في ذروة التوتر السياسي وانقسام الشارع الأميركي، كان تشارلي كيرك واقفا يلهب حماس الآلاف بكلماته الحادة على منبر جامعة يوتا فالي. كان خطابه أقرب إلى اندفاع سيل جارف، حين صوّب اتهاماته بقوة نحو "مؤامرة اليسار الليبرالي" ورأى فيها تهديدا لأصالة المجتمع الأميركي: من فرض قيم جديدة ودمج الأقليات، إلى توسع تمكين المثليين والعابرين جنسيا، وتقنين حمل السلاح. وفي اللحظة التي بلغ فيها حماسه ذروته دفاعا عن حرية حق امتلاك السلاح، دوّى صوت رصاصة خاطفة باغتت عنقه، لتغرق القاعة المزدحمة في صمت ثقيل قبل أن يعمّها الهلع والفرار في مشهد يختلط فيه الذهول بفوضى الخوف من كون الحادث عملية إطلاق نار جماعي كتلك التي تشهدها المدارس والجامعات الأميركية بشكل دوري.
من يتابع الشأن الأميركي خلال العقد الماضي يدرك تماما أن اغتيال كيرك ليس إلا حلقة في سلسلة العنف السياسي الذي أدخل الولايات المتحدة في حالة انقسام لم تشهدها منذ ستينات القرن الماضي، بل فاقتها بكثير. ففي فترة الستينات شهدت الولايات المتحدة اغتيال الرئيس جون كينيدي (1963) وأخيه روبرت (1968) والذي كان مرشحا للرئاسة، ومارت لوثر كينج داعية الحقوق المدنية (1968)، وقبله سبقه نسخته المسلمة مالكوم إكس (1963)، والقائمة تطول في تلك الفترة التي حفلت بصراعات عنيفة حول موضوعات الحقوق المدنية والحرب في فيتنام. كانت الاغتيالات السياسية وسيلة لإسكات الأصوات المرفوضة من قبل جهة ما ضد الجهة الأخرى. وقد اندلعت الكثير من أعمال الشغب على خلفية تلك الاغتيالات، خصوصا بعد مقتل كينغ، حيث شهدت مدن مثل ديترويت وشيكاغو ونيوارك اضطرابات دموية.
شرارة الانقسام الحالي
في يونيو/حزيران 2015، انطلق دونالد ترمب في حملته الرئاسية رافعا شعار "جعل أميركا عظيمة مجددا" كراية لثورة سياسية. كان خطابه الناري، الذي ألقاه أمام حشد مشحون بالحماس، يُشعل شرارة الهجوم اللاذع على المهاجرين غير الشرعيين– الذين وصفهم بـ"اللصوص والمجرمين"– وعلى المسلمين والأقليات، مع توجيه انتقادات حادة إلى المؤسسة السياسية التقليدية وخصومه الديمقراطيين، مُدَعِّيا أن "الحلم الأميركي قد مات". وقتها، تعهد ترمب ببناء جدار عملاق على الحدود مع المكسيك، وترحيل ملايين المهاجرين، مستخدما عبارات جريئة ومثيرة للجدل أثارت صدمة واسعة، حيث رآها كثير من المراقبين وقودا لخطاب الكراهية والانقسام العميق في نسيج المجتمع الأميركي.
كانت الانتخابات الرئاسية لعام 2016 نقطة تحوّل في المشهد السياسي الأميركي. فقد تحولت الحملات الانتخابية والمناظرات بين دونالد ترمب وهيلاري كلينتون ومؤيديهما إلى ساحة نزاع شرس مشحونة بلغة عدائية لم يشهد لها مثيلا. وقتها، تبادل الخصمان الشتائم اللاذعة وقصصا مليئة بالتهجم الشخصي والفضائح. وقد أدى ذلك إلى موجة من النفور الشعبي تجاه كليهما. إذ أشارت استطلاعات الرأي إلى نسب مرتفعة تصل إلى أكثر من 50 في المئة من التصويت السلبي لكل مرشح، بينما تصاعدت درجة الخطاب العدائي والعنصري بين أنصارهما كالنار في الهشيم. انعكس هذا التصعيد في تفاقم الاستقطاب الاجتماعي العميق في أميركا، مدفوعا بانتشار الأخبار الزائفة التي حصدت ملايين المشاركات على وسائل التواصل الاجتماعي والتي تتحدث عن الفوارق الكبيرة في تأييد لصالح مرشح ضد الآخر، والكل يجر النار إلى قرصه. وتحولت العنصرية والكراهية الموجهة نحو الأقليات إلى سمة سائدة في التجمعات السياسية، مشعلة شرارة التقسيم العنصري والثقافي الذي يهدد نسيج الديمقراطية.