المسرح مختبرا للحياة والفن في "حواديت" خالد جلال

عمل جماعي يقوم على الارتجال والتجريب

wikipedia
wikipedia
خالد جلال

المسرح مختبرا للحياة والفن في "حواديت" خالد جلال

على مدار مشواره الفني، قدم المخرج المصري خالد جلال نموذجا فريدا للمسرحي العاشق، مما أكسبه تقديرا مع كل عمل يخرج إلى النور حاملا توقيعه، وهو ما تجلى مع أحدث أعماله، "حواديت"، المعروض حاليا على "مسرح مركز الإبداع" بدار الأوبرا، ولا تزال لياليه ممتدة بعد فوزه بجائزة أفضل عمل جماعي في الدورة الأخيرة من "مهرجان المسرح القومي"، جاذبا المزيد من جمهور لا يبحث عن دراما أو بهرجة بقدر رغبته في معايشة تجربة مسرحية حية، تجربة تؤكد أن مشروع جلال لم يأت مصادفة ولا يمثل لحظة عابرة، بل مسارا واعيا نحو صوغ خطاب مسرحي له لغته الخاصة.

يشترك في بطولة العرض جيل جديد من متخرجي دفعات "استوديو مركز الإبداع"، المشروع الذي أسسه جلال ليكون مختبرا حيا لاكتشاف المواهب وصناعة نجوم أصبحوا اليوم من ألمع الأسماء على الساحة. كذلك هو إحدى أهم المبادرات الفنية خلال الربع قرن المنصرم، سواء بالنسبة إلى وزارة الثقافة كجهة راعية، أو إلى خالد جلال كمؤسس ورئيس للمشروع، الذي تحول بمرور الوقت من فضاء تدريبي إلى حالة مسرحية نابضة بالحياة، تتلاقى فيها الطاقات الشابة مع خبرات المخرج، فتتجلى على الخشبة روح المسرح وعفويته في أبسط صورها، بسيناريو أشبه بالسيناريو الذي تلمس فيه جلال أولى خطواته نحو المسرح.

الطريق إلى المسرح

في روما ومن خلال منحة دراسية، التقى خالد جلال بالمخرج المسرحي ومدرب التمثيل الإيطالي دانيلو كريمونتي، حيث شارك في ورشة عمل امتدت لستة أشهر حول فلسفة الارتجال. ويبدو أن هذه المدة لم تكن كافية للتعرف عن قرب الى قواعد كريمونتي في فن الارتجال، لكنها فتحت أمامه نافذة أولى على منهج مختلف ظل أثره حاضرا في تجاربه اللاحقة. قدم كريمونتي ورشة في الأداء قبل أربع سنوات ضمن فعاليات الدورة 28 من "مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي"، ورغم أن الورشة لم تتجاوز خمسة أيام، إلا أنها لاقت إقبالا كبيرا من المسرحيين الشباب الذين أُتيحت لهم فرصة التدرب على تجسيد دوافعهم الشخصية، من خلال لغة الجسد وبمساعدة الإيقاع والصوت كلما اقتضت الحاجة، لخلق العلاقة المرجوة، سواء مع الآخر والجمهور أو مع الفضاء المسرحي نفسه.

اتجه جلال إلى صوغ ارتجاله الخاص الذي بدا أكثر انفتاحا على الواقع المصري، مشبعا بروح السخرية الشعبية، ومؤسسا على تفاعل مباشر مع قضايا المجتمع الراهنة

من هذه اللغة، نسج خالد جلال، كاتبا وممثلا ومخرجا، مفردات منهجه، خصوصا في مشروع "الاستديو". فبينما يقوم ارتجال كريمونتي على ضبط صارم لإيقاع الأداء، وبناء المشهد وفق قواعد دقيقة تكاد تُحول العفوية إلى معمار محكوم، اتجه جلال إلى صوغ ارتجاله الخاص الذي بدا أكثر انفتاحا على الواقع المصري، مشبعا بروح السخرية الشعبية، ومؤسسا على تفاعل مباشر مع قضايا المجتمع الراهنة. من هنا، يتضح أن جلال لم يستنسخ تجربة كريمونتي، بقدر ما حولها إلى صيغة ارتجالية شديدة المحلية، تراوح بين الانضباط الأكاديمي وتحتفي بالفوضى الخلاقة. ومع هذا التركيز على عنصر التمثيل، تعيدنا تجربة كهذه إلى الجذور الأولى لنظرية المسرح، حين نشأ كطقس ديني يعتمد أساسا على جسد المؤدي وصوته بوصفهما مركز الفعل المسرحي وشرطه الأول.

خالد جلال بين ابطال عرض "حواديت"

مسرح المؤلف

بدأ خالد جلال مشواره الفني من خشبة مسرح كلية التجارة بجامعة القاهرة، متنقلا أيضا إلى مسرح كلية الحقوق، حيث التقى عددا من أبناء جيله قبل الشهرة والنجومية، ومنهم محمد هنيدي وخالد صالح ومحمد سعد وماجد الكدواني والسيناريست نادر صلاح الدين. في تلك المرحلة، اكتفى بالتمثيل قبل أن يخوض تجربته الإخراجية الأولى خلال عامه الجامعي الثالث بعرض قصير بعنوان "لغة الجبل"، عن نص من فصل واحد لهارولد بينتر، ومن بطولة فرقة "لقاء" التي أسسها جلال وضمت بين أعضائها مصطفى شعبان. لم يكن العرض مجرد تمرين طالبي عابر، إذ نال جائزة "المهرجان الحر الأول للمسرح المستقل"، وهو المهرجان الذي نشأ بديلا بعد إلغاء دورة "مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي" مطلع التسعينات إثر حرب الخليج. وفي الدورة التالية، أكد جلال حضوره من جديد بحصوله على الجائزة ذاتها عن إخراجه لمسرحية "المخططين" ليوسف إدريس.

لعل المفارقة أن ضيق المكان لم يمنع امتداد ليالي عروض "الاستديو"، ورغم هذا الإقبال ظلت المشاهدة من نصيب قلة من سعداء الحظ

كما هو حال معظم المسرحيين الجدد، نلاحظ أن المخرج الشاب حينها بدأ واستمر لفترة من منطقة مألوفة، بالاستعانة بنصوص كبار الكتاب مثل توفيق الحكيم ولينين الرملي ويسري الجندي، إلى جانب تجاربه مع كلاسيكيات عالمية لموليير وشكسبير، حتى أنه قدم "هاملت" وحدها أربع مرات في صيغ مختلفة. لكن هذا الاعتماد على "مسرح المؤلف" لم يكن سوى مرحلة أولى في تجربته الإخراجية الممتدة لأكثر من ثلاثة عقود، قبل أن ينتقل في السنوات الأخيرة إلى صوغ وكتابة الأعمال التي يقوم بإخراجها، المستوى التالي في مشواره، والأكثر جرأة نحو التجريب في مفهومه الأوسع، كمحاولة لا تفتعل أو تنظر، مكتفية بصورة حية نابضة بلهاث أحلام العديد من الهواة، في مساحة لا تتجاوز ثلاثين مترا هي خشبة "مركز الإبداع"، الأشبه بمسرح الغرفة. لعل المفارقة أن ضيق المكان لم يمنع امتداد ليالي عروض "الاستديو"، ورغم هذا الإقبال ظلت المشاهدة من نصيب قلة من سعداء الحظ، بعدد لا يتجاوز أمتار القاعة.

GettyImages
بيومي فؤاد

المسرح كمختبر

مع مطلع الألف الثالث، بدأ خالد جلال تجربة أول عروضه كمخرج محترف منطلقا من مسرح القطاع الخاص، من خلال مسرحية "لما بابا ينام"، بطولة يسرا وعلاء ولي الدين وحسن حسني وهشام سليم. وهو عرض مزج بين الاستعراض والكوميديا والغناء، على غرار الموجة التي سيطرت على مسرحيات العقد. في هذا العرض، بدا أن المخرج يسعى إلى اختبار أدواته وسط تيار تجاري صاخب، قبل أن يختار لاحقا مساره الأهم في المسرح. كذلك لم يكتفِ جلال في مشواره بالكتابة والإخراج أو التمثيل، فقد ظهر في أدوار عابرة في عدد كبير من الأعمال السينمائية والدرامية، منها "تيتو" و"الجماعة" و"عايزة أتجوز"، وأحيانا يلجأ إلى مشاركات مختلفة في بعض أعماله، كأن يشارك مثلا في وضع الموسيقى لمسرحية "المحاكمة" 2019. 

كما لا يخلو رصيده من محاولات عدة خاض فيها الكتابة للسينما أو للدراما التلفزيونية، معظمها لم تخرج عن الإطار التجاري الآمن، وجاء غالبها من بطولة ياسمين عبد العزيز، مثل أفلام "ثمن دستة أشرار" و"مقلب حرامية" و"أبو شنب" و"جوازة ميري" و"الآنسة مامي" ومسلسل "هربانة منها". في المجمل، يبدو مسار خالد جلال مزيجا من نزعة تجريبية ورغبة في المواءمة مع الذوق السائد، مما يجعل تجربته ذات طابع انتقالي بين مفهومَي الفن الهادف والفن التجاري، دون أن تحسم موقعها بينهما بشكل كامل، رغم حصيلة مسرحية تجاوزت 80 عرضا.

نجح المشروع في لفت الأنظار من خلال دفعاته المتعاقبة وما تخبئه من مواهب يكشف عنها الستار تباعا

بعد عودته من منحة روما، تولى إدارة مسرح الشباب وهو لم يتجاوز بعد الثامنة والعشرين من عمره، ليكون بذلك أصغر مدير في تاريخ المسرح المصري. لذلك لم يكن مستغربا أن تكون احتياجات الشباب ضمن قائمة مهامه، منطلقا بورشة في الأداء وإعداد الممثل، كانت النواة الأولى لمشروع "استديو مركز الإبداع"، ذلك المكان الذي بقي حتى مطلع الألف الثالث مجرد مخزن مهجور للمركز، قبل أن تستجيب وزارة الثقافة إلى المشروع الذي تقدم به جلال بتحويله إلى استديو للمواهب، خرّج عددا من الدفعات المتميزة. فمع الإقبال المتزايد الذي يتجاوز آلاف الطلبات، تولدت من الدفعة الواحدة دفعات عدة، سواء من طريق الدراسة الرئيسة، التي قد تصل إلى سنتين ومدعومة ماليا من الوزارة، أو من طريق الدراسة المدفوعة للدورات المركزة التي لا تتعدى ستة أشهر.

AFP
محمد فراج وبسنت شوقي

منذ انطلاقه، نجح المشروع في لفت الأنظار من خلال دفعاته المتعاقبة وما تخبئه من مواهب يكشف عنها الستار تباعا. البداية كانت مع الدفعة الأولى، "أيامنا الحلوة"، ويأتي في مقدمتها من الأسماء بيومي فؤاد وسامح حسين. وفي عرض "بعد الليل"، تدخل نور قدري عالم التمثيل بعد عملها كمذيعة، حيث لم يقتصر المتدربون على الوجوه الجديدة أو الهواة فحسب. في 2004 جاءت دفعة "هبوط اضطراري"، إحدى أصغر الدفعات عددا (20 متدربا)، وضمت أسماء مثل نضال الشافعي وياسر الطوبجي ومحمد شاهين، بينما اشترك في وضع الموسيقى  د. طارق شرارة وعازف العود العراقي نصير شمة. وقدم المشروع دفعة شهيرة من خلال "سينما مصر"، التي بدأت كعرض مسرحي بمشاركة 67 متدربا من قسم التمثيل، قبل أن تتطور الفكرة لاحقا لتأخذ شكل "الفوازير". ولا تزال الدفعات تتوالى من "حلو الكلام" حتى "بوستة وحاجة تخوف" في العام الماضي.

فانتازيا

في 2017، انتقلت دفعة "سلم نفسك" إلى المسرح الكبير بالأوبرا لعرض حفلة خاصة. تدور أحداث العرض في إطار فانتازي، حين يتحول مواطن مصري إلى موضوع للتجربة داخل مختبر مستقبلي. ومع تفكيك الملفات الذهنية المخزنة في رأسه، تنكشف سلسلة من السلوكيات السلبية اندثرت من حياة البشر بعد أن تطهرت البشرية من آثامها نحو مستقبل مثالي، إلا أن ملفا واحدا يبقى عصيا على الاختراق أو الكشف، كونه أقرب إلى العقيدة منه إلى سلوك مكتسب، متمثلا في ملف الانتماء الوطني، وهو عصي الإدراك حتى على العالم المستقبلي، لذلك لم يكن من الغريب أن يظهر في ختام العرض كقيمة راسخة تحتفي بالهوية وتعيد طرح معنى التضحية من أجل الوطن، متمثلا في رجال الجيش والشرطة.

يبدأ كل عرض بعصف ذهني جماعي لتوليد الأفكار والثيمة العامة، قبل أن يتحول إلى تجربة حية على الخشبة، ويتجلى ذلك بوضوح في العرض الأخير، "حواديت"

أما مسرحية "قهوة سادة"، فلا شك في أنها الأكثر شهرة في تاريخ مشروع ورش الارتجال والتمثيل المسرحي، رغم أن ميزانيتها لم تتجاوز 22 ألف جنيه (ما يقارب 500 دولار). انطلق العرض في 2008 محققا على مدار عامين 365 ليلة عرض، فيما تكونت الدفعة من 36 ممثلا، خرج منها أكبر عدد من النجوم مقارنة بسابقتها، منهم محمد عبد السلام (الذي اختصر اسمه لاحقا إلى محمد سلام)، إضافة إلى محمد فراج ومحمد ثروت وهشام إسماعيل وحسام داغر ومحمد فهيم والمطرب أمير صلاح الدين. عالجت المسرحية عددا من الموضوعات المجتمعية المختلفة مثل تأخر سن الزواج، ثقافة القبح، الفتاوى الدينية، الغلاء، الهجرة غير الشرعية، وانهيار اللغة العربية.

ابطال عرض "قهوة سادة"

أن تكون جزءا من الحكاية

تنطلق الحالة المسرحية في "الاستوديو"، من فلسفة ورشة العمل والارتجال، حيث يبدأ كل عرض بعصف ذهني جماعي لتوليد الأفكار والثيمة العامة، قبل أن يتحول إلى تجربة حية على الخشبة. يتجلى ذلك بوضوح في العرض الأخير، "حواديت"، الذي يراهن على استخدام أمثل للعنصر البشري، في صوغ أقرب إلى فن الأكابيلا، حيث يعتمد التطريب على الطبقات المختلفة لصوت الإنسان منفردا، دون الحاجة إلى مؤثرات إضافية. هنا، يمارس خالد جلال في معمله التقطير الأمثل لإمكانات الممثل، بما يتماشى مع رؤية جيمس هاميتون القائلة بأن الأداء المسرحي ليس مجرد إضافة للنص الدرامي، بعكس ما كان يعتقد أرسطو، فالممثلون ليسوا أدوات لتجسيد النص، بل شركاء حقيقيون في بناء العالم المسرحي.

وبينما تتكون المشاهد في صورة لوحات متصلة منفصلة أقرب إلى اسكتشات، ينتج من هذا فسيفساء بصرية ترتكز أساسا على العنصر البشري، مع استخدام محدود للإكسسوارات والإضاءة والسينوغرافيا والموسيقى. كما يظهر الفريق المشارك كشاهد على الأحداث، أو مشاركا في الأداء الغنائي والحركي، واستخدام مقاطع بطيئة لإظهار القدرات المنفردة (سلو موشن)، مع احتفاء متكرر بمشاهد من المسرح الكلاسيكي، وحضور دائم لتراث الفن المصري الغنائي والسينمائي، في الربط بين الفقرات أو كخلفية. كذلك تتنقل الحواديت ببراعة بين الكوميديا والتراجيديا والطرح الساخر، لتؤكد أن المسرح يمكن أن يكون تجربة حية، تعتمد على قدرات الممثل وتفاعله مع المادة الدرامية والجمهور، وليس مجرد تنفيذ نص مكتوب، إن وجد من الأساس.

يتكون عرض "حواديت" من نحو عشرين حكاية، متفاوتة الطول لكنها قصيرة في العموم، تتشابك أحيانا، وتنفصل أحيانا أخرى، مخترقة حيز الزمان والمكان كما في كتاب الحكايات الأم في "ألف ليلة وليلة"، لذلك تنطلق بعض الحكايات من منطقة خيالية، أقرب إلى الأحلام، لتبدأ من قرية متخيلة وتنتهي بمردة وشياطين، حيث يمتزج الواقع بالأسطورة، وتستدعى ثيمات مألوفة مثل "عروس النيل" و"النداهة"، وثنائيات العاشقين من التراث العربي أو المصري الحديث.

كما يحرص المخرج على أن يكون جزءا من الحكاية، فيقدم استهلالا لتجربة "الاستديو"، موضحا أن جميع الحكايات تنطلق من أمنيات بسيطة لأصحابها، لا تحتاج سوى القليل لتحقيقها، هذا القليل الذي يذكرنا بشخصية صموئيل بيكيت في "انتظار غودو"، حيث لا شيء يأتي على نحو متوقع. وهنا يقنع الجميع بأن "الكلام ده بيحصل في الحواديت". في الختام، يؤكد العرض أن القصص لا تنتهي، وأن الحكايات حية "ما دامت هناك عيون ترى وقلوب تصدق"، حينئذ لا مناص من توريط المشاهد على امتداد الحكاية: "من منكم يحيا من غير حكايات، دقات فؤاد، وبذور حياة... في كشف حكايتنا، أنت وأنتِ اسم من بين الأسماء".  

font change

مقالات ذات صلة