"المنطقة الاقتصادية في جنوب لبنان"... هندسة أميركية بأبعاد أمنية وسياسية

بين مفهوم الأمن الإسرائيلي ومتطلبات السيادة، يظل الاقتصاد ومعيشة اللبنانيين رهينة الانتظار

أ.ف.ب.
أ.ف.ب.
لبنانيون يصطادون في بحيرة دردارة في جنوب لبنان بالقرب من الحدود الإسرائيلية، 22 مارس 2001

"المنطقة الاقتصادية في جنوب لبنان"... هندسة أميركية بأبعاد أمنية وسياسية

منذ تسلم الرئيس الأميركي دونالد ترمب مفاتيح البيت الأبيض مجددا، أعاد إلى الواجهة نظريته القديمة التي تقوم على معادلة الأمن والسلام والإزدهار الاقتصادي، في تعامله مع ملفات المنطقة والعالم. ويحمل تركيز الاهتمام الأميركي على جنوب لبنان وطرح فكرة إقامة منطقة اقتصادية، أكثر من دلالة ورسالة في آن واحد.

وكان موقع "أكسيوس" نقل عن الرئيس ترمب رغبته بإقامة هذه المنطقة، وقال إنها "منطقة ترمب الاقتصادية" في جنوب لبنان التي ستتشكل بعد فرض منطقة خالية من السلاح، واستبدال المنشآت والأنفاق العسكرية بالمصانع والشركات والأعمال الكبيرة على أنواعها. لكن ما هي أبعادها؟

يرى مصدر رئاسي لبناني، في حديث إلى "المجلة"، أنه "لن تكون هناك منطقة اقتصادية في الجنوب قبل انسحاب إسرائيل، وتعزيز قوة الجيش اللبناني، ونشره على كل الأراضي الجنوبية حتى الحدود المعترف بها دوليا". إلا أن موقف لبنان هذا لا يلغي الاهتمام الأميركي بمستقبل هذه المنطقة تحديدا، التي يعاد صوغ وضعيتها في سياق هندسة سياسية-اقتصادية لواقع الجنوب بعيدا من "حزب الله" ووجوده فيها.

السياسة من باب الاقتصاد

وتعدد مصادر ديبلوماسية واسعة الاطلاع لـ"المجلة"، أبرز الحيثيات المحيطة بفكرة المنطقة الاقتصادية، التي تمهد لها، استنادا إلى الآتي:

- أولا: ينظر ترمب إلى السياسة من الزاوية الاقتصادية والاستثمارية. وهذه الفكرة، تأتي في سياق أن ترمب يستكمل في ولايته الثانية ما بدأه في ولايته الأولى، إذ إنه يرعى الاتفاقات بين الدول تحت شعار السلام في مقابل الازدهار. فهو رعى اتفاقا للسلام بين أذربيجان وأرمينيا، وكذلك محادثات وقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا، وتوقيع اتفاق سلام بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية. كما لديه فكرة تحويل غزة إلى منتجع ساحلي سياحي دولي شبيه بالريڤييرا، خاضع للسيطرة الأميركية، بعد طرد أهلها.

قبالة المنطقة الجنوبية، هناك بقعتان بحريتان يرجَّح أنهما تحتويان على كميات كبيرة من النفط والغاز، مما يشكل فرصة ذهبية لأميركا

وتفترض الإدارة الترمبية أن هذا يؤدي إلى تحقيق مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية، وهي أهداف مشتركة بين كل هذه الاتفاقات، والخطط المشابهة. ففي جزء من اتفاق السلام بين أذربيجان وأرمينيا، تعتزم الأخيرة منح الولايات المتحدة حقوق تطوير خاصة حصرية لفترة زمنية ممتدة على ممر عبور استراتيجي عبر القوقاز الجنوبي تحت مسمى "طريق ترمب للسلام والازدهار الدوليين" (TRIPP)، تديره مجموعة أميركية متخصصة في البنية التحتية وفقا للقانون الأرميني.

ومن أوكرانيا، ستنال واشنطن المعادن والثروات الطبيعية. ومن أفريقيا المعادن النادرة، وبذلك تقلل اعتمادها على الصين في هذا المجال. أما من لبنان، فقبالة المنطقة الجنوبية، هناك بقعتان بحريتان يرجَّح أنهما تحتويان على كميات كبيرة من النفط والغاز، مما يشكل فرصة ذهبية لأميركا، خصوصا في ظل غياب مؤشرات عن رغبة شركة "توتال" الفرنسية مواصلة اعمال التنقيب، في وقت تعبر شركات مثل "شيفرون"، و"موبيل إينرجي" عن اهتمامها بالاستثمار هناك. إلى جانب ذلك، في جنوب لبنان أحد أهم الممرات النفطية الواصلة من الخليج إلى البحر المتوسط، عبر خط "التابلاين" الذي ينقل نفط السعودية إلى مصفاة الزهراني، مع إمكان توسيع طاقتها الإنتاجية. كما يتميز الجنوب بمساحات زراعية وسياحية شاسعة وخصبة، وغنية بالمياه بفضل جريان نهر الليطاني.

أ.ف.ب.
الرئيس اللبناني جوزيف عون يصافح قائد القيادة المركزية الأميركية الأميرال براد كوبر، في القصر الرئاسي في بعبدا 6 سبتمبر 2025

- ثانيا: في إطار "الديبلوماسية القسرية" التي تعتمدها واشنطن، ليس فقط مع "حزب الله" إنما مع بيئته أيضا، قال الموفد الرئاسي توماس باراك في مقابلة مع "نيويورك تايمز"، نشرت في الثالث من يوليو/تموز الماضي، إن نزع سلاح الحزب يتطلب "حوافز وعقوبات"، و"إن مسار نزع السلاح وتفتيش المنازل سيواجه اعتراضات من المجتمعات الشيعية". ولتشجيعها على التعاون، كما يَفترض، أعلن باراك، أن بلاده تسعى للحصول على دعم مالي من السعودية وقطر لتمويل إعادة إعمار المناطق الجنوبية. وإذا حصل شيعة لبنان على مكاسب من هذا المسار، فسيتعاونون معه. بالتالي، فإن انشاء منطقة اقتصادية في الجنوب يصب في هذا المسار، يتيح لأبناء الجنوب، ولا سيما الشيعة منهم، بحسب السيناريو الأميركي، فرصة للاستفادة منه كبديل من التمويل الذي كانوا يتلقونه من إيران. وقد قال باراك خلال زيارته الأخيرة للبنان في 26 و27 أغسطس/آب الماضي: "إن حصر السلاح يصب في مصلحتكم"، فالمسار الاقتصادي يمكن أن يشكل عاملا مساعدا في تحقيق الأهداف السياسية.

البداية في إنهاء مهمة "اليونيفيل"؟

- ثالثا: ظهرت بوادر أفكار أميركية-إسرائيلية-دولية في شأن مستقبل الجنوب ووضعيته الأمنية والسياسية، وتاليا وظيفته الاقتصادية. بدأ هذا المسار من خلال إقرار مجلس الأمن الدولي في 28 أغسطس/آب الماضي التجديد، وللمرة الأخيرة، للقوات الدولية العاملة في الجنوب، "اليونيفيل" حتى نهاية سنة 2026، على أن تكون سنة 2027 هي سنة انسحاب هذه القوة من لبنان. يحمل هذا القرار أبعادا كبيرة جدا، إذ يعتبر مدخلا لهندسة جديدة لمستقبل الجنوب. والسؤال الآن هو، ما المطلوب بعد هذا القرار وما المتوقع؟ من شبه المؤكد أن ذلك يصب في فكرة إنشاء منطقة اقتصادية، وفي اتجاه نقل وظيفة الجنوب من المهمة الأمنية، إلى مهمة اقتصادية تفيد كلا من الشيعة والأميركيين والإسرائيليين على حد سواء.

الحل يكون أولا، بإنهاء المشاكل الأمنية والتهديدات العسكرية، وثانيا، بتثبيت الاستقرار السياسي، وثالثا، بالتفكير في عملية بناء المجتمع من هياكل سكنية، وتنظيم مدني، والتنمية بين مدن الجنوب وريفه، وصولا إلى المناطق الصناعية

أستاذ العلاقات الدولية والعلوم السياسية والاقتصادية في باريس الدكتور محيي الدين الشحيمي

- رابعا: لم تلغِ إسرائيل من قاموسها مسألة شن حرب جديدة على لبنان واجتياح بري للجنوب هدفه إقامة منطقة عازلة تمتد من الحدود إلى نحو 12 كيلومترا في الداخل اللبناني. ومن غير المؤكد أن توافق واشنطن على هذه المسألة، لكنها توافق على استبدال المنطقة العازلة الأمنية بمنطقة عازلة اقتصادية، قد لا تقتصر على مسافة 12 كيلومترا. ولا يوجد أية معطيات دقيقة حول المساحة التي ستكون عليها المنطقة الاقتصادية.

يقول أستاذ العلاقات الدولية والعلوم السياسية والاقتصادية في باريس الدكتور محيي الدين الشحيمي لـ"المجلة" "إن إقامة منطقة اقتصادية في الجنوب، هي حاليا فكرة غير رسمية، وأشبه بوجهة نظر. وهي أقل مرتبة من فكرة "الريڤييرا" في غزة التي أخذت طابعا شبه رسمي، وهناك مخططات في شأنها عمرها أكثر من سنة. إنما المنطقة الاقتصادية الجنوبية، هي احتمال، وهناك ضغط معين يرفضها داخل لبنان، وآخر لن يمانعها".

أ.ف.ب.
لبنانيون يقفون أمام حطام منازلهم المحطمة بعد القصف الإسرائيلي على منطقة أنصارية، 4 سبتمبر 2025

وأوضح "أن الاحتمالات تقول إن هذه المنطقة هي بعمق 5 إلى 7 كيلومترات على طول الحدود مع إسرائيل لجهة لبنان. وهي لن تكون منطقة اقتصادية بأرض فارغة، بل فيها مجتمع وبيئة وتاريخ وذكريات، وفيها كل المقومات التي يتكون منها المجتمع من أكثر من أربعة آلاف سنة. وذلك يعني طرح حصول ترانسفير ديموغرافي ومجتمعي، وإزالة قرى من الوجود، وانتقال مواطنين إلى أماكن أخرى. هناك أشكال عدة للترانسفير، تبدأ بالترحيل، ثم الانتقال، ثم النزوح، ثم التهجير".

طرح أمني-سياسي بغطاء اقتصادي

يعتقد الشحيمي "أن الفكرة غير منطقية في طرحها بهذه الطريقة، ولو أنها تشكل جزءا من حل مستقبلي". وتوقع أنه "بعد تنفيذ القرار 1701 سيكون الجنوب ورشة إعمار سكني واقتصادي ومجتمعي". ورأى "أن الفكرة لا تشكل حلا، ولا وضعا مستقرا، وإن كان هناك مغريات حول شمولية الحل الأمني والسياسي. فالحل يكون أولا، بإنهاء المشاكل الأمنية والتهديدات العسكرية، وثانيا، بتثبيت الاستقرار السياسي، وثالثا، بالتفكير في عملية بناء المجتمع من هياكل سكنية، وتنظيم مدني، والتنمية بين مدن الجنوب وريفه، وصولا إلى المناطق الصناعية".

لا يوجد طرح اقتصادي واضح في هذا الشأن؛ فالموضوع يتعلق أكثر بالأمن والترانسفير البشري والمشروع الديموغرافي، الذي يحمل واجهة اقتصادية فقط. لا أرى أي ميزة تنافسية أو بعد اقتصادي حقيقي له

علي نور الدين، باحث اقتصادي

من جهته قال الباحث الاقتصادي علي نور الدين، لـ"المجلة"، "إن أية منطقة اقتصادية داخل دولة ما، تكون في إطار خطة اقتصادية للبلد بكامله. أي أنها تترافق مع ميزة تنافسية أو تجارية من ضمن منطقة معفاة من الضرائب والرسوم، أو قريبة من المرفأ أو المطار".

ولفت إلى أنه "لا يوحد طرح اقتصادي واضح في هذا الشأن. لا بل إنه موضوع أمني، وترانسفير بشري ومشروع ديموغرافي ذو واجهة، أو عنوان اقتصادي. لا أرى الميزة التنافسية، أو البعد الاقتصادي لها. لكنها ليست المرة الأولى التي تُطرح فيها مثل هذه العناوين. طرحت مثل هذه الفكرة بين كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية. كذلك الأمر في شمال غزة. إنها أفكار مفتعلة ذات هدف سياسي-أمني معين تحت عنوان اقتصادي. ومعظم الأفكار المشابهة في العالم، كانت تجارب فاشلة، لأن الاعتبارات الأمنية غلبت الاعتبارات الاقتصادية".

أ.ب.
المبعوث الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط توم براك، يتحدث في مؤتمر صحافي في بيروت 26 أغسطس 2025

 وأوضح "أن هذه الفكرة، تحتاج إلى دوافع اقتصادية ومشروع اقتصادي. عمليا، أحد أسباب هذا الطرح، هو الاستمرار في فرض المفهوم الأمني الإسرائيلي، واستبعد أن توافق السلطة اللبنانية عليه، لأنه غير واقعي، ولا يمكن الموافقة عليه بالشكل المطروح".

وقال "إن إسرائيل لا تريد عودة الأهالي إلى الجنوب لا سيما إلى المنطقة الحدودية، والبديل بالنسبة إليها هو إيجاد حل عبر فكرة اقتصادية. أنا لست ضد المنطقة الاقتصادية، لكن يجب أن تكون متكاملة وضرورية. مثلا، فإن طرح إنشاء منطقة اقتصادية كبرى في طرابلس شمال لبنان، يعتبر جيدا، ذلك أن لدى طرابلس مرفأ كبيرل وامتدادل لمنطقة المرفأ، وهي قريبة من سوريا. ومن شأن ذلك أيضا تقديم تسهيلات لكل المنطقة المحيطة، كإنشاء منطقة تكنولوجية قرب مجمع الجامعات، حيث الأساتذة والباحثون وأهل الفكر. هناك أيضا منطقة "سيليكون فالي" في الولايات المتحدة الأميركية".

اقتصاد الجنوب وهاجس الحرب

لا شك أن جنوب لبنان يلزمه وقت ليتنفس، ولبلورة واقعه ومستقبله. فعند تحقيق الاستقرار الأمني والسياسي، يصار إلى التفكير في السبل المؤدية إلى النهضة الاقتصادية، وليس العكس. من الواضح أن هذا الاستقرار مرتبط بتنفيذ القرار 1701 وتنفيذ اتفاق وقف النار الموقع في نوفمبر/تشرين الثاني 2024. 

هل يمكن التفكير فعليًا في مستقبل الجنوب الاقتصادي وسط القلق الرسمي والشعبي اللبناني من حرب جديدة محتملة؟ وأين تقع أي منطقة اقتصادية مقترحة على جدول أعمال الدول المعنية بالشأن اللبناني، وما الهدف الحقيقي منها؟

من هنا يبقى السؤال هل هناك مساحة للتفكير الفعلي في الاقتصاد في الجنوب، وسط حذر رسمي لبناني من حرب جديدة؟ وأين تقع تحديدا أي منطقة اقتصادية مطروحة على جدول أعمال الدول المهتمة بالشأن اللبناني، وما الغاية الحقيقية منها في حال كانت فكرة جدية؟ لا ريب أن مصير عملية حصرية السلاح بيد الدولة يؤثر حكما في مستقبل لبنان الاقتصادي كله وليس في جنوبه فحسب.

أ.ف.ب.
لوحات تحمل تحية للجيش اللبناني، على طول الطريق المؤدي الى مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت بيروت 5 سبتمبر 2025

يقول ديبلوماسيون لـ"المجلة"، إن طرح إقامة منطقة اقتصادية خالية من السكان، في جنوب لبنان جاء على سبيل وضع أفكار جديدة لم تكن في صلب ورقة الموفد الرئاسي الأميركي السفير توم باراك. وجاء الطرح بالتزامن مع وجود باراك، والوفد الأميركي الذي رافقه، وفي مقدمته السيناتور ليدنسي غراهام، المعروف بتعصبه لمصالح إسرائيل. وهدد غراهام بـ"الخطة ب" لنزع سلاح الحزب بالقوة، إذا فشلت الجهود السلمية والديبلوماسية. حتى أن السيناتور غراهام، الذي يُعتبر من ضمن الحلقة الضيقة للرئيس ترمب في اتخاذ القرارات، تحدث عن هذه المنطقة أثناء زيارته لبيروت، وفهم أنه يخطط لإقامة هذه المنطقة من الناقورة إلى مرجعيون، على أن يتم اقتطاع أراضٍ من 27 بلدة شيعية وسنية ومسيحية وساحلية. ولم يقدم تفاصيل حول القرى المقصودة، إنما طُرحت الفكرة بشكل أن يحصل أبناء القرى المعنية على تعويضات هائلة لترك بيوتهم.

إلا أن هؤلاء الديبلوماسيين يرون أن المواطنين اللبنانيين شديدو التعلق بأرضهم وبيوتهم وقراهم، فهم متجذرون فيها، وليس من السهل اقتلاعهم منها لإقامة أي نوع من المشاريع. كما أنهم غالبا ما ينقلبون على أي زعيم قد يوافق على مثل هذه الخطط.

font change

مقالات ذات صلة