لبنان وأثمان الفشل السياسي الذريع لـ"حزب الله"

وهو يضبط نفسه لا يزال عاجزا عن فعل ذلك من ضمن مشروع سياسي جديد

غيتي
غيتي
أعضاء من حزب الله يشاركون في جنازة مقاتل قتل عند الحدود اللبنانية السورية في 28 أغسطس 2017

لبنان وأثمان الفشل السياسي الذريع لـ"حزب الله"

لا مفاجآت في السياسة اللبنانية. فما قد يحصل يمكن أن يكون متوقعا قبل حصوله، مواقف الأطراف وحركتهم السياسية والميدانية أحيانا، كلها يمكن أن تكون معروفة السقوف مسبقا، بما في ذلك مواقف "حزب الله" وتحركاته. لذلك سرعان ما عاد المشهد السياسي في لبنان إلى رتابته المعهودة بعد أسبوع كامل على الجلسة الحكومية التي وافقت على أهداف ورقة المبعوث الأميركي توماس باراك، وكلفت الجيش اللبناني وضع خطة لحصر السلاح بحدود نهاية العام الحالي، وعرضها على مجلس الوزراء قبل 31 من الشهر الحالي. وهو ما أثار اعتراض "حزب الله" داخل الحكومة وخارجها، لكن وبالرغم من اعتباره قرار الحكومة كأنه غير موجود، وخروج رئيس كتلته النيابية محمد للقول: "الموت ولا تسليم السلاح"، إلا أن مواقف "الحزب" الإجمالية، في الشارع وفي أروقة السياسة والإعلام بقيت مضبوطة ودون السقف الذي كان يتحرك "الحزب" تحته في أي وقت كان يرى أن ثمة من يتصرف في لبنان دون الأخذ بموازين القوى التي كانت طيلة الفترة الماضية لمصلحة "حزب الله".

هل انقلبت الأدوار بحيث بات على "حزب الله" أن يأخذ بموازين القوى الجديدة بعد الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل ضده؟ الأكيد أن "الحزب" وإن لم يكن مستعدا بعد إلى تقبل الوضع الجديد فإن خياراته وأدواته في مواجهته محدودة وخاضعة لشروط حلفائه قبل خصومه، وأولهم في الداخل اللبناني، رئيس البرلمان نبيه بري، الذي يعد من أعمدة السلطة في لبنان منذ تسعينات القرن الماضي، والذي يجيد التكيف مع المتغيرات الإقليمية والدولية، وهو على ما يبدو غير مستعد للوقوف في وجه متغيرات حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 التي قلبت المشهد الإقليمي رأسا على عقب، بحيث لم تعد إيران القوة المهيمنة من العراق إلى بيروت، وهو ما يقرأه جيدا نبيه بري، ولذلك يحاول امتصاص غضب "الحزب" والالتفاف عليه، أولا لأنه يريد الحفاظ على مكاسبه ضمن المعادلة الجديدة والتي ميزته عن "الحزب" منذ البداية بحيث كان له ما أراد في التعيينات الأمنية والإدارية بالاتفاق مع رئيس الجمهورية.

الحكم في لبنان سيبقى منسجما أقله لناحية التموضع الاستراتيجي في المنطقة مع الحكم في سوريا

لكن أبعد من هذه المسألة على أهميتها، فإن بري يدرك جيدا أن أي قرار تصعيدي من جانب "حزب الله" سيكون بلا أفق في ظل الأوضاع الجديدة في المنطقة وبالأخص في سوريا التي لم يحكم لبنان مرة ضدها، وفي الفترات القصيرة جدا التي قام خلالها حكم في لبنان معارض لسوريا، كما في السنوات بين 2005 و2008، كانت النتيجة فوضى أمنية واغتيالات لقلب هذه المعادلة. بيد أن الأهم أن الموقف العربي والدولي من لبنان يبنى على الموقف العربي والدولي من سوريا نفسها، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من مختلف مراحل ما بعد استقلال البلدين.  

وإذا كان لا يمكن اليوم الحديث عن نظام مستقر في سوريا، غير أن حجم الدعم الدولي والعربي الذي يحظى به، يجعل من الصعب تصور أنه يمكن أن ينشأ وضع في لبنان ضد "سوريا الجديدة"، إلا إذا طرأت متغيرات في المواقف الدولية والعربية إزاء حكم أحمد الشرع وهذا ما لا تتوفر مؤشرات عليه حتى الآن. وبالتالي فإن الحكم في لبنان سيبقى منسجما أقله لناحية التموضع الاستراتيجي في المنطقة مع الحكم في سوريا، وليس قليل الدلالة في هذا السياق أن تشمل ورقة المبعوث الأميركي إلى سوريا ولبنان بنودا تخص سوريا ولبنان في آن معا مثل ترسيم الحدود بينهما. كما كان لافتا بيان الخارجية السورية الثلاثاء والذي اعتبر أن "ترسيم الحدود مع لبنان والتنسيق الأمني بيننا من أهم الملفات لأنها تقود إلى تعاون اقتصادي كبير بين البلدين".

أ ف ب
تُظهر هذه الصورة الصادرة عن المكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية اللبنانية في 5 أغسطس 2025، الرئيس اللبناني جوزيف عون (وسط الصورة) يترأس اجتماعًا لمجلس الوزراء لمناقشة مسألة نزع سلاح "حزب الله" في القصر الرئاسي ببعبدا

والإشارة إلى التعاون الاقتصادي تعني ما تعنيه بالنسبة إلى حاجة لبنان المتعثر اقتصاديا، لكي يكون جزءا من مشاريع الاستثمارات وإعادة الإعمار في سوريا، وهذا مرتبط أساسا بطبيعة العلاقات السياسية بين البلدين، والتي لا تزال خاضعة حتى الآن للتردد والريبة، وهي لن تسلك مسارا "صحيا" إلا بدفع عربي ودولي، وهو ما حاول توماس باراك الإشارة إليه، ولكن من الواضح أن الظروف الراهنة في كل من سوريا ولبنان لم تنضج بعد لمثل هذا المسار، والأرجح أنه لن يطرأ تغير كبير على وتيرة العلاقات بين البلدين إلا بدفع عربي وبالتحديد سعودي. لكن أيا يكن من أمر فإن "حزب الله" لن يسعه الدفع باتجاه خيارات سياسية للدولة اللبنانية معادية لـ"سوريا الجديدة"، وهو ما تلقفه مبكرا الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي يقرأ هو الآخر جيدا المتغيرات والتقلبات في المنطقة، ولذلك لا يريد أن يسلك مسارا معاديا للسلطة في سوريا.

السؤال المطروح بالنسبة للموقف الإيراني من تسليم "حزب الله" سلاحه، هو ماذا تريد طهران فعلا من وراء هذه المواقف؟

وإذا كان من مفاجأة في لبنان فهو ما بدأ يظهر من قدرة "الدولة العميقة" على تغيير وجهتها، بعد أن كانت خاضعة طيلة عقود لسيطرة "حزب الله" حتى في أبسط تفاصيلها. أما الآن فوزير الخارجية يستدعي السفير الإيراني على خلفية المواقف الإيرانية الرافضة لقرار الحكومة بشأن حصر السلاح، حتى إنه راودت أروقة الحكم في لبنان فكرة الاعتذار عن استقبال علي لاريجاني، ممثل المرشد الإيراني علي خامنئي، الذي يزور لبنان غدا الأربعاء. كذلك يقال رئيس مكتب مخابرات الجيش في الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل "حزب الله"، من دون أي اعتراض من قبل "الحزب" الذي كان قد أقام الدنيا ولم يقعدها لمجرد البحث بتعيين بديل لمسؤول أمن المطار عام 2008. وهذا ليس أمرا تفصيليا أبدا قياسا على كيفية إجراء التعيينات الأمنية طيلة المرحلة السابقة بناء على جغرافيا النفوذ السياسي وبالأخص بالنسبة لـ"حزب الله".

أ.ب
عناصر من الجيش اللبناني يحملون زميلاً لهم قتل أثناء الكشف على منشأة لـ"حزب الله" في الجنوب، خلال مراسم تشييع في المستشفى العسكري اللبناني في بيروت، لبنان، 10 آب 2025

والسؤال المطروح بالنسبة للموقف الإيراني من تسليم "حزب الله" سلاحه، هو ماذا تريد طهران فعلا من وراء هذه المواقف؟ في وقت أن إيران وفي أوج تعرض "الحزب" للتدمير على يد إسرائيل خلال حرب الخريف الماضي لم تبذل أي جهد يتلاءم مع حجم الخطر الذي يتعرض له "الحزب" خشية أن تعرض نفسها لخطر غير محسوب، أما وبعد وصول الحرب إلى داخل طهران ذاتها، واضطرارها إلى خوض حرب مباشرة مع إسرائيل- وهو ما كانت تتجنبه بناء على نظرية "الدفاع المتقدم" بحيث يردع وكلاؤها وفي مقدمتهم "حزب الله" إسرائيل عن الهجوم ضدها- فهل تفكر إيران في إعادة بناء منظومتها الإقليمية؟ الأرجح أن طهران لا تفكر في ذلك أقله على المدى المنظور، لكنها في الوقت عينه تريد الإيحاء بأنها لم تفقد أوراقها وأنها قادرة على تحريكها وعرقلة الخطط الأميركية، سواء في لبنان أو العراق؟ لكنها أيضا لعبة دونها مخاطر، إذ إن أي تحرك مضاد لحلفاء إيران غير مضمون النتائج، خصوصا أن التيار الرئيس في كل من العراق ولبنان أصبح أكثر انحيازا لمطالب سيادة الدولية وحصرية السلاح، بناء على قراءات المصلحة السياسية في المرحلة المقبلة.

المشكلة أن "حزب الله" وهو يضبط نفسه لا يزال عاجزا عن فعل ذلك من ضمن مشروع سياسي جديد، في وقت أن مشروعه القديم قد سقط سقوطا مدويا وإلى غير رجعة

وهذا يعني إمكان قيام شبكات تحالف جديدة، أو ضعف التحالفات القديمة وبروز تناقضات جديدة داخلها، وهو ما ينطبق في لبنان على التحالف بين "حركة أمل" التي يرأسها بري و"حزب الله"، ولا يستبعد أن يصطدم أي تصعيد "نوعي" يلجأ إليه "الحزب" بالحركة أولا قبل اصطدامه بالقوى اللبنانية الأخرى، وقبل اصطدامه بالجيش اللبناني الذي يبدو حازما في منع خروج تحركات "حزب الله" عن نطاقها الجغرافي والأمني.

بيد أن المشكلة في كل ذلك أن "حزب الله" وهو يضبط نفسه لا يزال عاجزا عن فعل ذلك من ضمن مشروع سياسي جديد، في وقت أن مشروعه القديم قد سقط سقوطا مدويا وإلى غير رجعة وآن الأوان لدفنه والانتقال إلى مرحلة جديدة. لكن يبدو أن "الحزب" أسير أيديولوجيته وطروحاته القديمة بحيث إنه "ميت من الداخل"، أي إنه لا يظهر حيوية ولياقة سياسية، كما لو أنه حزب عسكري وأمني محض، ولا حضور سياسيا له خارج العسكر والأمن، في وقت أن معادلة الحكم الجديدة التي لم تأت إلى رأس السلطة بخصوم تاريخيين لـ"الحزب" كانت فرصة له لإعادة التموضع وإجراء مراجعة لكل المرحلة السابقة وتبني خطاب جديد يمكنه من خلاله مواكبة المتغيرات الحاصلة. إلا أنه وعلى عكس كل ذلك لم يظهر غير الجمود والفشل السياسي الذريع الذي سيرتب عليه نتائج سلبية. لكن مشكلة "الحزب" ليست مشكلة ذاتية وحسب بل هي مشكلة لبنانية أيضا، بحيث لا يمكن تصور أن الأمور يمكن أن تستتب في لبنان وأن تسلك مسارا طبيعيا من دون إيجاد "حزب الله" حلا لمشكلته على قاعدة الاعتراف بالمتغيرات وضرورة مواكبتها بما يلزم سياسيا واجتماعيا. وهذه معضلة لبنانية قائمة، لن تحلها المفاوضات الإيرانية الأميركية في حال حصلت وفي حال استطاعت إيران أن تخفف الضغوط عليها وعلى وكلائها مقابل تسليم بقية ترسانة الأسلحة الثقيلة لـ"حزب الله"... ولن يحلها طبعا اتهام نواف سلام أو سمير جعجع بالخيانة!

font change