خالد بلقاسم يشرّح محمد الشركي "في أرض الحدود"

مختبر للتفكير ينأى بنفسه عن الأفكار الجاهزة

خالد بلقاسم يشرّح محمد الشركي "في أرض الحدود"

للمرة الثانية على التوالي وضمن "منشورات المتوسط" الإيطالية، أصدر الناقد الأدبي المغربي خالد بلقاسم الجزء الثاني من محاوراته النقدية ـ الفكرية عبر كتاب جديد يحمل عنوان "الأخاديد ونداؤها: محاورة محمد الشركي في أرض الحدود"(2025) وذلك بعد صدور الكتاب الأول "كيليطو - تجويفات" سنة 2024.

قارئ المنجز النقدي عند خالد بلقاسم، يجد نفسه أمام ناقد مجدد بكل ما تحمله الكلمة من معنى، في وقت ينسحب فيه النقد الجاد والأصيل إلى الوراء، مفسحا المجال لأشكال أخرى تصلح أن تكون كل شيء إلا أن نعتبرها نقدا. لهذا تشكل كتابات بلقاسم علامة مضيئة في مجال النقد الأدبي العربي. إذ يعمل دائما على ملامسة عمق الأعمال الأدبية ويهدم أفكارها ويزلزل يقينياتها، بل ويساهم بكيفيات مختلفة من التأويل في هدم معايير النقد والزج بالكتابة النقدية ضمن أفق نقدي مغاير. ففي كل تجربة نقدية جديدة، يحرص على تفكيك ميكانيزمات الأعمال الأدبية وإبراز ما تحبل به من رموز وأسرار وعلامات وصور وجماليات، وفق عدّة مفاهيمية أصيلة تمتح مرجعياتها من تاريخ الفكر الإنساني. فلا تكاد تخلو دراساته الأدبية من مرجعية فكرية كونية وبحدس صوفي يضيء به صاحب "مرايا القراءة" سيرته النقدية كواحد من الأقلام البحثية المراهنة على المغاير والاختلاف في تأمل العمل الأدبي. لهذا يحرص بلقاسم دائما على اختيار أصدقائه بدقة متناهية، وأعني الأدباء الذي يعشق مؤلفاتهم ويسافر معهم في قطار المعرفة، بعد أن يحول متونهم الأدبية إلى نصوص تعاش وتحكى ويفكر فيها لا مجرد أعمال أدبية يخضعها إلى نمط من تفكير ميكانيكي تسقط فيه النظريات الغربية ومفاهيمها على الأعمال الأدبية العربية.

شكل جديد

على مدار سنوات، اعتقد العرب أن سبب فرادة كتاب "الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيان التوحيدي، كامن في الأساس في القيمة المعرفية التي يقدمها الكتاب على مدار عدد من الليالي التي أمضاها صاحب "المقابسات" في حضرة أهل السلطة والجاه، بحكم النوادر التي ظل التوحيدي يحكيها في مجموعة من الليالي. والحال أن هذا الكتاب الذي يمثل اليوم كنزا أدبيا ثمينا، لا يمكن النظر إليه من زاوية محتواه فقط، بل إنه يقترح علينا منذ قرون أن ننتبه إلى مفهوم الشكل. وذلك على أساس أن تاريخ الآداب والفنون والفكر، هو تاريخ أشكال جديدة يقدم بها الكتاب متونهم الفكرية ويحاولون عبرها أن يخلقوا لهم أفقا جديدا على مستوى الكتابة.

حوار مفتوح متبادل بين الناقد خالد بلقاسم والكاتب والشاعر محمد الشركي، يقدم كل واحد منهما فيه رأيه الخاص

فالكتاب هو عبارة عن ليال، أي أنه في شكله الهندسي ليس مجرد كتاب عادي، خاضع لنظام الفصول والأقسام والمحاور، كما عودتنا الكتب النقدية ونظيرتها الأكاديمية، بقدر ما جاء الكتاب ليقيم نوعا من الخلخلة المعرفية للطريقة التي بها كان ينظر الأدباء العرب إلى تقاليد التأليف. بيد أن هذا الاهتمام لا ينبغي أن يكون على حساب مضمون النص، لكن قيمة الشكل أنها تحبب القراءة وتتيح للقارئ فهم النص بطريقة سلسلة ومغايرة، سيما أنها جاءت وفق نظام المحادثة أو الحوار في مفهومها الأفلاطوني، وهو أمر كان مثيرا للاهتمام في ما مضى وفي مرحلة طالما اعتبرناها كلاسيكية أو "تقليدية".

غلاف كتاب "كيليطو - تجويفات"

ورغم أن بناء النظام المعرفي على شكل محاثة فكرية عرفته التقاليد الثقافية العربية منذ العصر الوسيط، إلا أن ثقافتنا اليوم، لا تحبل بهذا النزوح صوب تجريب أشكال جديدة على مستوى الكتابة وإعادة بناء شكل جديد للكتابة كما يقترحه علينا خالد بلقاسم. إن الثقافة العربية، الحديثة منها والمعاصرة، رغم ما تدعيه من حداثة وانفصال عن النموذج التقليدي العربي القديم، تبدو في بعض من حالاتها ثقافة تقليدية سابقة على الثقافة التي نسميها عادة بـ"الكلاسيكية". نحن هنا أمام نموذج معرفي جديد لا يريد الإقامة في الأشكال النقدية القديمة، بقدر ما يحاول أن يفتح له مناخا جديدا للتجريب وفضاء مختلفا يتيح له إمكان التفكير في البحث عن أشكال جديدة كانت سابقة لعصرها.

من ثم، يجد القارئ نفسه أمام عمل مختلف، فهو لا يأخذ الكتابة النقدية من ناحية الشكل، لأنه يأتي كحوار مفتوح متبادل بين الناقد خالد بلقاسم والكاتب والشاعر محمد الشركي، يقدم كل واحد منهما فيه رأيه الخاص في موضوعات ذات صلة بـ"جغرافيا الروح" و"ضيق الثنائيات" و"المقاومة في الكتابة" و"اللغة في مواجهة ذاتها على تخوم الأقاصي" و"إيقاظ الموتى" و"الاستئناف تصورا لممارسة الكتابة" و"العود الأبدي" و"كتابة الجسد" وغيرها من الموضوعات الفكرية الملتصقة بمسام الكاتب وفكره والمرتبطة بالتحولات الأنطولوجية التي باتت تطال للواقع.

توليد المعنى

في كتابه هذا، يربكنا بلقاسم ويحطم مفهومنا للنقد، فالكتاب ليس دراسة حول محمد الشركي، وإن كانت الكتابة تهجس في حدودها المنهجية بأن هناك قراءة خفية مبطنة للكتاب وتنكشف معالمها على مستوى حركية الفكر والطريقة التي بها ترسو العين صوب القبض على الحميمي في وجودية محمد الشركي. لكن الكتاب عبارة عن "حوار" يروم من خلاله بلقاسم، باعتباره أول صوت يفتتح الكتاب، إلى تفكيك شعرية النص عند محمد الشركي. غير أن هذا التفكيك، لا يأتي في إطار كتابة نقدية مباشرة، بل كحوار نقدي مبني على معرفة معمقة بشعرية صاحب "العشاء السفلي".

لغة مغايرة لا تقول كل شيء، بقدر ما تترك التأويل يأخذ حيزه الفكري على مستوى بناء النص وتوليد المعنى في ذهن القارئ

كان من الممكن أن يكتب بلقاسم دراسة نقدية يختتمها بلائحة من المصادر والمراجع، فتصبح مثل أي دراسة نقدية متيبسة لم يعد يقربها أحد، لكنه هنا آثر أن تكون اللغة في مواجهة ذاتها، حيث تغدو الكتابة بمثابة مختبر للتفكير وليس لاجترار التجربة الشعرية وجمالياتها. ذلك أن الكتابة، وإن كانت تستند على أرضية علمية تتمثل في المرجعية الفكرية التي ينبني عليها فعل الكتابة، تظل من جهة أخرى، بمثابة فعل متحرر من الترسبات المعرفية السابقة وذلك لكونها تأتي وفق آلية تأملية تحرر النص وتجعله مشرعا على رحابة المعنى.

"الأخاديد ونداؤها: محاورة محمد الشركي في أرض الحدود"

اختار صاحب "الصوفية والفراغ" أن يكتب عكس التيار ويخوض غمار أفق نقدي مغاير في ثقافتنا العربية الغارقة في التقليد. يبدع بلقاسم على مستوى الحفر في تجربة محمد الشركي من خلال أعماله، "العشاء السفلي" و"كهف سهوار ودمها" و"السراديب"، محاولا عبرها أن يؤسس نقاشا علميا متخلصا من ربقة المفاهيم والنظريات. لذلك تأتي الكتابة بين بلقاسم والشركي باعتبارها أركيولوجيا في الجسد والكتابة والأغوار والحدود. ذلك 'إن الكتابة لا تفكر بشكل مباشرة في الموضوعات العامة، بقدر ما تبحث عن معدن الكلمات الأولى وهي تستعيد بعضا من مفاهيم الكتابة وبياضاتها.

إننا هنا أمام لغة مغايرة لا تقول كل شيء، بقدر ما تترك التأويل يأخذ حيزه الفكري على مستوى بناء النص وتوليد المعنى في ذهن القارئ. ولولا العناوين الصغيرة التي تفتتح كل كتابة/ حوار/ نقاش، سيكون الكتاب عبارة عن نص واحد تختفي فيه الأسماء الى درجة أن القارئ سيجد صعوبة في التعرف إلى من يتكلم، كما فعل ذلك كل من عبد الكبير الخطيبي وموليم العروسي في كتابهما باللغة الفرنسية والمعنون بـ"فنانو دكالة: هبة الأرض" (1996).

font change