سلاح "حزب الله" و"إرث" حافظ الأسد

لبنان قد يدخل في أزمة سياسية على غرار أزمات ما بعد العام 2005

أ ف ب
أ ف ب
تُظهر هذه الصورة الصادرة عن المكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية اللبنانية في 5 أغسطس 2025، الرئيس اللبناني جوزيف عون (وسط الصورة) يترأس اجتماعًا لمجلس الوزراء لمناقشة مسألة نزع سلاح "حزب الله" في القصر الرئاسي ببعبدا

سلاح "حزب الله" و"إرث" حافظ الأسد

لا يفترض القول أن لبنان تجاوز قطوعا أمنيا الثلاثاء على اعتبار أن "حزب الله" لم يقم بتحركات تصعيدية "نوعية" في الشارع بالتزامن مع الجلسة الحكومية المخصصة لمناقشة حصرية السلاح بيد الدولة. بل إن ما أظهرته التطورات يشير إلى أن "حزب الله" لم يعد في مقدوره التصعيد كما كان يفعل سابقا، أو أنه يحسب ألف حساب لأي تصعيد في الداخل اللبناني على غرار هجوم 7 مايو/أيار 2008. فالجيش اللبناني نفذ انتشارا واسعا في العاصمة بيروت أمس، وحصر تحركات مناصري "الحزب" الاستعراضية ضمن نطاق الضاحية الجنوبية لبيروت، ولم يسمح لها بالعبور إلى سائر مناطق العاصمة وشوارعها وأحيائها كما كان يحصل سابقا، وهذا تطور لافت في سلوك الدولة والجيش مع هكذا تحركات يؤشر إلى دخول لبنان مرحلة جديدة.

هذه المرحلة دل عليها الثلاثاء استبدال اسم جادة تؤدي إلى مطار بيروت الدولي من حافظ الأسد إلى زياد الرحباني الفنان اللبناني الشهير الذي توفي الأسبوع الماضي، وهذا إجراء ما كان يمكن تصوره لو لم تتبدل الأوضاع في كل من سوريا ولبنان. والواقع أن لبنان تحت حكم "حزب الله" كان أكثر تعبيرا من سوريا عن "الإرث السياسي" لحافظ الأسد، خصوصا بعد انشغال النظام السوري السابق في الحرب الأهلية وانهيار منظومته السياسية والإعلامية، بينما استطاع "حزب الله" أن يقيم "صروحا" سياسية وإعلامية تولت الترويج لأدبيات الممانعة التي سيطرت على المجالين الإعلامي والسياسي في كلا البلدين لردح طويل من الزمن وخصوصا أن الأمين العام السابق لـ"حزب الله" حسن نصرالله، بما كان يمتلكه من قدرات خطابية كان يشكل رافعة رئيسة لهذا الخطاب. وإن كان هذا الخطاب مسنودا إلى منظومة أمنية وليس إلى منهجية إقناع!

عدم تمكن لبنان من تنفيذ بنود الورقة الأميركية والتي تعكس موازين القوى بين "حزب الله" وإسرائيل بعد الحرب الأخيرة، يعني أن إسرائيل ستواصل تنفيذ هجماتها ضد "الحزب" في لبنان

هذا قبل الدخول في مجريات مجلس الوزراء الثلاثاء، والتي تدل هي الأخرى بمجرد انعقادها لبت مسألة سلاح "الحزب" على المتغيرات الكبيرة التي حصلت في لبنان والمنطقة، فقبل نحو 20 عاما عندما حاولت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة أن تبت في تعيين قائد جديد لجهاز أمن المطار وأن تبحث في الشبكة الخاصة بـ"حزب الله"، شن الأخير هجوما على بيروت والجبل، وخرج نصرالله لرفع شعار: "السلاح دفاعا عن السلاح". أما الثلاثاء فكانت الحكومة تبت في مسألة السلاح نفسه وقد بدا "الحزب" مقيد الحركة مقارنة بـ7 مايو 2008، ولم يخرج أمينه العام الجديد نعيم قاسم ليكرر مقولة "السلاح دفاعا عن السلاح"، بل اكتفى بالقول إن "حزبه" لن يرضى بجدول زمني لتسليم السلاح تحت سقف العدوان الإسرائيلي.

لكن مشكلة "الحزب" عمليا ليست مع الحكومة اللبنانية وإنما مع استمرار إسرائيل في اغتيال كوادر "الحزب" وقصف مواقع له دون أي رادع، خصوصا أن المبعوث الأميركي توماس باراك كان قد قال في آخر زيارة له إلى لبنان إن بلاده، التي كان من المفترض أن تضمن تنفيذ وقف إطلاق النار بين "الحزب" وإسرائيل المبرم في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، لا تستطيع أن تملي شيئا على إسرائيل، حتى إنه نعى الاتفاق نفسه في إطار التنصل من أي دور أميركي ضامن له، وهو ما يعني أن الغارات الإسرائيلية ستتواصل ما لم يسلم "حزب الله" سلاحه إلى الدولة اللبنانية. وبعدما كانت التسريبات السابقة قد أشارت إلى أن واشنطن معنية بالسلاح الثقيل لـ"الحزب" وهو ما أشار إليه باراك نفسه، تبين من الورقة الأميركية الأخيرة الموجهة للحكومة اللبنانية أن الجدول الزمني المحدد لسحب سلاح "الحزب" يتضمن السلاح المتوسط والخفيف وصولا إلى القنابل اليدوية. لكن الأخطر من كل ذلك هو إشارة تلك الورقة إلى أسلحة بيولوجية كيميائية بحوزة "الحزب"، وهو ما لم ينفه قاسم عندما قرأ هذه الفقرة من الورقة الأميركية في خطابه الثلاثاء، فهل يمتلك "الحزب" مثل هذه الأسلحة فعلا؟ أم إنه مجرد ضغط أميركي إضافي على لبنان؟

أ ف ب
تُظهر الصورة مشهدًا لمسلّة تحمل لوحةً تذكاريةً للرئيس السوري حافظ الأسد في بيروت بتاريخ 6 أغسطس 2025، على طريق سريع سُمّي باسمه عام 1998، والذي سيُعاد تسميته باسم الموسيقي الراحل زياد الرحباني

وأيا يكن من أمر فإن هذه المسألة لوحدها كفيلة بإدخال لبنان بدوامة إضافية يصعب عليه الخروج منها من جراء المفاعيل الدولية لحظر مثل هذه الأسلحة!

وما يجدر التوقف عنده أن الورقة الأميركية التي عرضت على الوزراء اللبنانيين الثلاثاء والذين تغيب منهم وزيران تابعان لثنائي "حزب الله- حركة أمل"، ثم انسحب الوزيران الآخران التابعان لهما من الجلسة عند رفض تأجيل البت في مناقشة بند حصرية السلاح، تتحدث عن أربع مراحل "لتعزيز حل دائم وشامل"، وهو ما يحيل إلى اقتراحات وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حماس" والتي تندرج هي الأخرى ضمن مراحل. لكن الأهم هنا أن عدم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حماس" كان يعني في كل مرة تصعيدا في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وبغطاء أميركي. وهو ما يمكن أن يتكرر في لبنان على اعتبار أن عدم تمكن لبنان من تنفيذ بنود الورقة الأميركية والتي تعكس موازين القوى بين "حزب الله" وإسرائيل بعد الحرب الأخيرة، يعني أن إسرائيل ستواصل تنفيذ هجماتها ضد "الحزب" في لبنان. وهذا مأزق لا يستطيع "الحزب" التعايش معه إلى ما لا نهاية، خصوصا أنه لا يزال ملتزما بعدم الرد، حتى لو قال قاسم في خطابه الثلاثاء إن الصواريخ ستتساقط على إسرائيل في حال وسعت عدوانها على لبنان، معتبرا أن مصلحة إسرائيل أن لا تذهب إلى العدوان الواسع. وهذا تكرار لمقولة اعتمدها "الحزب" منذ بدء "حرب الإسناد" في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتبين فشلها مع توسيع إسرائيل للحرب في سبتمبر/أيلول 2024.

العين الإسرائيلية والأميركية مفتوحة أكثر على سلاح "حزب الله"، وهو ما يرجح في حال لم يتم التوصل إلى صيغة لتسليمه إلى الجيش اللبناني، أن تواصل إسرائيل قصفه وتدميره من الجو

لكن تجاوزا لحجج "الحزب" التي تدحضها إجمالا الوقائع الميدانية فإن القرار الذي أعلنه رئيس الحكومة نواف سلام في ختام جلسة الحكومة أمس بتكليف الجيش وضع خطة لحصر السلاح بحدود نهاية العام الحالي، وعرضها على مجلس الوزراء قبل 31 من الشهر الحالي، هو بمثابة البدء بتطبيق بنود الورقة الأميركية، وهو ما يفتح على تحليل المشهد السياسي وبالأخص المشهد السياسي الشيعي، إذ إن تموضع رئيس البرلمان الذي كان المحاور الرئيس للمبعوث الأميركي طيلة الفترة الماضية إزاء المتغيرات الحاصلة سيكون حاسما في تحديد مستقبل الوضع اللبناني، على اعتبار أن بري سيأخذ في الاعتبار صعوبة معاندة التوجهات الجديدة للدولة والتي تمليها المتغيرات الإقليمية الكبيرة وآخرها نتائج حرب الـ12 يوما على إيران والتي حولت معركة إيران من السيطرة الإقليمية إلى المحافظة على نظامها. لكن دعوة حركة "أمل" التي يرأسها بري الأربعاء الحكومة للعودة عن قرارها خلال جلستها الخميس ينذر بتعقيدات إضافية قد تضفي إلى شل الحكومة أو عرقلة .

والحال فإن ما يحصل في لبنان لا يمكن عزله بطبيعة الحال عما يحصل في المنطقة، بدءا من إيران مرورا بالعراق وسوريا، ناهيك بالتطورات في الأراضي الفلسطينية حيث يبدو أن إسرائيل ماضية في توسيع حربها على قطاع غزة. وما يجدر التوقف عنده هنا أنّ واشنطن تحفظت على قانون "دمج الحشد الشعبي" في القوات المسلحة العراقية، وهو ما أدى إلى تأجيل البت به إلى نوفمبر المقبل، ما يعني أن الحكومة العراقية لا تريد تعريض مصالحها مع واشنطن للخطر، وما يعني أيضا أن موضوع حصر السلاح بيد الدولة العراقية يسلك مسارا من الصعب العودة عنه ولاسيما أنه مطلب يلقى المزيد من التأييد في الشارع العراقي.

والأمر شبيه في لبنان، لكن مع فارق أن العين الإسرائيلية والأميركية مفتوحة أكثر على سلاح "حزب الله"، وهو ما يرجح في حال لم يتم التوصل إلى صيغة لتسليمه إلى الجيش اللبناني، أن تواصل إسرائيل قصفه وتدميره من الجو. لكن السؤال هو عن حجم ترسانة الأسلحة المتبقية بحوزة "الحزب"، وهل بإمكانه خوض مواجهة جديدة بها خصوصا بعد إقفال المعبر السوري إليه؟ بجميع الأحوال فإن استمرار الوضع الحالي يعني حكما استمرار إسرائيل بقصفها داخل الأراضي اللبنانية واحتلال النقاط الخمس في جنوب لبنان واستمرار إخلاء القرى الحدودية اللبنانية، والأخطر أن الورقة الأميركية تربط أي دعم اقتصادي للبنان وإعادة الإعمار بتسليم "حزب الله" وسائر المنظمات للسلاح جنوب الليطاني وشماله للجيش اللبناني.

أحد شروط السياسة الجديدة في لبنان هو تطوير خطاب وأدوات لدعم القضية الفلسطينية في ظل التطورات التي شهدها العالم الغربي إزاء هذه القضية

لكن وبغض النظر عن المفاعيل الإجرائية للورقة الأميركية فإنّ ثمة سياسة جديدة يفترض أن تولد في لبنان في مواكبة المتغيرات الحاصلة، سياسة تقوم على عنوان رئيس وهو أن "إرث" حافظ الأسد، ومن ضمنه سيطرة "حزب الله" على لبنان، قد سقط، وهذا يعني ضرورة قيام قراءة جديدة للصراع مع إسرائيل ولـ"المقاومة"، بدءا بإسقاط ذريعة مزارع شبعا من خلال ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا والتأكيد على سورية هذه المزارع.

أ ف ب
تُظهر هذه الصورة، التي نشرها المكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية اللبنانية في 5 أغسطس 2025، رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام متحدثًا إلى الصحافة بعد جلسة لمجلس الوزراء لمناقشة مسألة نزع سلاح حزب الله في القصر الرئاسي ببعبدا

وهذا لا يعني إعلان الحياد تجاه العدوانية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، بل على العكس فإن أحد شروط السياسة الجديدة في لبنان هو تطوير خطاب وأدوات لدعم القضية الفلسطينية في ظل التطورات التي شهدها العالم الغربي إزاء هذه القضية، لكن في الشق الداخلي وعلى أعتاب الانتخابات النيابية في ربيع عام 2026 فثمة حاجة إلى صوغ خطاب سياسي جديد يخرج لبنان كليا من "إرث" حافظ الأسد الذي حوّل السياسة إلى مجرد لعبة أمنية تتحكم بها الأجهزة والأحزاب المسلحة الموالية، كما ربط مصالح لبنان وسوريا بالمصلحة الإقليمية الإيرانية، تلك المصلحة التي كانت قائمة أساسا على التوصل إلى اتفاق مع الأميركيين، مع اتهام الآخرين بتنفيذ الأجندات الأميركية. بيد أن الانتقال إلى مرحلة جديدة لا يعني أن المخاض قد انتهى والأحداث السورية خير دليل على ذلك، إذ تؤشر إلى أن الفرز الجغرافي الطائفي يصبح أمرا واقعا يصعب تجاوزه وإن لم يعلن صراحة أو يدخل من ضمن النظام السياسي الجديد. وهو واقع ينسحب على لبنان أيضا، ولاسيما أن "حزب الله" ينقل مأزقه مع إسرائيل إلى الداخل اللبناني من خلال اتهام الحكومة بتحقيق إملاءات أميركا وأهداف إسرائيل على خلفية قرارها أمس، وهذا يعني أن لبنان قد يدخل في أزمة سياسية على غرار أزمات ما بعد العام 2005، مع فارق أن "الحزب" بات يفتقر إلى مروحة التحالفات التي كانت تلتف حوله وقتذاك. وهذا وضع جديد نسبيا لا يُعرف إلى ماذا سيفضي، غير أن الأكيد أن تجاوز "حزب الله" لسقف الضغط السياسي سيجره إلى فخ لأنه لن يستطيع قلب المشهد على غرار ما فعل في العام 2008، عندما كان الوضع الإقليمي لصالحه.

font change