العنف السياسي في أميركا و "الذئاب المنفلتة"

حالة انقسام لم تشهدها أميركا منذ الستينات

رويترز
رويترز
تشارلي كيرك في أحد مهرجانات التيار المحافظ في أريزونا، ديسمبر 2024

العنف السياسي في أميركا و "الذئاب المنفلتة"

في ذروة التوتر السياسي وانقسام الشارع الأميركي، كان تشارلي كيرك واقفا يلهب حماس الآلاف بكلماته الحادة على منبر جامعة يوتا فالي. كان خطابه أقرب إلى اندفاع سيل جارف، حين صوّب اتهاماته بقوة نحو "مؤامرة اليسار الليبرالي" ورأى فيها تهديدا لأصالة المجتمع الأميركي: من فرض قيم جديدة ودمج الأقليات، إلى توسع تمكين المثليين والعابرين جنسيا، وتقنين حمل السلاح. وفي اللحظة التي بلغ فيها حماسه ذروته دفاعا عن حرية حق امتلاك السلاح، دوّى صوت رصاصة خاطفة باغتت عنقه، لتغرق القاعة المزدحمة في صمت ثقيل قبل أن يعمّها الهلع والفرار في مشهد يختلط فيه الذهول بفوضى الخوف من كون الحادث عملية إطلاق نار جماعي كتلك التي تشهدها المدارس والجامعات الأميركية بشكل دوري.

من يتابع الشأن الأميركي خلال العقد الماضي يدرك تماما أن اغتيال كيرك ليس إلا حلقة في سلسلة العنف السياسي الذي أدخل الولايات المتحدة في حالة انقسام لم تشهدها منذ ستينات القرن الماضي، بل فاقتها بكثير. ففي فترة الستينات شهدت الولايات المتحدة اغتيال الرئيس جون كينيدي (1963) وأخيه روبرت (1968) والذي كان مرشحا للرئاسة، ومارت لوثر كينج داعية الحقوق المدنية (1968)، وقبله سبقه نسخته المسلمة مالكوم إكس (1963)، والقائمة تطول في تلك الفترة التي حفلت بصراعات عنيفة حول موضوعات الحقوق المدنية والحرب في فيتنام. كانت الاغتيالات السياسية وسيلة لإسكات الأصوات المرفوضة من قبل جهة ما ضد الجهة الأخرى. وقد اندلعت الكثير من أعمال الشغب على خلفية تلك الاغتيالات، خصوصا بعد مقتل كينغ، حيث شهدت مدن مثل ديترويت وشيكاغو ونيوارك اضطرابات دموية.

شرارة الانقسام الحالي

في يونيو/حزيران 2015، انطلق دونالد ترمب في حملته الرئاسية رافعا شعار "جعل أميركا عظيمة مجددا" كراية لثورة سياسية. كان خطابه الناري، الذي ألقاه أمام حشد مشحون بالحماس، يُشعل شرارة الهجوم اللاذع على المهاجرين غير الشرعيين– الذين وصفهم بـ"اللصوص والمجرمين"– وعلى المسلمين والأقليات، مع توجيه انتقادات حادة إلى المؤسسة السياسية التقليدية وخصومه الديمقراطيين، مُدَعِّيا أن "الحلم الأميركي قد مات". وقتها، تعهد ترمب ببناء جدار عملاق على الحدود مع المكسيك، وترحيل ملايين المهاجرين، مستخدما عبارات جريئة ومثيرة للجدل أثارت صدمة واسعة، حيث رآها كثير من المراقبين وقودا لخطاب الكراهية والانقسام العميق في نسيج المجتمع الأميركي.

كانت الانتخابات الرئاسية لعام 2016 نقطة تحوّل في المشهد السياسي الأميركي. فقد تحولت الحملات الانتخابية والمناظرات بين دونالد ترمب وهيلاري كلينتون ومؤيديهما إلى ساحة نزاع شرس مشحونة بلغة عدائية لم يشهد لها مثيلا. وقتها، تبادل الخصمان الشتائم اللاذعة وقصصا مليئة بالتهجم الشخصي والفضائح. وقد أدى ذلك إلى موجة من النفور الشعبي تجاه كليهما. إذ أشارت استطلاعات الرأي إلى نسب مرتفعة تصل إلى أكثر من 50 في المئة من التصويت السلبي لكل مرشح، بينما تصاعدت درجة الخطاب العدائي والعنصري بين أنصارهما كالنار في الهشيم. انعكس هذا التصعيد في تفاقم الاستقطاب الاجتماعي العميق في أميركا، مدفوعا بانتشار الأخبار الزائفة التي حصدت ملايين المشاركات على وسائل التواصل الاجتماعي والتي تتحدث عن الفوارق الكبيرة في تأييد لصالح مرشح ضد الآخر، والكل يجر النار إلى قرصه. وتحولت العنصرية والكراهية الموجهة نحو الأقليات إلى سمة سائدة في التجمعات السياسية، مشعلة شرارة التقسيم العنصري والثقافي الذي يهدد نسيج الديمقراطية.

لعل أبرز العلامات الفارقة التي ميزت ذلك الموسم الانتخابي أن خطاب ترمب قد أسهم بفعالية في زعزعة ثقة كثير من الأميركيين في المؤسسة السياسية التقليدية

ولعل أبرز العلامات الفارقة التي ميزت ذلك الموسم الانتخابي أن خطاب ترمب قد أسهم بفعالية في زعزعة ثقة كثير من الأميركيين في المؤسسة السياسية التقليدية. ففي السابق، كان المرشح يهاجم المرشح المنافس أو حزبه، وفي أسوأ الأحوال يهاجم الإدارة التي يقودها الحزب الآخر. أما مع دخول ترمب على خط المنافسة، فقد صعّد النبرة ضد مصداقية المؤسسات الرسمية بشكل عام.

انطلق ترمب في ضربه لمصداقية الدولة بشكل عام من حقيقة كون مناوئيه ليسوا فقط من الحزب الديمقراطي، بل كان يتحتم عليه مواجهة أسماء كبيرة في حزبه الجمهوري، ومنهم الرئيس السابق جورج بوش، والسيناتور جون ماكين، ووزير الخارجية السابق كولن باول، والقائمة تطول. لذلك كان عليه أن يطرح نفسه مصلحا لما أفسدته النخبة السياسية بشكل عام، وليس الحزب الديمقراطي فقط. وقد أكسبه ذلك تعاطف الكثير من الجماهير الناقمة على أداء النخبة السياسية.

أ.ف.ب
تايلور روبنسون، المشتبه به في حادثة اغتيال تشارلي كيرك، وفقا لصورة من الصحيفة الجنائية التي أصدرتها الشرطة

تمكن ترمب من الفوز بالانتخابات مقصيا هيلاري كلينتون التي لم تكن تمثل الحزب الديمقراطي فحسب، بل كان يُنظر لها-عند الكثيرين- بأنها تمثّل النخبة السياسية الحاكمة في واشنطن، فقد كانت السيدة الأولى في البيت الأبيض بين عامي 2000-1993، وعضوة مجلس الشيوخ بين عامي 2009-2001، ووزيرة الخارجية بين عامي 2009-2013. وفي أعقاب فوز ترمب اندلعت الاحتجاجات في مختلف الولايات رافضين القبول بنتيجة الانتخابات باعتبار أن الإعلام قد صوّر حتمية فوز كلينتون على ترمب صاحب الخطاب الشعبوي، خصوصا وأن ترمب فاز بالمجمع الانتخابي رغم تفوق كلينتون في عدد الأصوات الشعبي. وبالطبع، فقد كانت هناك احتجاجات مضادة ترفض تسخيف الأصوات التي رجحت كفة ترمب. لقد كانت انتخابات خسرت فيها الولايات المتحدة ثقة الشعب في الآلية الانتخابية.

شهدت فترة الرئاسة الأولى لدونالد ترمب حملة إعلامية غير مسبوقة في تاريخ الرئاسة الأميركية، تميزت بالحدة والعدائية المتبادلة بين الرئيس ووسائل الإعلام الرئيسة. وقد تضمنت الانتقادات الإعلامية لترمب اتهامات متكررة بالإدلاء بتصريحات كاذبة أو مضللة، وقد قام الكثير من منظمات تدقيق الحقائق بتوثيق الآلاف من هذه التصريحات خلال فترة رئاسته. من جهة أخرى، اتهم مؤيدو ترمب وسائل الإعلام الرئيسة بالتحيز الأيديولوجي، زاعمين أنها تركز على الجوانب السلبية وتتجاهل إنجازات إدارته. وفي الوقت الذي وصفته وسائل الإعلام بالفاشي، كان ترمب يكرر استخدام مصطلح "الأخبار الكاذبة" (Fake News) لوصف أي تغطية إعلامية يراها غير مواتية له.

خلاصة القول، إنه بالرغم من كل ما حفلت به فترة رئاسة ترمب من سلبيات، فإنه قد عُومل من قبل الإعلام معاملة لم يُعامل بها رئيس أميركي قبله. لقد واجه ترمب حملة إعلامية مفعمة بالسخرية والانتقادات بشكل غير مسبوق، وقد ألقت تلك الحملة الإعلامية بظلالها على الفضاء العام، فأصبحت شيطنته أمرا مقبولا حتى في بعض المؤسسات الرسمية والمدارس.

النقطة التي لم يتوقف الكثيرون عندها تكمن في حقيقة كون الشخص المستهدف بالشيطنة هو رئيس الولايات المتحدة الذي يدير حكومتها. والمسألة هنا تتعدى فكرة حرية التعبير التي يفصّلها المستفيدون منها على مقاس أجندتهم. لذلك كان الدعم غير المحدود لجو بايدن الذي لم يكن الأفضل بين مرشحي الحزب الديمقراطي، لكنه قد دُعم بناء على كونه نائبا آخر لرئيس ديمقراطي قبله (باراك أوباما)، الذي يحظى بشعبية كبيرة بين جماهير الحزب.

موسم ترسيخ الشرخ السياسي

في السنة الأخيرة لولاية ترمب الأولى واجه العالم جائحة "كوفيد–19" والتي كان للولايات المتحدة من الوفيات فيها نصيب الأسد. ولم يفوّت الديمقراطيون الفرصة لتحميل إدارة ترمب كامل المسؤولية تجاه عواقب انتشار الفيروس متهمينه بعدم الشفافية وتضليل الرأي العام الأميركي في بداية انتشار الفيروس، وبعدم الحزم في فرض ما يلزم لمنع انتشاره.

شكّل الجدل حول التعامل مع الجائحة مادة للانقسام بين المحافظين والليبراليين في المجتمع الأميركي، وكانت الفرصة مواتية للديمقراطيين لرفع وتيرة مهاجمة ترمب مما أدى بأنصاره لرفع سقف هجومهم على سياسات الديمقراطيين. وقتها أعلنت قوات التحقيق الفيدرالية الأميركية (FBI) عن إحباط مخطط إرهابي داخلي شارك فيه 13 رجلا يشتبه في تخطيطهم لاختطاف حاكمة ولاية ميشيغن، غريتشين ويتمير، باستخدام العنف بهدف الإطاحة بالحكومة التابعة للولاية. كان جزء من هؤلاء الرجال مرتبطين بمجموعة شبه عسكرية تُعرف باسم "وولفرين ووتشمن". تم توجيه تهم جنائية ضدهم بتهم تشمل التآمر لاختطاف الحاكمة وحيازة أسلحة متفجرة، وتمت إحالتهم للمحكمة حيث أدين بعضهم وتمت تبرئة الباقين.

رغم كل ما حفلت به فترة رئاسة ترمب من سلبيات، فإنه قد عُومل من قبل الإعلام معاملة لم يُعامل بها رئيس أميركي قبله. لقد واجه ترمب حملة إعلامية مفعمة بالسخرية والانتقادات بشكل غير مسبوق

وبفوز بايدن في انتخابات 2020 اندلعت احتجاجات واسعة وعنيفة عززتها اتهامات ترمب بأن الانتخابات قد تم تزويرها بهدف إقصائه من البيت الأبيض لصالح المرشح الديمقراطي جو بايدن. أثار فوز بايدن في الانتخابات رفضا واسعا من قبل أنصار ترمب، الذين تجمعوا بالتعاون مع تنظيمات يمينية متطرفة مثل "براود بويز" لتنظيم مظاهرات ومواجهات مع أنصار الحزب الديمقراطي. وشهدت العاصمة واشنطن احتجاجات ليلية واشتباكات أدت إلى إصابة عدد من أفراد الشرطة واعتقال العشرات. وقد بلغت هذه الاحتجاجات ذروتها في السادس من يناير/كانون الثاني 2021، حين تجمع آلاف من مؤيدي ترمب في مسيرة "أنقذوا أميركا" بواشنطن. وبعد استماعهم لخطاب ترمب الذي حثهم فيه على التوجه نحو مبنى الكونغرس، اقتحم المحتجون المبنى، مما أدى إلى توقف جلسة التصديق على نتائج الانتخابات. وشهدت الأحداث أعمال عنف شملت تدمير الممتلكات وإطلاق النار، مما استدعى إجلاء أعضاء الكونغرس وطلب منهم ارتداء أقنعة الغاز بسبب استخدام الشرطة للغاز المسيل للدموع. في أعقاب هذه الأحداث، بدأت إجراءات مساءلة ترمب في الكونغرس، في محاولة لعزله للمرة الثانية.

انتقلت السلطة لبايدن، وثبت خلال أدائه في فترة رئاسته أنه لم يكن أفضل من سلفه، غير أن الأهم هو ما حصل بعد ذلك. بالرغم من محاولة الإعلام المتحالف مع الحزب الديمقراطي أن يلمّع الرئيس المسن، فإن كثرة زلاته- على الهواء- جعلته مادة للسخرية في البرامج السياسية والكوميدية بشكل يذكرنا بما كان يحصل لترمب. الفارق أن ترمب قُدّم بصورة مشيطنة، بينما قُدّم بايدن بصورة الرجل المسن المسكين. في المحصلة، فإن صورة الرئيس الأميركي التي طالما ظلت محترمة عند الشعب الأميركي اهتزت بشكل أحدث شرخا تاريخيا في صورة رمز البلاد. وعليه، فقد بات من الواضح أن صورة الرئيس الأميركي عند شعبه- وبقية العالم- لم تعد كما كانت، وذلك هو الشرخ الذي أصاب صورة ساكن البيت الأبيض، والذي من الواضح أنه سيستمر لفترة طويلة.

ما بعد عودة ترمب

أفضت انتخابات 2024 إلى عودة ترمب بعد نصر ساحق له ولحزبه الجمهوري على الحزب الديمقراطي، بتحقيقهما انتصارا ثلاثيا خوّل الجمهوريين بزعامة ترمب أن يحكموا السيطرة على الرئاسة ومجلس الشيوخ ومجلس النواب. كان هذا الانتصار فرصة لأنصار ترمب من اليمين المحافظ أن يرفعوا صوتهم ضد تركة بايدن القائمة على أسس اليسار الليبرالي.

رفع اليمينيون أصواتهم ضد السياسات التي أقرتها الإدارة السابقة فيما يتعلق بالمهاجرين والمثليين والعابرين جنسيا. وعلى الطرف المقابل، كان أنصار الحزب الديمقراطي يدافعون عن المكتسبات التي حصلوا عليها خلال إدارة بايدن. ولأن لكل ولاية قوانينها الخاصة التي يجب أن لا تخالف القانون الفيدرالي، فقد تفاوتت حدة الصراع بحسب قوة اليمين واليسار في كل ولاية.

رويترز
ترمب يدلي بتصريحات صحفية في حديقة البيت الأبيض

وفي الولايات التي يسيطر عليها طرف أكثر من الآخر، كان العنف هو الوسيلة الأنجع لإيصال الصوت لعامة الناس. ففي14  يونيو/حزيران 2025 قام شخص متطرف يتبنى أفكار اليمين المحافظ يُدعى فانس بويلتر بهجومين على مسؤولين ينتمون للحزب الديمقراطي. وكان الهجوم الأول على النائب الديمقراطي جون هوفمان وزوجته يفيت اللذين أصيبا بعدة طلقات نُقلا على أثرهما إلى المستشفى، حيث خضعا لعمليات جراحية طارئة، قضيا حوالي ثلاثة أسابيع في العناية المركزة، حيث تم إنقاذ حياتهما من موت محقق. لكن بويلتر واصل طريقه في اليوم نفسه ليقوم باغتيال رئيسة مجلس نواب ولاية مينيسوتا ميليسا هورتمان وزوجها مارك.

ومثلما هوجم الديمقراطيون في مينيسوتا التي تُعد أحد أهم معاقلهم، تمت العملية التي استهدفت الناشط اليميني تشارلي كيرك في جامعة يوتا فالي أثناء حديثه الذي كان يدعو إلى مواجهة أجندة اليسار الليبرالي التي حرفت بوصلة المواطن الأميركي من قيم الآباء المؤسسين إلى أمور تهدم قيم المجتمع الأميركي بحسب وجهة نظره.

يوتا ولاية محافظة معروفة بتصويتها للجمهوريين، تماما كما عُرفت مينسوتا بتصويتها للديمقراطيين. وإذا كان النشطاء غير آمنين في معاقلهم، فلنا أن نتصور ما سيحصل لو قام يميني جمهوري بإلقاء خطاب في الهواء الطلق في كولورادو، ولو قام يساري ديمقراطي بعمل مماثل في تكساس!

بات الأمر واضحا أن الفضاء العام لم يعد آمنا لممارسة حرية التعبير في الدولة التي تفاخر بقيمها الديمقراطية، والتي تلعب دور الشرطي على مستوى العالم. فالرصاص هو الحل في حال عجزت صناديق الاقتراع عن الإتيان به. وإذا كانت الاحتجاجات المنظمة في أعقاب الانتخابات التي أتت بترمب أول مرة وأقصته في المرة التالية جاءت على هيئة موجات غضب شعبي تتراوح بين العشوائية والتنظيم، فإن حوادث القتل والاغتيال السياسي جاءت على يد أفراد تحركوا من تلقاء أنفسهم دون وجود زعماء يحركونهم.

إرهاب الذئاب المنفردة

يمكن تصنيف الاغتيالات السياسية التي وقعت مؤخرا ضمن ما يعرف بـ"هجمات الذئاب المنفردة" (Lone Wolf Attack) وهي عمليات عنف ترقى لمستوى الإرهاب تُرتكب في أماكن عامة على يد شخص منفرد قام بالتخطيط والتنفيذ من تلقاء نفسه، دون انتمائه تنظيميا لجماعة محددة. مثل تلك العمليات تستمد قوتها في تهديد الأمن العام من صعوبة اكتشاف تخطيطها والاستعداد لمواجهتها قبل حدوثها.

"الذئاب المنفردة" مشكلة عالمية تشكّل تحديا أمنيا لمختلف الدول. ولكن الحالة الأميركية تشهد تزايدا في أعداد الأفراد الذين يتبنّون الأفكار المتطرفة وينفّذون هجمات بمفردهم

في بحث مدعوم من وزارة العدل الأميركية، نشر الباحثان مارك هام ورامون سباج من جامعة أنديانا ورقة بحثية حول هجوم الذئاب المنفردة في الولايات المتحدة، وقد عرّف البحث المصطلح بالتالي: "إرهاب الذئب المنفرد هو عنف سياسي يرتكبه أفراد يعملون بمفردهم، ولا ينتمون إلى جماعة أو شبكة إرهابية منظمة، ويتصرفون دون تأثير مباشر من زعيم أو تسلسل هرمي، ويتم تصور تكتيكاتهم وطرقهم وتوجيههم من قبل الفرد دون أي قيادة أو توجيه خارجي مباشر". غالبا ما يكون الدافع وراء الإرهابيين المنفردين هو معتقداتهم السياسية أو الأيديولوجية أو الدينية. وغالبا ما يكمن حافزهم في عدم الرضا عن سياسات الحكومة ويحاولون فرض التغيير من خلال هجماتهم التي لا تتسم بالتخطيط والتنفيذ الجماعي.

وتعتبر مسألة فردانية التخطيط والتنفيذ القاسم المشترك الأخطر في هذه الظاهرة الإرهابية. لذلك، فإن قدرة أجهزة الشرطة والاستخبارات على اكتشاف ومنع إرهاب الذئاب المنفردة تتطلب فهما واضحا لهذا النوع من العمليات المتطرفة. وتحاول هذه الدراسة تزويد المحققين بنوع من نظام الكشف للمؤشرات التي يظهرها الفرد ذو النية الإرهابية عند التحضير لهجوم. ومن الأمور الحاسمة لهذا الفهم هو إعلان النوايا عبر الإنترنت؛ في حال أعلن المنفذ عنها قبل قيامه بالعملية.

أ.ف.ب

ما يميز الذئاب المنفردة كون أفعالهم إما مستوحاة أو متأثرة بمنظمة إرهابية وأيديولوجية معينة أو تعمل في جو اجتماعي معين. وقد يكونون "منعزلين" ويتصرفون بشكل فردي دون تأثير أيديولوجي معين، وليس لديهم قائد، مما يجعلهم يتمتعون بحرية التنقل بين المجموعات. ولكن عند إلقاء القبض عليهم، قد يربطون أنفسهم بمنظمات إرهابية محددة. ومن ناحية أخرى، قد تدّعي بعض المنظمات الإرهابية أيضا مسؤوليتها عن العملية بهدف الحصول على رصيد دون تكلفة من باب الدعاية. إن أهم ما يميز الذئاب المنفردة عنصر عدم القدرة على التنبؤ بوجودهم، ناهيك عن هجماتهم، وهذا ما يصعّب مهمة الجهات المسؤولة في ضبطهم والتصدي لهم.

غالبا ما تستخدم الأسلحة النارية، وفي أحيان أخرى يستخدم السلاح الأبيض في عمليات طعن جماعي، إضافة لعمليات الدهس المفاجئ باستخدام السيارات الخاصة أو الشاحنات الكبيرة بهدف زيادة عدد الضحايا. نادرا ما يتم استخدام المتفجرات أو الأحزمة الناسفة، لأنها بحاجة لعمل جماعي. وفي حالة التصعيد الأخير في الولايات المتحدة، يُعتبر السلاح الناري هو المهيمن على تلك العمليات بسبب سهولة الحصول على أنواع متقدمة منه على مستوى الأداء والدقة. وهذه من النقاط الساخنة في الخلافات بين اليمين واليسار الأميركي، بل إن كيرك قد قُتل أثناء حديثه عن تأييد حق الأميركيين في حيازة الأسلحة.

عادة ما تستهدف الذئاب المنفردة أفرادا يمثلون جماعات تمت شيطنتها من قبل الفكر الذي تتبناه تلك الذئاب. بمعنى أنهم لا يستهدفون عامة الناس، وإنما أفرادا ينتمون إلى فئات تنظر لها الذئاب المنفردة بوصفها أهدافا مشروعة. على سبيل المثال: رجال الأمن، وأفراد الجيش، ومكون اجتماعي محدد (عرق، إثنية، دين، هوية جنسانية) أو ممثلين لحزب خصم. فالذئاب متشبعة بالكراهية لفئة محددة وتقوم بمعاقبتها عن طريق استهداف أفرادها بهدف إيصال رسالة واضحة لجمهور الخصم بأن ما يعجز عنه القانون يتكفل به العنف الفردي المنلفت. وذلك بالضبط ما حصل مع المغدورين في شهري يونيو/حزيران وسبتمبر/أيلول من العام الجاري 2025.

منفلت وليس منفرد

مسألة الذئاب المنفردة مشكلة عالمية تشكّل تحديا أمنيا لمختلف الدول. ولكن الحالة الأميركية تشهد تزايدا في أعداد الأفراد الذين يتبنّون الأفكار المتطرفة وينفّذون هجمات بمفردهم. وعليه، أصبحت هذه الظاهرة أشبه بـ"انفلات"  بدلا من كونها مجرد "عمليات فردية". إن هذا التحول في تزايد عدد الهجمات الفردية التي تتسم بسرعة التنفيذ، يضع الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات بقياداتها وأجهزتها الأمنية في مواجهة تهديد غير تقليدي، يصعب التنبؤ به أو رصده.

لم تعد هذه الهجمات مجرد حوادث منعزلة، بل أصبحت سلوكا متكررا يُغذّي بعضه بعضا، فيخلق حالة من الفوضى تصعب السيطرة عليها. فبالأمس ذئب يميني يقتل شخصيات يسارية، واليوم ذئب يساري يقتل شخصية يمينية. هذا "الانفلات" الوحشي يُنبئ بأن وضع الذئاب قد انتقل من مجرد الانفراد إلى الانفلات، لأنها تستغل سهولة الوصول إلى المعلومات والمواد الدعائية عبر الإنترنت، وتتجنّب الهياكل التنظيمية التي قد تكشفها. بالتالي، لم يعد من الدقيق وصفها بأنها مجرد "ذئاب منفردة"، بل يجب تسميتها "ذئاب منفلتة" لتعكس حالة العشوائية والتوحش التي تميزها. هذا الوصف ينطبق على الحالة الأميركية اليوم.

ماذا بعد؟

بحسب المقال الذي نشره روبرت فورد في "المجلة" بعنوان اغتيال تشارلي كيرك... الوحدة الوطنية وحرية الرأي على المحك في أميركا، فإن الديمقراطية الأميركية والوحدة الوطنية تتعرضان لأزمة حقيقية، هي الأشد منذ الحرب الأهلية التي وقعت قبل 175 سنة. ويشير إلى أن هذه الأزمة تكمن في تحديات متصاعدة تهدد مبدأ حرية التعبير وتؤجج العنف السياسي في البلاد.

وعطفا على ما ذكره فورد، فإن عمليات الاغتيال السياسي التي شهدتها الولايات المتحدة مؤخرا تعبّر عن موجة مقلقة من العنف السياسي المتصاعد في الولايات المتحدة. وهذا ما يثير تساؤلات جدية حول مستقبل الخطاب السياسي والانقسام في البلاد مما يهدد بتصاعد الاستقطاب والعنف التي تستهدف شخصيات من أطياف سياسية مختلفة، مما يعد مؤشرا على كون العنف السياسي لم يعد مجرد تهديد نظري، بل أصبح حقيقة واقعة. وهذا ما يستدعي خفض حدة الخطاب السياسي ووقف التحريض، مع تحذيرات من أن هذه الأحداث قد تؤدي إلى دورة من العنف الانتقامي.

على المستوى الأمني، تُظهر هذه الحوادث صعوبة حماية الشخصيات العامة في ظل انتشار ظاهرة "الذئاب المنفردة" التي تمت تعبئتها عن طريق السياسيين والقنوات الإعلامية المرخصة. تلك الهجمات التي لا ترتبط بجماعات منظمة تجعل عملية التنبؤ بها ومنعها أمرا معقدا، مما يستدعي المزيد من المراجعات الأمنية وزيادة الإجراءات الوقائية للشخصيات السياسية والنشطاء.

على المستوى الأمني، تُظهر هذه الحوادث صعوبة حماية الشخصيات العامة في ظل انتشار ظاهرة "الذئاب المنفردة" التي تمت تعبئتها عن طريق السياسيين والقنوات الإعلامية المرخصة

على مستوى الإعلام والفضاء العام، أثارت طريقة استجابة السياسيين ووسائل الإعلام لهذه الأحداث جدلا واسعا. ففي حين أدان الكثيرون العنف بشكل مطلق، انخرط آخرون في تبادل الاتهامات، مما أظهر عمق الانقسام السياسي. كما تم تداول معلومات مضللة ونظريات مؤامرة بشكل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يهدد باحتمالية ارتفاع حالة الفوضى التي قد تفضي إلى انفلات عام أو حتى حرب أهلية في جمهورية تحتوي على مئات الميليشيات الموجودة بشكل مستقل عن سلطة الحكومة، والتي غالبا ما تتبنى حول أجندات أيديولوجية أو سياسية معينة. وتعود جذور تلك الميليشيات إلى العصر الاستعماري، حيث كانت تُشكل للدفاع المحلي، وقد لعبت دورا بارزا في حرب الاستقلال مما جعل وجودها أمرا مقبولا لدى الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات بشرط أن لا تدخل في أنشطة غير قانونية. والسؤال هنا، ماذا إن حصل الانفلات وواجهت تلك الميليشيات القوات النظامية؟

الجميع يعلم أن انتصار القوات النظامية محسوم، ولكن حجم الخسائر في الأرواح والممتلكات لن يكون بالهيّن، والأهم من ذلك ثقة الشعب في الحكومة التي انتخبها، وجدوى العملية السياسية في البلاد من أساسها.

font change

مقالات ذات صلة