ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص على إيقاع تطورات المنطقة

الجزيرة تتحول إلى ملاذ عقاري للبنانيين بعد الانهيار المالي والمصرفي

المجلة
المجلة

ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص على إيقاع تطورات المنطقة

وضعت زيارة رئيس الجمهورية اللبنانية جوزيف عون، إلى قبرص في السادس من يوليو/تموز الماضي، الهموم المشتركة العالقة بين لبنان وقبرص على سكة الحل، وفي مقدمتها ملف ترسيم الحدود البحرية بين البلدين. ويكتسب هذا الملف أهمية مزدوجة: أولا، لكونه يرتبط بحسن الجوار، وثانيا، لارتباطه بانخراط لبنان في الاقتصاد العالمي من خلال موقع قبرص الاستراتيجي وعلاقته بالتجارة الدولية، فضلا عن فرص الاستثمار في حقول النفط والغاز المرجح وجودها ضمن الحدود البحرية المشتركة.

وفور عودته من قبرص، بدأت اللجنة اللبنانية المكلفة التحضير لمفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع قبرص، برئاسة وزير الأشغال العامة فايز رسامني، البحث في القواعد والأسس التي ستُبنى عليها المفاوضات، تمهيدا للتوصل إلى اتفاقية الترسيم.

وأكدت مصادر رئاسية لـ"المجلة" أن العمل جارٍ على إعداد مقترحات لبنانية ستُعرض على الجانب القبرصي، على أن تبدأ المفاوضات فور قبول الطرف القبرصي بها، في خطوة تمثل مرحلة التحضير التفاوضي الأولية.

في السنوات الأخيرة، عمد لبنان إلى إعادة النظر في وضع حدوده المعترف بها دوليا مع جيرانه الثلاثة: إسرائيل وسوريا وقبرص، بهدف تثبيتها وضمان استقرارها

 لكن ما هي الانعكاسات الاقتصادية لتسوية الحدود البحرية مع قبرص قانونيا، وما الفرص الاستثمارية؟

في السنوات الأخيرة، عمد لبنان إلى إعادة النظر في وضع حدوده المعترف بها دوليا مع جيرانه الثلاثة: إسرائيل وسوريا وقبرص، بهدف تثبيتها وضمان استقرارها. مع إسرائيل، تم حل نصف المشكلة عبر التوصل إلى اتفاق ترسيم بحري عام 2022، فيما لا تزال تسوية الحدود البرية معلقة، ومرتبطة بتنفيذ اتفاق وقف النار الصادر في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024.

.أ.ف.ب
الرئيس اللبناني جوزيف عون في لقاء مع نظيره القبرصي نيكوس خريستودوليدس، في بعبدا 10 يناير 2025

أما مع سوريا، فهناك مساعٍ مستمرة لتسوية الحدود البحرية والبرية، التي تمتد لمسافة نحو 375 كيلومترا، ويشهد الملف حاليا انفتاحا من الحكومة السورية الجديدة على الترسيم وفق الحقوق القانونية بين البلدين، وهو تحوّل واضح، مقارنة بالموقف السابق.

وفي ما يخص قبرص، تبدو المسألة أبسط وأسرع نظرا الى غياب التعقيدات التي تعرقل ملفات الحدود مع إسرائيل، مما يتيح للبنان فرصة لتحقيق تقدم ملموس في هذا الملف.

قبرص... موقع ودور استراتيجيان

يمثل موقع قبرص الاستراتيجي نقطة محورية في الخطط الدولية المتنوعة المتعلقة بالتوريد التجاري وإمدادات الطاقة وغيرها من العمليات التبادلية. ويتيح ترتيب العلاقة البحرية بين لبنان وقبرص فرصة للبنان للمساهمة في هذه الجهود الدولية، بدلا من البقاء معزولا عن الخطط الاقتصادية العالمية، مستفيدا من موقعه ومقدراته.

يعزز هذا الإتجاه العلاقات الثنائية الممتازة بين البلدين، حيث لا توجد أطماع قبرصية في لبنان، بل هناك رغبة واضحة في حل المسائل الحدودية العالقة بما يتوافق مع القانون الدولي، وبما يضمن حصول كل طرف على حقوقه المشروعة.

أهم نقطة في المفاوضات مع قبرص هي إدراج بنود اتفاق تجزئة في حال اكتشاف حقول مشتركة لاحقا، ووضع آلية للتعامل مع هذا الواقع الجديد

لوري هايتايان، خبيرة في شؤون الطاقة

كذلك قبرص نقطة استراتيجية في شرق المتوسط لقربها من لبنان وسوريا وتركيا واليونان، ولدورها كجسر جوي وبحري يربط أوروبا بالشرق الأوسط. فهي ملتقى الملاحة بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، ويزيد أهميتها وجود القواعد البريطانية والأميركية على أراضيها، إضافة إلى ارتباطها بمشاريع نقل الغاز نظرا للاحتياطات الإقليمية. كما تلعب قبرص دورا مهما في حركة السياحة في المنطقة، بما في ذلك بين لبنان وقبرص.

.أ.ف.ب

كما لعبت قبرص دورا اقتصاديا مساعدا للبنان والمنطقة، إذ يمكن أن تكون ممرا بديلا للبضائع اللبنانية عند وقوع أزمات محلية، كما حصل بعد انفجار مرفأ بيروت، حيث تحولت مرافئها مثل لارنكا وليماسول إلى منافذ بديلة لإمدادات السلع. تمثل قبرص قناة حيوية للتواصل الديبلوماسي في الملفات الحساسة، مما يجعل معالجة لبنان لأوضاعه البحرية معها أمرا ضروريا، ليس فقط كدولة مجاورة، بل كمركز استراتيجي دولي ينعكس على مصالح لبنان في شرق المتوسط، وهي في قلب الصراع والتعاون حول موارد المنطقة.

اتفاقات نفطية ومصالح مشتركة

وفي ما يتعلق بالفرص المحتملة للاستفادة من الثروات النفطية والغازية وترسيم الحدود البحرية، تقول الخبيرة في شؤون الطاقة لوري هايتايان لـ"المجلة": "لبنان يتمسك بالمرسوم رقم 6344 الذي حدد حدوده البحرية مع سوريا وقبرص وإسرائيل، وحتى من دون وجود اتفاق رسمي مع قبرص، فقد رسم لبنان حدوده البحرية معها ولم تُبدِ قبرص أي اعتراض، على عكس ما حدث مع سوريا وإسرائيل. ومن جهة الاكتشافات، لا يوجد حاليا أي مكامن نفطية أو غازية ضمن هذه الحدود، ولا يزال الأمر في حاجة إلى شركات متخصصة تقوم بعمليات الاستكشاف والحفر".

وعن الوسائل القانونية لاستكشاف الحقول في المستقبل، أوضحت هايتايان: "أهم نقطة في المفاوضات مع قبرص هي إدراج بنود اتفاق تجزئة في حال اكتشاف حقول مشتركة لاحقا، ووضع آلية للتعامل مع هذا الواقع الجديد. لبنان وقبرص ليسا على خلاف حول أي مسألة، ومن السهل إدراج بند من هذا النوع. وإذا قامت أي شركة بالحفر وتبيّن وجود حقل مشترك، يتم التعامل مع ذلك وفقا للاتفاق الجديد. الاتفاق القديم مع قبرص عام 2007، الذي لم يصادق عليه مجلس النواب اللبناني، لم يتضمن أي ترتيبات من هذا النوع".

يقصد اللبنانيون قبرص لشراء الشقق أو المنازل، وبيعت نحو 50 ألف وحدة سكنية للبنانيين

جورج شهوان، رئيس مجلس رجال الأعمال اللبنانيين-القبرصيين

وأضافت: "وجود تشريعات واتفاقيات مسبقة بين لبنان وقبرص من شأنه تسهيل عمل الشركات المختصة واستقطاب استثماراتها في قطاع النفط والغاز". ولفتت إلى أن قبرص لم تقم سابقا بالاستكشاف والحفر في مناطق بحرها المتاخمة للبنان، في حين قامت بذلك على حدودها البحرية مع مصر وإسرائيل.

حضور لبناني عقاري في قبرص

فضلا عن ذلك، يستثمر لبنانيون بشكل لافت في السوق العقارية والمصرفية القبرصية، مما يعكس حضورا اقتصاديا قويا في الجزيرة. وتعد قبرص جارة تاريخية للبنان، حيث تعاطفت مع اللبنانيين خلال الحروب واستقبلتهم، وكانت محطة عبور لهم إلى أوروبا والولايات المتحدة عبر الخط البحري جونيه-لارنكا، الذي سيعاد تفعيله بعد تأهيل مرفأ جونيه واستكمال تطمينات لبنانية إلى الجانب القبرصي، لتجنب أزمات الهجرة غير الشرعية التي شهدتها الجزيرة في الماضي.

وأبدى اللبنانيون اهتماما بقبرص للاستثمار، خصوصا اثر الأزمة الاقتصادية اللبنانية عام 2019، حيث نقلوا أموالهم وعائلاتهم إلى هذه الدولة المستقرة والقريبة جغرافيا. وفي فترات الرخاء، شكلت قبرص محطة سياحية وتجارية للبنانيين، ورجال الأعمال، والمستوردين والمنتجين.

.أ.ف.ب
صورة جوية لميناء فاسيلكو جنوب قبرص عند البحر المتوسط، 20 يوليو 2022

يقول رئيس مجلس رجال الأعمال اللبنانيين-القبرصيين، جورج شهوان، لـ"المجلة"، ان "الحضور اللبناني في قبرص ينقسم فئتين من المستثمرين، الأولى تشتري العقارات وتتملكها، حيث أن قبرص بلد قريب ومناخه مشابه للبنان. وهؤلاء اللبنانيون يقصدون قبرص لشراء الشقق أو المنازل، وعددهم يصل إلى 50 ألف لبناني، أي نحو 50 ألف وحدة سكنية تم بيعها للبنانيين. وهم في الغالب يؤجرون هذه العقارات. وجزء من اللبنانيين يسكنون هذه البيوت ونقلوا عائلاتهم من لبنان إلى قبرص. والفئة الثانية، تستثمر في السياحة والتطوير العقاري، حيث تملك الفنادق والشقق الفندقية، وتستثمر أيضا في تأجير السيارات، وبعض المصانع. حتى ان هناك شركات لبنانية كبيرة نقلت مقارها الرئيسة إلى قبرص. لكن لم تسجل الاستثمارات الصناعية نسبة مهمة قياسا إلى الاستثمار اللبناني في القطاع العقاري وشراء المنازل، الذي يقدّر بنحو مليار دولار. أما قيمة الاستثمارات في السياحة والفنادق فتقدر بنحو 250 مليون دولار".

بلغت قيمة التبادل التجاري الإجمالي بين لبنان وقبرص نحو 404,6 ملايين دولار في عام 2024، حيث احتلت الجزيرة المرتبة 22 من بين أهم أسواق الصادرات اللبنانية بنسبة 1,1 في المئة، وفي المرتبة 13 بين أهم مصادر الاستيراد للبنان بنسبة 2,2 في المئة

إحصاءات غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان

وعن أهمية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص وانعكاساته الاقتصادية، يوضح شهوان أن القبارصة يعتبرون اللبنانيين فاعلا أساسيا في تطوير الاقتصاد القبرصي. وتتميز الجالية اللبنانية في قبرص بالنشاط والتزام القوانين، حيث يعيش نحو 20 ألف لبناني في الجزيرة، ونحو 100 ألف بين لبنان وقبرص، مع تزاوج مستمر بين اللبنانيين والقبارصة. أما بالنسبة الى مسألة الحدود البحرية وترسيمها فهي تحل بين الحكومتين اللبنانية والقبرصية ضمن إطار قانوني وسلمي، مما يعكس التاريخ الإيجابي والتعاون القائم بين البلدين.

لبنان وقبرص على خط التجارة الدولية

لا شك أن ترسيم الحدود البحرية بين البلدين سيحمل يحمل أهمية لتعزيز التبادل التجاري، فالترسيم يسهل حركة الشركات الموردة والمصدرة، إذ يزيل أي ذرائع أو عقبات أمام العمليات البحرية، ويعزز الحركة التجارية. ويكتسب هذا الأمر أهمية إضافية مع وجود مشروع الممر الاقتصادي الممتد من الهند إلى الشرق الأوسط، مرورا بقبرص، ثم إلى أوروبا والولايات المتحدة، الذي يتطلب حدودا بحرية، وبرية، واضحة ومرسمة. وقرب لبنان من هذا الخط يمكن أن يتيح له الاستفادة من الحركة التكاملية للاستيراد والتصدير.

.أ.ف.ب

وتفيد إحصاءات غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان لـ"المجلة" أن قيمة التبادل التجاري الإجمالي بين لبنان وقبرص بلغت نحو 404,6 ملايين دولار في عام 2024، حيث احتلت قبرص المرتبة 22 من بين أهم أسواق الصادرات اللبنانية بنسبة 1,1 في المئة، وفي المرتبة 13 بين أهم مصادر الاستيراد للبنان بنسبة 2,2 في المئة.

وسجل الميزان التجاري بين البلدين تباينا بين فائض وعجز خلال الفترة ما بين 1993و2024، إذ سجل أكبر عجز عام 2023 (نحو 418 مليون دولار)، بينما سجل أكبر فائض لصالح لبنان عام 2008 بقيمة 14,7 مليون دولار.

font change