لعبة الفرد والجماعة في عرضين سعوديين ضمن "القاهرة التجريبي"

"طوق" لفهد الدوسري و"قد تطول الحكاية" ليوسف الحربي

من "قد تطول الحكاية"

لعبة الفرد والجماعة في عرضين سعوديين ضمن "القاهرة التجريبي"

في مقابل التاريخ الطويل للمسرح العربي متمثلا في مصر والشام والمغرب، على سبيل المثل، عانى المسرح الخليجي من التهميش، وكثيرا ما نظر إليه كخارج عن دائرة الضوء. غير أن السنوات الأخيرة كشفت عن تنام ملحوظ في هذا المسرح، بما في ذلك المسرح السعودي الذي يسير بخطى ثابتة تشبه الخطى التي تقودها المملكة في مجال السينما.

فكلا المجالين يشهدان حراكا لافتا تقوده طاقات شابة وتجارب مختلفة تحلم بالتميز وتبحث عن صوتها الخاص، ولا تخلو، في طبيعة الحال، من بعض العثرات الفنية، لكنها تثبت نفسها من خلال حضور مكثف في عدد كبير من المحافل الدولية.

بدا هذا واضحا في الدورة الأخيرة، الـ 32، من "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي"، التي خصصت مساحة ملحوظة للتجارب الخليجية المعاصرة، كان للسعودية نصيب بارز منها من خلال عرضي "طوق" و"قد تطول الحكاية".

تلتقي المسرحيتان في أكثر من ملمح، بداية من الإيهام أو كسر الحائط الرابع، سواء كان هذا عبر التفاعل المباشر مع الجمهور أو بكشف حقيقة أننا داخل عرض مسرحي. كما يجمعهما ترشيد موظف لعنصر السينوغرافيا وانفتاح ملحوظ على المفهوم الأوسع للفعل المسرحي، بين ما يحمله من تقاليد راسخة وما يتيحه من تجريب ومغايرة.

تتناول المسرحيتان أزمتين تعدان من أكثر تحديات الإنسان المعاصر إلحاحا: هيمنة ثقافة الاستهلاك وتعقيدات الإدارة البيروقراطية 


يضاف إلى ذلك تقاطعهما في الموضوع، إذ تتناولان أزمتين تعدان من أكثر تحديات الإنسان المعاصر إلحاحا: هيمنة ثقافة الاستهلاك من ناحية، وتعقيدات الإدارة البيروقراطية من ناحية أخرى، في ظل ما يفرضه الواقع الراهن من متغيرات سياسية واقتصادية متسارعة.

البوستر الرسمي للدورة 32

سيف الوقت

تتجسد رسالة العرض المسرحي "طوق"، في نداءات بطل المسرحية المتكررة: "أيها النائمون تحت الشمس... تمشون بعيون مغمضة... ألم يصبكم الملل". في العام الماضي، حصدت المسرحية جائزة أفضل عرض متكامل من "مهرجان الرياض المسرحي" في دورته الثانية، ضمن مشاركتها في المسار المعاصر، إلى جانب جائزتين في التمثيل والديكور. استضافت الدورة عددا كبيرا من مسرحيي العالم، كانت ضمنهم لجنة فنية تتبع مهرجان "أفينيون" الفرنسي، سرعان ما أعجبت بالعرض أثناء مشاهدته، فدعت فريق العمل إلى المشاركة في الدورة 79 للمهرجان، الذي يعد واحدا من أهم وأقدم المهرجانات المسرحية عالميا.

في السياق نفسه، سجل "طوق" الريادة في أن يكون أول عرض سعودي يقدم ضمن فعاليات "مهرجان إدنبرة الدولي" في دورته الأخيرة، عبر مشاركة هيئة المسرح والفنون الأدائية السعودية. العرض إنتاج فرقة "فن بوكس" ويمتد لساعة إلا خمس دقائق، غير أن "الخمس دقائق الناقصة" بدت المحرك الخفي لبنيته الدرامية، إذ يعاد إنتاج الزمن نفسه في دوائر متكررة.

تدور الأحداث داخل مكتب شركة تجارية، وفيه نتابع خمسة موظفين يحاصرهم زمن دائري لا يتقدم، وسلطة إدارية لا ترحم. لكن "الطوق" لا يظل مجرد جدران العمل، بل يتحول إلى استعارة للزمن الذي يلتف حول أعناقهم، فيما يعيشون غافلين داخل دورة لا نهائية، كتروس مشدودة في ماكينة لا تكف عن الدوران. وحده مدير القسم يدرك مأزقهم السيزيفي، ليصبح الخصم المباشر للرئيس في المواجهة.

على خشبة "مسرح الفلكي" في الجامعة الأميركية بالقاهرة، ينطلق العرض من عتمة كاملة لا يخترقها إلا صوت رنين هاتف مع دقات ساعة، ومع تدرج الإضاءة تتكشف الخشبة عن خمسة مكاتب تتوزع أمام ساعة ضخمة في العمق تشير عقاربها إلى "الثانية عشرة إلا خمس دقائق". تتحرك المكاتب كقطع شطرنج، مجسدة وظائف متعددة للديكور (تصميم فيصل العبيد)، فيما ساهمت إضاءة حمد المويجد في تعزيز استمرارية الإيقاع المتوتر، على الرغم من ثبات الحدث، إذ يقوم العرض على مشهد رئيس يتكرر بتنويعات مختلفة، نتابع من خلاله محاولات مدير القسم في إقناع زملائه. ولا يأتي الانفراج إلا بعد أربعين دقيقة، حين يتجاوز العقرب الثانية عشرة للمرة الأولى، ليمنح الزمن دقيقة إضافية مع كل انضمام من الموظفين واحدا تلو الآخر إلى فعل التمرد، ويظل التكرار سيد المشهد.

إنها لحظة كسر الإيهام من جديد، يكشف فيها العرض عن هدفه في توريط المشاهد وجعله شريكا في تجربة الانتظار العبثي


تأخذ هذه التكرارات أشكالا متعددة: حوار كاريكاتوري، تشات جماعي، رقصات، مونولوغات متقطعة، نسجت في نص دائري من تأليف أحمد البن حمضه، كلها تعيد المشهد الجدالي بين الموظفين ضمن الدائرة نفسها، "ستعيد الحكاية نفسها من جديد"، هكذا يخبر زملاءه مؤكدا لهم، وللجمهور، "نحن محاصرون داخل هذا المشهد المسرحي"، وفي موضع آخر يقول "نحن أسرى الوقت والمكان". لكن هذه الرتابة المقصودة سرعان ما تتحول إلى عبء على المتفرج نفسه، وهو ما يصرح به المدير حين ينزل إلى الصالة محذرا الجمهور: "عليكم أن تشعروا بالملل لتعرفوا انكم مجرد جثث متحركة... جميعنا معلقون بحبال تتلاعب بنا"، إنها لحظة كسر الإيهام من جديد، يكشف فيها العرض عن هدفه في توريط المشاهد وجعله شريكا في تجربة الانتظار العبثي، لصالح فضاء من التساؤلات المفتوحة.

فريق مسرحية "طوق" على خشبة مهرجان أفينيون الدولي في دورته الـ79

فيما يكرس المشهد الختامي ثورة الجميع على الطوق: المكاتب تحاصر المدير لدفنه في دائرة، عقارب الساعة تخترق، والرتابة الإدارية تنهار أمام رغبة الجماعة في كسر المشهد والانتقال إلى "النص التالي"، كما يقال. لا يقدم "طوق" مجرد محاكاة لملل المكاتب اليومية، بل يقوم بتحويل خشبة المسرح نفسها إلى جيوب زمنية معلقة، حيث يشعر المشاهد بأنه عالق داخل ساعة متوقفة، قبل أن ينفلت منها برفقة فريق العمل: أحمد الذكر الله، عبد العزيز الزياني، فاطمة الجشي، مروة الشافعي، شهاب الشهاب، خالد الهويدي. تجربة أقرب إلى العبثيات العالمية الشهيرة بتوقيع المخرج فهد الدوسري، لكن بملمس محلي وبسخرية مرة من البيروقراطية الإدارية واغتراب الإنسان، على حد سواء.

مشهد من عرض "طوق

الحكاية يا والي الزمان

صراع آخر، بين الفرد والجماعة نتابعه في المسرحية القصيرة "قد تطول الحكاية"، التي لا تتجاوز نصف ساعة من إنتاج "فرقة مسرح الشباب". العرض الذي استضافه "مسرح ميامي"، مأخوذ عن واحدة من روائع الكاتب السوري الكبير سعد الله ونوس، "الفيل يا ملك الزمان"، إعداد وإخراج يوسف أحمد الحربي، فيما ضم فريق العمل مجموعة كبيرة: إلهام علوي، سوسن ال إدريس، محمد المطوع، جواد الصايغ، مهدي ال مرهون، محمد المرزوق. ينسج ونوس عالمه الرمزي بغرائبية، حول فيل مدلل لدى الملك، يخرج عن طوره ويهيم في الشوارع يستبيح الممتلكات ويدهس الأطفال، حينها يعزم الأهالي على مقابلة الوالي لطرح شكواهم.

يشارك الجميع في سرد أوجاع الحياة اليومية، بينما ينعكس صدى الكلمات على الخشبة في حركة جماعية


وبينما يتكفل الرجل في مسرحية "طوق" التحريض على الثورة، نجد المرأة في "قد تطول الحكاية" هي المحرضة، حتى وإن لم يكتمل تحريضها، ويتجلى هذا بوضوح في مونولوغ لأم مكلومة "لا أمان على طفل ولو وضعته أمه في بؤبؤ العين"، تردد النسوة من حولها "لا أمان على رزق أو حياة"، لتستأنف متهمة الجمع "ولا أحد يجرؤ على الكلام". هنا يظهر رد الرجال لا كفعل مقاومة، بل كسخرية مشوبة بالدهشة، "الكلاااام، هذا فيل الوالي يا امرأة". يشارك الجميع في سرد أوجاع الحياة اليومية، بينما ينعكس صدى الكلمات على الخشبة في حركة جماعية تؤدي إلى رسم صورة للفيل، كائن هلامي، مصاص دماء، تتساقط من قسماته كوارث متراكمة، كما يصفونه.

تتسع الدائرة لتشمل لحظة تضرع جماعي لشهداء فلسطين، ونستمع إلى "يموت فيك شهيد ليحيا فيك شهيد"، في مواجهة سؤال شكسبيري لوصف حالة لم تعد تطاق، "تطاق أو لا تطاق... ماذا بأيدينا"، هنا يطل مسن بندائه "تحركوا... حركوا الحكاية قبل أن تتوقف، اكسروا لعبة الصمت... فأنتم الحكاية"، بينما يتردد الهتاف "الفيل يا والي الزمان"، يخرج أحد الممثلين نحو الجمهور، كاسرا الحائط الرابع بنبرة ساخرة ومنتقلا إلى زمننا المعاصر: "قبل ما أحكي... متنسوش السبسكرايب (الاشتراك) والشير (المشاركة) وتفعيل الجرس"، ثم يشير إلى المدخل من حيث سيأتي الوالي، أو كما يتوقع، فمع تباين التوقعات يتجمد الجميع على الخشبة، لتتوقف الحكاية عند ذروة العجز.

 

font change