بريطانيا من فوق غيرها من تحت

بريطانيا من فوق غيرها من تحت

استمع إلى المقال دقيقة

تواجه أوروبا مشهداً اقتصادياً معقداً: ركود هيكلي مزمن، صراعات داخلية وخارجية متداخلة، مؤسسات متهالكة على الرغم من عراقتها، مجتمعات تشيخ بوتيرة متسارعة، نمو ضعيف في الإنتاجية، اضطراب في أمن الطاقة، وارتفاع متواصل في الأسعار وأعباء الديون والإنفاق العام.

وعلى عكس صدمات أزمة الديون السيادية عام 2010-2012 أو جائحة "كوفيد-19" في 2020، فإن أزمات أوروبا اليوم هيكلية وعميقة، وقد حوصرت دولها الكبرى في بيئة من النمو البطيء لا يواكب التقدم السريع لدى منافسيها ودول ناشئة أخرى.

تتخبط باريس في أزمة مالية مزمنة، إذ يبلغ عجز موازنتها نحو 5.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2024، أي ما يقارب ضعف السقف الأوروبي المحدد عند 3 في المئة، فيما يتجاوز دينها العام 110 في المئة مع نهاية السنة. ولا تكاد تخرج من إضراب حتى تدخل في آخر، بينما يرفض الفرنسيون، الذين يصرون على مكتسباتهم الاجتماعية، العمل لأكثر من 35 ساعة أسبوعياً أو التخلي عن يوم من عطلهم السنوية.

وتغرق إيطاليا، "رجل أوروبا المريض"، في دين عام يناهز 138 في المئة من الناتج المحلي، مع نمو أقل من واحد في المئة وبطالة بين الشباب تناهز 21 في المئة، وهي من بين الأعلى في الاتحاد الأوروبي.

وتعاني ألمانيا، المحرك الصناعي لأوروبا، تراجعاً في صادراتها بفعل ضعف الطلب من الصين والتوترات التجارية بين بكين وواشنطن، فيما يرهقها عبء التحول إلى الطاقة البديلة بعد تقليص الاعتماد على الغاز الروسي. ويتوقع أن يصل دينها العام إلى نحو 64 في المئة من الناتج المحلي في نهاية 2025.

لا تزال المملكة المتحدة تدفع ثمن خروجها من الاتحاد الأوروبي، تتخبط في أزمات متكررة، ومعضلة "الفجوة المالية" البريطانية، تنتقل من يد حكومة الى أخرى بلا حلول شافية

أما المملكة المتحدة فلا تزال تدفع ثمن "بريكست" وخروجها من الاتحاد الأوروبي عام 2020. تتخبط في أزمات متكررة، فلا تكاد هيئة "الخدمات الصحية الوطنية" (NHS) تخرج من إضراب للأطباء أو الموظفين حتى تدخل البلاد في إضرابات جديدة لسائقي المترو والقطارات. أزمة الرواتب والرعاية الصحية تتفاقم مالياً وإدارياً، ولوائح الانتظار تمتد إلى أشهر طويلة. 

قطاع المياه يغرق في الأزمات منذ سنوات. فشركة "تايمز ووتر"، الأكبر في المملكة المتحدة والتي تخدم نحو 16 مليون نسمة في لندن وجنوب شرق إنكلترا، تواجه أزمة مالية وتشغيلية خانقة مع ديون متراكمة تناهز 18 مليار دولار، وحاجة ملحة إلى استثمارات ضخمة في البنى التحتية والحد من المخالفات البيئية.

"الفجوة المالية" البريطانية

معضلة المالية العامة البريطانية، تنتقل من يد حكومة الى أخرى، وحاليا تستعد وزيرة الخزانة راشيل ريفز، لتقديم موازنة السنة المالية الجديدة (2026-2027) في نوفمبر المقبل، وسط ضغوط من كل اتجاه: خدمات عامة منهكة، ودين عام يناهز 97 في المئة من الناتج المحلي. وعلى الرغم من قدرة المملكة المتحدة على خدمة ديونها، يتوجس مجتمع الأعمال من زيادات ضريبية تطال الشركات والأثرياء، ما سينعكس بشكل أو بآخر على الموظفين. ويمتد القلق حاليا إلى القطاع المصرفي مع تسريبات عن نية ريفز فرض ضرائب إضافية على البنوك، مما دفع بول ثويت، الرئيس التنفيذي لـمصرف "نات ويست" (المعروف سابقاً بـ"رويال بنك أوف سكوتلاند")، للتحذير قائلاً: "الاقتصادات القوية تحتاج إلى مصارف قوية".

ستبقى "الفجوة المالية" محور النقاش واقتراحات الحلول، وسط آمال وزيرة الخزانة بألا تتجاوز 20 مليار جنيه استرليني. وينتظر الجميع على أعصابه، مترقباً نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، موعد تقديم "موازنة الخريف"، ليظهر الخيط الابيض من الخيط الأسود. فقد عاد التضخم إلى الارتفاع مسجلاً 3.8 في المئة سنوياً في أغسطس/آب المنصرم، أي ضعف هدف "بنك إنكلترا" البالغ 2 في المئة. ولا تزال تكاليف الاقتراض قريبة من أعلى مستوى في 27 عاماً، مما يرفع فاتورة خدمة الدين الحكومي إلى 100 مليار جنيه إسترليني سنوياً، أي نحو 10 في المئة من الانفاق الإجمالي.

المشهد الميداني، يظهر ان الفجوة بين "بريطانيا الخطابات من فوق" تختلف تماما عن "بريطانيا في الحياة اليومية من تحت"، وهي فجوة تتسع يوماً بعد يوم، كاشفة عن مفارقة عميقة في المشهدين الاقتصادي والاجتماعي للمملكة المتحدة وتأثيرها على حياة مواطنيها واللاجئين فيها

لقد "اتخذت راشيل ريفز خيارات سيئة خلال فترة عملها القصيرة كوزيرة للخزانة. اختارت معارك خاطئة، أهدرت رأس مالها السياسي، وانتهت أسيرةً لأرثوذكسية وزارة الخزانة"، كما كتب ليونيل باربر في الـ"فايننشال تايمز".

من أوكرانيا الى الشعبوية والمهاجرين

لقد تضررت ثقة مجتمع الأعمال في حكومة كير ستارمر، ولم تعد حجة "الفوضى الموروثة" بعد 14 عاماً من حكم المحافظين كافية لتبرير الإخفاقات. فالمحافظون بددوا فرص إدارة "بريكست" وتركوا إرثاً من الأخطاء السياسية والاقتصادية القاتلة. وزاد الطين بلة اندلاع حرب أوكرانيا، والتوترات الجمركية، وارتفاع الفوائد، وأسعار الطاقة، فيما يزحف خطاب اليمين المتطرف وتظاهراته الشعبوية ليملأ الفراغ، محمّلاً المهاجرين واللاجئين وزر الفشل الاقتصادي الداخلي. ومع ضغوط متزايدة لزيادة الإنفاق الدفاعي، تصبح مهمة ريفز أكثر تعقيداً.

بعيدا عن آراء الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي صب خلال زيارته الى المملكة المتحدة، مزيدا من الزيت على نار أزمة المهاجرين بتصريحاته المستفزة، لا شك أن الوقت يدهم كلّاً من ريفز وستارمر لإثبات قدرتهما على تأمين مسار اقتصادي أكثر استقراراً. لكنّ المشهد الميداني، يظهر أن الفجوة بين "بريطانيا الخطابات من فوق" تختلف تماما عن "بريطانيا في الحياة اليومية من تحت"، وهي فجوة تتسع يوماً بعد يوم، كاشفة عن مفارقة عميقة في المشهدين الاقتصادي والاجتماعي للمملكة المتحدة وتأثيرها على حياة مواطنيها واللاجئين فيها.

font change