"جاكسون هول"… باول يمشي على الحافة والأسواق تحتفل

توقعات بخفض الفائدة وإقالة ليزا كوك تؤشر الى ضغوط سياسية متصاعدة على بنك الاحتياطي الفيديرالي

أ.ف.ب.
أ.ف.ب.
من اليمين، رئيس المجلس الاحتياطي الفيديرالي الأميركي جيروم باول، نظيره الياباني كازو أويدا، رئيسة البنك المركزي الأوروبي كرستينا لاغارد، ورئيس بنك انكلترا آندرو بيلي، اثناء منتدى جاكسون هول، في مدينة موران 22 أغسطس 2025

"جاكسون هول"… باول يمشي على الحافة والأسواق تحتفل

عندما اعتلى رئيس مجلس الاحتياطي الفيديرالي جيروم باول المنصة في منتدى "جاكسون هول" لحكام المصارف المركزية هذا الشهر، كان المستثمرون يعيشون على أعصابهم. خلال سنة من البيانات المتذبذبة حول النمو، وضغوط تضخمية عنيدة، وضوضاء سياسية متصاعدة، مما جعل الأسواق متعطشة إلى الوضوح. وعلى الرغم من ذلك، ما حصلت عليه لم يكن حاسماً، بل أداء محسوب بعناية: أوضح باول أن بنك الاحتياطي الفيديرالي يراقب هشاشة سوق العمل وقد يتجه قريباً نحو التيسير النقدي، لكنه تجنب الالتزام الصريح خفض معدلات الفائدة.

بالنسبة إلى "وول ستريت" والأسواق المالية الأخرى، كان ذلك كافيا. قفزت المؤشرات، وانخفضت عوائد سندات الخزانة، وانتعش الذهب، وبدأ المستثمرون حول العالم في العمل وفق توقع بحصول رابع خطوة تيسير نقدي منذ انطلاق دورة التشديد بعد جائحة كوفيد-19. لكن وراء هذا النشوة، كشف الخطاب عن تحوّل أعمق في السياسة النقدية الأميركية، وعن هشاشة استقلالية المصرف المركزي في ظل أجواء سياسية محتدمة مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب.

رسالة متوازنة بعناية

كانت كلمة باول، وهي الأخيرة له في "جاكسون هول" قبل انتهاء ولايته في مايو/أيار المقبل، درسا في فنون الخطاب النقدي. فقد شدّد على أن "ميزان الأخطار" قد تغيّر، مع ظهور تهديدات سوق العمل في شكل أوضح. فطلبات إعانات البطالة الأولية ارتفعت إلى أعلى مستوى في قرابة شهرين، وزخم النمو في قطاع الخدمات بدأ يبرد. هذه المؤشرات أعطت الاحتياطي الفيديرالي سببا للتفكير في التيسير.

كان المشهد السياسي حاضرا في "جاكسون هول" مع الحملات المتصاعدة للرئيس ترمب على سياسات الاحتياطي الفيديرالي، مما يثير مخاوف حول استقلاليته. رد جيروم باول كان تأكيده أن قرارات المصرف تحكمها المؤشرات والبيانات

لكن باول أكد في الوقت نفسه أن القرارات ستظل رهينة بالبيانات. ستكون تقارير التضخم والوظائف الخاصة في سبتمبر/أيلول، المتوقع صدورها قبل اجتماع لجنة السوق المفتوحة الفيديرالية، عاملا حاسماً وبتجنب باول الالتزام المسبق، أبقى مرونته، وفي الوقت ذاته قدّم إلى الأسواق ما يكفي لطمأنتها.

ولعل الأهم كان تطور إطار سياسة الاحتياطي الفيديرالي. فالتحوّل عام 2020 إلى استهداف "متوسط" للتضخم – الذي سمح لمعدل التضخم بأن يتجاوز قليلا نسبة اثنين في المئة لبعض الوقت – يبدو أنه بلغ نهايته. لقد ألمح باول إلى العودة نحو استهداف "مرن" للتضخم، وتقليل التسامح مع أي تجاوزات، وتعزيز صدقية الاحتياطي الفيديرالي في مواجهة التضخم. هذا التغيير قد يرسم ملامح السياسة النقدية لسنوات مقبلة.

ظلال ضغوط ترمب المستمرة

كان المشهد السياسي حاضرا في منتدى "جاكسون هول" مع الحملات المتصاعدة للرئيس ترمب على سياسات الاحتياطي الفيديرالي، مما يثير مخاوف حول استقلاليته. آخرها، أمس، قرار الرئيس ترمب إقالة ليزا كوك "بأثر فوري" على خلفية شبهات تتعلق بعملية احتيال في رهن عقاري. وتُعدّ كوك أول امرأة أميركية من أصل إفريقي تشغل عضوية مجلس الاحتياطي الفيديرالي، ما ينذر ببدء معركة قضائية طويلة قد تعيد رسم حدود استقلالية البنك المركزي الأميركي ودور الرئيس في السياسة النقدية.

وقد رفضت كوك إقالتها وقالت: "لا توجد أسباب بموجب القانون، وليست لديه (ترمب) سلطة" لذلك.

بالعودة الى خطاب باول في جاكسون هول، رد باول في شكل غير مباشر على الرئيس ترمب، مؤكدا أن قرارات المصرف "مدفوعة بالبيانات". لكن المشهد السياسي كان حاضرا بقوة، والعديد من المشاركين في المنتدى أبدوا قلقهم من الضغوط السياسية على المصارف المركزية في عصر الشعبوية المتزايدة.

رويترز
رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جيروم باول لدى وصوله منتدى جاكسون هول، في مدينة موران، الولايات المتحدة الأميركية 21 أغسطس 2025

إلى جانب الظلال السياسية الأميركية، تطرّق المتحدثون إلى تحديات هيكلية وديموغرافية، ومن بينها الاعتماد المتزايد على العمالة المهاجرة لدعم الاقتصادات في مواجهة شيخوخة السكان. وهي من الأمور التي ستعقّد التوجهات البعيدة الأجل رسم السياسات النقدية لسنوات عديدة.

انتعاش أسواق الأسهم والسندات

في المقابل، التقطت الأسواق توازن لهجة باول، واعتبرتها إشارات التفاؤل. حلّقت مؤشرات "وول ستريت" في الساعات التي تلت تصريحاته: ارتفع مؤشر "داو جونز الصناعي" بنسبة 1.89 في المئة مسجلا مستوى قياسيا، وصعد مؤشر "ستاندرد أند بورز 500" بنسبة 1.52 في المئة، وأضاف مؤشر "ناسداك" 1.88 في المئة، وذلك قبل أن تتراجع المؤشرات في الأيام التالية.

لا تعني الحماسة أن الطريق ممهدة بالكامل. فالديون التي يحصل عليها المتعاملون بغرض الاستثمار في الولايات المتحدة، التي بلغت مستوى قياسيا بلغ تريليون دولار في يوليو/تموز ما يعكس أخطار الأسواق

كذلك انتعشت أسواق السندات. فقد هبط العائد على سندات الخزانة لأجل سنتين – الأكثر حساسية لتوقعات السياسة النقدية – إلى 3.69 في المئة وهو أدنى مستوى له منذ منتصف أغسطس/آب، بينما تراجع العائد على السندات القياسية لأجل 10 سنوات إلى 4.26 في المئة. وسجّلت صناديق المؤشرات المتداولة للسندات أفضل يوم لها منذ أشهر مع رهان المستثمرين على سياسة نقدية أكثر تساهلا في المرحلة المقبلة. كذلك اندفع الذهب صعودا في اتجاه 3,386 دولارا للأونصة، في انعكاس لتراجع توقعات العوائد الحقيقية واستمرار جاذبيته كملاذ آمن.

وأعادت سوق العقود الآجلة بسرعة احتساب توقعاتها لاجتماع الاحتياطي الفيديرالي في سبتمبر/أيلول، فقفز احتمال خفض معدلات الفائدة من نحو 70 في المئة إلى 80 في المئة خلال 48 ساعة. كذلك سارعت مصارف "باركليز" و"بي إن بي باريبا" و"دويتشه بنك" إلى تعزيز توقعاتها في شأن بدء دورة التيسير، في حين تبنّت مؤسسات أخرى مثل "مورغان ستانلي" و"بنك أوف أميركا" نبرة أكثر حذرا، مشيرة إلى أن تعليقات باول مشروطة بالبيانات الاقتصادية المقبلة.

رويترز
من اليمين، رئيس المجلس الاحتياطي الفيديرالي الأميركي جيروم باول، نظيره الياباني كازو أويدا، رئيسة البنك المركزي الأوروبي كرستينا لاغارد، ورئيس بنك انكلترا آندرو بيلي في مدينة موران، الولايات المتحدة الأميركية 22 أغسطس 2025

وعلى الصعيد العالمي، امتد الانتعاش عبر المناطق الزمنية. افتتحت الأسواق الآسيوية جلسة الاثنين التالي للندوة بقفزة سعرية، بينما حققت الأسهم الأوروبية مكاسب قوية. وفي الهند، توقّع محللون أن يستفيد الاقتصاد إذا اتبع بنك الاحتياطي الهندي مسار الاحتياطي الفيديرالي، مما يعزز ترابط السياسات النقدية عالمياً. أما الدولار الأضعف، ولو مؤقتاً، فقد دعم خصوصا أسواق الاقتصادات الناشئة، مخففا الضغوط عن الديون المقومة بالعملات الأجنبية ومفسحا المجال أمام المصارف المركزية التي كانت قد حذت حذو الاحتياطي الفيديرالي في التشديد خلال السنوات الأخيرة.

الهشاشة الكامنة في الديون

ومع ذلك، لا تعني الحماسة أن الطريق ممهدة بالكامل. فالديون الهامشية (الديون التي يحصل عليها المتعاملون بغرض الاستثمار) في الولايات المتحدة – والتي بلغت مستوى قياسيا يساوي 1.02 تريليون دولار في يوليو/تموز – تعكس شدة الميل إلى أخطار الأسواق، حتى وإن كانت المستويات المعدلة للتضخم لا تزال أدنى من الذرى السابقة. ويخشى بعض المستثمرين أن يؤدي هذا الارتفاع في الاستدانة إلى زيادة التقلبات إذا لم يتحقق التيسير النقدي بالسرعة المأمولة.

في هذه الأثناء، تواصل سوق العمل – التي شكّلت أساس لهجة باول الحذرة – إظهار علامات تباطؤ. تشير زيادة طلبات إعانات البطالة إلى تراجع الطلب على العمالة، مما يثير تساؤلات حول قدرة إنفاق الأسر على الصمود مع دخول الفصل الأخير من العام. وإذا تعمّق التباطؤ، فقد يضطر الاحتياطي الفيديرالي إلى خفض معدلات الفائدة في شكل أكبر مما تتوقعه الأسواق حاليا. وفي المقابل، إذا بقي التضخم عنيدا، فقد يخيب باول آمال المستثمرين بإبقاء معدلات الفائدة من دون تغيير.

مع تراجع العوائد، عادت السندات البعيدة الأجل إلى دائرة الاهتمام، وتبقى صدقية المصارف المركزية واستقلاليتها على المحك

وقدّمت أسواق السلع إشارة إضافية إلى التوتر الكامن. في حين استفاد الذهب من توقعات العوائد المنخفضة، شهدت أسعار النفط تذبذبا. وعلى الرغم من أن ضعف الدولار قدّم بعض الدعم، ظل تركيز المتعاملين منصبّا على تباطؤ نمو الطلب في الصين وقرارات تحديد الإمدادات الصادرة عن "أوبك+". أما المعادن الصناعية فشهدت أداء متباينا: استفاد النحاس من ضعف الدولار، لكنه استمر في عكس حالة الوهن في قطاع التصنيع العالمي. وتكشف هذه التناقضات عن التوازن الهش بين التفاؤل المالي وضعف الاقتصاد الحقيقي.

الدروس المستفادة من "جاكسون هول"

من أبرز ما كشفه منتدى "جاكسون هول" وما تلاه من خلاصات:

1- بداية دورة تيسير بشروط: يتوقع المستثمرون خفضا لمعدلات الفائدة في سبتمبر/أيلول، لكن اعتماد الاحتياطي الفيديرالي على البيانات قد يفاجئهم.

2- تحول نحو الأصول العالية الأخطار: تفوقت أسهم الشركات الصغيرة والقطاعات الدورية على أسهم شركات التكنولوجيا العملاقة، مما يعكس رهانات على القطاعات الأكثر حساسية لتكلفة الاقتراض.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب مع رئيس مجلس الاحتياطي الفيديرالي جيروم باول، خلال جولة لتفقد الأشغال في مبنى الفيديرالي، واشنطن 24 يوليو 2025

3- عودة الزخم إلى السندات: مع تراجع العوائد، عادت السندات البعيدة الأجل إلى دائرة الاهتمام.

4- تحركات في العملات والسلع: ضعف الدولار الأميركي مع تزايد الرهانات على خفض معدلات الفائدة، مما خفف الضغط عن الأسواق الناشئة. وانتعش الذهب، فيما بقي النفط والمعادن رهن إشارات النمو من الصين.

بالنسبة إلى المستثمرين، كان وقع كلمات باول حسنا في الأسواق، لكن الصورة الكاملة لم تُعرَف بعد. هشاشة سوق العمل، والتدخلات السياسية، والتحولات الديموغرافية، والتحديات العالمية، كلها ستحدد إيقاع قرارات الاحتياطي الفيديرالي

5- صدقية المصارف المركزية على المحك: عزز تلميح باول إلى تغيير إطار السياسات والتشبث بالاستقلالية وسط الضغوط السياسية التزام الاحتياطي الفيديرالي مكافحة التضخم، لكن بقاء هذه الصدقية في المستقبل غير مضمون.

تنتظرنا أسابيع حاسمة

ستكون الأسابيع المقبلة حاسمة. إذا جاءت بيانات الوظائف والتضخم مطابقة لمخاوف باول حول ضعف سوق العمل من دون إشعال أسعار جديدة، فقد يُقدِم اجتماع الاحتياطي الفيديرالي في سبتمبر/أيلول على الخفض المرتقب. وهذا سيجعل من منتدى "جاكسون هول" نقطة التحوّل من واحدة من أكثر دورات التشديد النقدي في التاريخ الحديث إلى سياسة أكثر تيسيرا.

أ.ف.ب.
تحسن ملحوظ في الأسواق العالمية عقب جلسات منتدى جاكسون هول لحكام المصارف المركزية، بورصة نيويورك 22 أغسطس 2025

لكن الأسواق ربما تستبق الأحداث. إذا عاود معدل التضخم الارتفاع أو أظهر النمو صلابة، فقد يؤجل الاحتياطي الفيديرالي قراره. وهذا قد يصدم المستثمرين الذين توقعوا بالفعل ليس خفضا واحدا فقط، بل عدة خفوضات في نهاية العام.

بالنسبة إلى المستثمرين، الدرس هو الاعتدال. كان وقع كلمات باول حسنا في الأسواق، لكن الصورة الكاملة لم تُعرَف بعد. هشاشة سوق العمل، والتدخلات السياسية، والتحولات الديموغرافية، والتحديات العالمية، كلها ستحدد إيقاع قرارات الاحتياطي الفيديرالي. وكما هي العادة، قدّم جاكسون هول لمحة عن المستقبل – لكنه لم يوفّر اليقين.

font change

مقالات ذات صلة