة أدريانا كوغلر، أن مخططه يتجاوز مجرد تعيين مناصرين له في موضوع خفض معدل الفائدة، ليشمل تعديل هيكل الاحتياطي الفيديرالي واستقلاليته ودوره المركزي في السياسة النقدية لمزيد من السيطرة عليه.

أ.ف.ب.
استمرار أعمال الصيانة في مبنى البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، واشنطن 6 أغسطس 2025

طالب ميران سابقا بإعادة تنظيم طريقة التصويت وعملية التعيين في الاحتياطي الفيديرالي وربطهما بشكل أوثق بتوجهات الحكومة. واقترح العام الماضي، بصفته زميلا في معهد مانهاتن المحافظ، إصلاحا شاملا لحوكمة الاحتياطي الفيديرالي يتضمن تسهيل إقالة أعضاء مجلس المحافظين من قبل رئيس البلاد. وذكر في ورقة بحثية أن التفكير الجماعي في الحوكمة الحالية أدى إلى "أخطاء جسيمة في السياسة النقدية".

يشير ذلك إلى أن المرحلة المقبلة لن تكون مجرد صراع شخصي بين الرئيس والاحتياطي الفيديرالي، بل مرحلة سعي من قبل ترمب وفريقه لممارسة مزيد من السيطرة على إحدى أهم الوكالات الفيديرالية المستقلة القليلة المتبقية. وقد بدا هذا التوتر واضحا خلال اجتماع "جاكسون هول" في أغسطس/آب الماضي، حيث قوبل باول بالتصفيق وقوفا من المشاركين لوقت طويل. وحذرت رئيسة المصرف المركزي الأوروبي، من "خطر تقويض استقلالية المصرف المركزي وفرض القيام بأمور لا ينبغي له اتخاذها، الأمر الذي قد يؤدي إلى اضطراب وعدم استقرار، أو الى نتائج أسوأ من ذلك".

font change