سوريا والأمم المتحدة... من فارس الخوري إلى أحمد الشرع

نور الدين الأتاسي آخر رئيس سوري يلقي كلمة فيها في 1967

غيتي
غيتي
من اليسار أعضاء اللجنة القانونية التابعة للجمعية العامة: أندرو كوردير- المساعد التنفيذي للأمين العام، السير هارتمان شروكروز- المملكة المتحدة، فارس الخوري - سوريا، الدكتور وحيد رفعت - مصر، إيفان كيرنو - نائب الأمين العام. عام 1947

سوريا والأمم المتحدة... من فارس الخوري إلى أحمد الشرع

في 17 فبراير/شباط 1945، اجتمع الرئيس السوري شكري القوتلي برئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل في مصر– بترتيب من الملك عبد العزيز آل سعود والملك فاروق– وطلب إليه أن تكون سوريا عضوا مؤسسا في منظمة "الأمم المتحدة" التي كانت ستولد بعد أشهر في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية. كانت سوريا يومها تحت الاحتلال الفرنسي، وبذلك لم تكن عضوا في "عصبة الأمم" التي سبقت "الأمم المتحدة"، والتي صادقت على الانتداب الفرنسي على سوريا في مطلع العشرينات. سمع القوتلي من تشرشل أن شرط الانضمام هو إعلان الحرب على دول المحور، وهو ما قام به الرئيس السوري في 27 فبراير 1945، مقابل دعوة سوريا للمشاركة في مؤتمر سان فرانسيسكو.

تلقت الحكومة السورية دعوة رسمية، وعين القوتلي رئيس الحكومة فارس الخوري مندوبا عنه إلى هذه المناسبة، وهو خريج الجامعة الأميركية في بيروت وأحد الآباء المؤسسين للدولة السورية الحديثة. وقد اختار الخوري أعضاء الوفد بعناية، وجميعهم كانوا من خريجي الجامعة الأميركية مثله: الدكتور فريد زين الدين والدكتور قسطنطين زريق، ووزير سوريا المفوض في واشنطن، الدكتور ناظم القدسي. في مذكراته، يقول الخوري إن أسعد يوم في حياته كان عند توقيعه على ميثاق الأمم المتحدة، نظرا للآمال الكبيرة التي عقدت على هذه المنظمة الدولية لرفع صوت الدول المستضعفة والمطالبة بحقها في الاستقلال والسيادة. اجتمع الخوري بالرئيس الأميركي هاري ترومان الذي ألقى كلمة الافتتاح، وبالإضافة إلى التوقيع على الميثاق والمساهمة في وضعه (كان فريد زين الدين عضوا في لجنة الصياغة)، أصبح فارس الخوري عضوا في اللجنة القانونية التي أقرّت علم الأمم المتحدة الأزرق، وكانت مؤلفة من السير هارتلي شوكروس (بريطانيا)، ووليد (وحيد) رفعت (مصر)، معاون الأمين العام للشؤون القانونية إيفان كيرنو، ومساعد الأمين العام أندرو كورديه.

اقترح القوتلي أن يذهب بنفسه إلى لندن للمشاركة بعرض موقف سوريا أمام الأمم المتحدة، لكن الفرنسيين اعترضوا على ذلك، فوجه مذكرة مشتركة مع الرئيس اللبناني إلى الأمم المتحدة

استقلال سوريا في الأمم المتحدة

كان فارس الخوري في الأمم المتحدة يوم وقع العدوان الفرنسي على مدينة دمشق في 29 مايو/أيار 1945، وقد انتهز الفرصة لإدانة الفرنسيين وتسليط الضوء على جرائمهم في سوريا. تدخلت بريطانيا لوقف العدوان في 1 يونيو/حزيران 1945 ودعت وزير خارجية فرنسا إلى لندن لتنظيم الانسحاب العسكري من سوريا ولبنان. لكن الفرنسيين طالبوا ببقاء عدد كافٍ من الجنود في لبنان لضمان مصالحهم في الشرق الأوسط، وهو ما جاء في الفقرة الخامسة من اتفاق لندن بينهم وبين الإنكليز. وجاء في الفقرة السادسة المتعلقة بتنظيم الجلاء أن الحكومتين البريطانية والفرنسية ستبلغان سوريا ولبنان بتفاصيل ما توصلوا إليه حول مستقبلهما، وتدعوهما للمشاركة في المباحثات في وقت لاحق. استنكر القوتلي ومعه الرئيس بشارة الخوري الاتفاق باعتبار أنهما لم يستشارا به، وقالا إن دولتيهما قد أصبحتا مستقلتين ذواتي سيادة وفق كل بيانات الحلفاء، وبذلك لا يحق لأحد إبقاء جنود أجانب على أراضيهما دون موافقة حكومتيهما الشرعيتين. اقترح القوتلي أن يذهب بنفسه إلى لندن للمشاركة بعرض موقف سوريا أمام الأمم المتحدة، لكن الفرنسيين اعترضوا على ذلك، فوجه مذكرة مشتركة مع الرئيس اللبناني إلى الأمم المتحدة، طالبا فيها بإلغاء الاتفاق البريطاني-الفرنسي والدعوة إلى اجتماع جديد بمشاركة مسؤولين سوريين ولبنانيين. عُرض الموضوع على مجلس الأمن في لندن يوم 14 فبراير 1946، وفي اليوم نفسه اجتمع فارس الخوري بوزير الخارجية البريطاني أرنيست بيفن، بحضور وزير لبنان المفوض كميل شمعون، وانضم إليهم في اليوم التالي وزير الخارجية اللبناني حميد فرنجية. طلب الوفدان السوري واللبناني تنفيذ الجلاء دون أي شرط أو قيد، ووافقت الخارجية البريطانية على طيّ اتفاق 13 ديسمبر/كانون الأول 1945 نظرا لصعوبة تنفيذه، ومنح الجلاء التام إلى الدولتين، وقالت إنها ستبلغ الجانب الفرنسي بما توصلت إليه مع الوفدين السوري واللبناني. في مجلس الأمن، تقرر أن تتولّى الأمم المتحدة الإشراف على عمليات الانسحاب العسكري، وأن تشرف على المحادثات اللوجستية التقنية في باريس، على أن تنتهي عملية الانسحاب العسكري في 30 أبريل/نيسان 1946. لكن الجلاء تم في منتصف ذلك الشهر واحتفلت سوريا بعيد الجلاء الأول يوم 17 أبريل 1946.

Alamy
السيدة أليس قندلفت (يمين الصورة) التي أحرزت إنجازا تاريخيا كأول سيدة سورية تحضر اجتماعات الأمم المتحدة عام 1948

عضوية مجلس الأمن وقرار تقسيم فلسطين

في نهاية ذلك العام، انتهت عضوية مصر المؤقتة في مجلس الأمن وانتخبت سوريا لخلافتها بخمسة وأربعين صوتا من أصل الدول الثلاث والخمسين. أصبح فارس الخوري– البالغ من العمر 74 عاما آنذاك– رئيسا لمجلس الأمن وقد ترأس جلستين في سدة الرئاسة، كانت الأولى في أغسطس/آب 1947 والثانية في يونيو/حزيران 1948. تزامنت رئاسته مع مقترح مندوب بريطانيا لتقسيم فلسطين كما فعلت بلاده في الهند في شهر أغسطس 1947، يوم قسّمته وأوجدت دولة باكستان المسلمة من صلبه. أعلنت بريطانيا في 26 سبتمبر/أيلول 1947 أنها ستنسحب من فلسطين بحلول شهر  مايو/أيار من العام المقبل، وأطلقت اللجنة الخاصة بفلسطين من خلال الأمم المتحدة (اليونسكوب)، المؤلفة من 11 دولة منها هولندا، والسويد، والهند، وإيران. لم تكن أي من الدول العظمى ممثلة في هذه اللجنة، ولا العرب كانوا ممثلين، ولا اليهود. أرفق فارس الخوري إلى دمشق نسخة كاملة من خطاب المندوب السوفياتي أندريه غروميكو، الداعم للمشروع الصهيوني في فلسطين، وقال: أحد أعضاء اللجنة الدولية متعاطف مع العرب ويجب الاستثمار به، وهو نصرالله انتظام، مندوب إيران في الأمم المتحدة. كما حذر الخوري من إميل ساندستروم، القاضي السويدي ورئيس اللجنة، لقربه الشديد من الوكالة اليهودية.

Alamy
خريطة تقسيم فلسطين التي أصدرتها الأمم المتحدة عام 1947

رافق اللجنة الأممية إلى المنطقة مندوب عن اليهود، وهو آبا إيبان، وعينت المجموعة العربية كميل شمعون، مندوب لبنان للغرض نفسه. كانت الولايات المتحدة في سنة انتخابات، وكان الرئيس هاري ترومان يسعى جاهدا إلى تجديد ولايته، ويقول إنه سيدعم هجرة اليهود إلى فلسطين، في موقف متطابق مع الموقف السوفياتي. أمضت لجنة "اليونسكوب" خمسة أسابيع في فلسطين، ونشرت تقريرها في 31 أغسطس 1947. ناقشته الأمم المتحدة في 3 سبتمبر حيث وافقت كندا وتشيكوسلوفاكيا وغواتيمالا وهولندا وبيرو والسويد وأوروغواي على إقامة دولتين منفصلتين في فلسطين، واحدة عربية والثانية يهودية، بينما طالبت الهند وإيران ويوغوسلافيا بدولة واحدة، مع وضع القدس تحت وصاية دولية، وامتنعت أستراليا عن التصويت. وبناء عليه صدر قرار التقسيم عن الهيئة العامة في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، الذي أعطى العرب معظم المرتفعات، وثلث الشاطئ الفلسطيني، بينما وضعت حيفا، ومرج بني عامر، والجليل الشرقي، وصحراء النقب، وأم الرشراش في القسم اليهودي، الذي شكل 55 في المئة من مساحة فلسطين.

عارضت سوريا قرار التقسيم بشدة، وانسحبت من الجلسة احتجاجا عليه، بالتنسيق مع الوفود العربية كافة

الأمم المتحدة في مذكرات خالد العظم

عارضت سوريا قرار التقسيم بشدة، وانسحبت من الجلسة احتجاجا عليه، بالتنسيق مع الوفود العربية كافة. استمر الخوري في عمله، وتوسعت مشاركة سوريا في الأمم المتحدة في الخمسينات، لتشمل عضوية لجنة المرأة، التي عينت مقررة لها المستشارة السورية أليس قندلفت في السنوات 1952-1951. اشترت الحكومة السورية مقرا لسفيرها الدائم في الأمم المتحدة في نيويورك، وهو منزل الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون (علما أن منزل السفير السوري في واشنطن هو منزل الرئيس الأميركي وليام هاورد تافت). في 20 يونيو 1955، دعي وزير الخارجية خالد العظم لإلقاء كلمة سوريا في الذكرى العاشرة لتأسيس الأمم المتحدة، وعندما تحدث عن تحرير الجزائر، قاطعه رئيس الجلسة الهولندي، كما ورد في مذكراته: "عادت المطرقة إلى الطرق... فسكت والتفت إلى الرئيس يقول لي: انتبه يا حضرة الخطيب إلى تجنب المواضيع التي تثير المشاكل بين الدول. كانت معرفتي القليلة بالإنكليزية لا تسمح لي بالجواب عليه، فما كان مني إلا أن رفعت يدي بإشارة عدم مبالاة، ومضيت في قراءة الخطاب". ثم يضيف العظم: "إنها وقاحة والله أن يعمد هذا الرجل إلى اتخاذ هذا الموقف تجاه ممثل دولة صغيرة، بينما هو سكت أمس على خطاب مولوتوف (وزير خارجية الاتحاد السوفياتي) الذي هاجم فيه الولايات المتحدة هجوما عنيفا".

جنود إسرائيليون على متن آلية مدرعة يرفعون علما سورياً أثناء تقدمهم إلى الأراضي السورية خلال حرب الأيام الستة، يونيو 1967.

حرب يونيو 1967

في عام 1967، وبينما كان الوفد السوري يدافع عن موقف بلاده، اتصل المندوب الدائم جورج طعمة بالرئيس نور الدين الأتاسي وطلب إليه إرسال دبلوماسيين مخضرمين لمساعدته في تدعيم الموقف السوري، فأرسل إليه عبدالله الخاني وصباح قباني من خيرة سفراء الخارجية السورية (عاد الخاني إلى الأمم المتحدة لإلقاء كلمة سوريا عام 1970 وفيها أعلن وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في 29 أيلول/سبتمبر). بعد وقوع الهزيمة واحتلال الجولان وسيناء والضفة الغربية، توجه الرئيس نور الدين الأتاسي بنفسه إلى الأمم المتحدة، لحضور الجلسة الاستثنائية التي دعا إليها وزير خارجية الاتحاد السوفياتي أندريه غروميكو بعد فشل مجلس الأمن في التوافق على قرار بشأن العدوان الإسرائيلي على الدول العربية. خطب الأتاسي في الأمم المتحدة بتاريخ 20 يونيو 1967، قائلاً: "شعوبنا العربية، كما هو حال سائر الدول الصغيرة المحبة للسلام في هذا العالم، تنظر إلى هذه الجلسة كفرصة أخيرة لانتصار القانون والمنطق والعدالة على منطق الغزو وقانون الغاب". كان خطابا ناريا، عبّر فيه الأتاسي عن غضبه من الموقف الأميركي تجاه العدوان الإسرائيلي، وكانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي يخطب فيها رئيس سوري في الأمم المتحدة منذ تأسيسها عام 1945، بعد فشل محاولة الرئيس القوتلي- لتكون زيارة الرئيس أحمد الشرع (المقررة) هي الثانية في سبتمبر 2025– بعد 58 سنة على خطاب نور الدين الأتاسي.

font change