صحيح أن اللغة الفصحى من أهم مكونات الثقافة العربية، وقد قدم كثير من المسرحيات في القرن الماضي وفي بدايات القرن الحالي بها، وتقبلها المتفرجون في الزمنين، وحتى عندما بدأ استخدام العامية لم يمانع المتفرج العربي، باعتبار أنها هي أيضا لغته الوطنية، والأهم أن النوعين قُدّما بسهولة نسبية، فلم يجد المتفرج صعوبة في الأول، ولا ضعفا في الثاني. كذلك، لم يجد الممثلون الذين نطقوا بهما مشكلة كبرى، فأدوا كما يجب، لفظا وجملة وإيقاعا، سواء في التلفزيون أو في المسرح، خصوصا عندما يصبّ ذلك في خدمة العمل الدرامي.
ومن هنا نكرر أن الانحياز لاستخدام الفصحى أو العامية، يبقى شرط أن يكون النص مكتوبا ومشغولا بطريقة ينتمي فيها إلى شروط العرض وأغراضه الدرامية.
مشكلة لغة الحوار حُلت، وإن شكليا، في السينما العربية، لكنها ما زالت معلقة في التلفزيون. هذه المشكلة، إذن كانت تبرز ظاهريا، في ازدواجية الفصحى والعامية (ومحاولة اعتماد الفصحى بالنسبة إلى تعددية العامية في البلدان العربية واختلاف لهجاتها)، فإنها تبقى في أساسها مرتبطة بمفهوم الحوار ودوره ضمن النسيج الدرامي.
إذا كان البعض يعتبر أن الفصحى، وخصوصا الأدبية والإنشائية، بانفصالها عن إيقاع الحياة اليومية، لا تُحكى، أي لا تدخل في السياق الدرامي، فليس معنى ذلك أن كل عامية، لارتباطها الأصلي بالمعاش، تُحكى، بمعنى إسهامها كعنصر من العناصر الدرامية.
هذا الالتباس يعود في المقام الأول إلى تصور خاطئ لدور الحوار وبالتالي للغته. فمعظم كتاب الحوار عندنا يعتبر أن الموقف في السينما والتلفزيون هو نتيجة الكلمة (أي نتيجة الحوار). هذا التصور عائد إلى الخلط بين طبيعة العمل المسرحي وطبيعة العمل السينمائي، لأننا نجد أن هذه الوظيفة المركزية للكلمة بعلاقتها بالموقف هي من صميم العمل المسرحي. في الوقت الذي ينبغي أن تخرج الكلمة، في العمل السينمائي، من الموقف ذاته. فهي أي الكلمة في السينما، لا تكمن مهمتها في إضافة أفكار إلى الصورة، بل في خلق حيّزها الخاص. ولهذا، فالحوار ليس امتدادا لفظيا لموقف ما، وإنما يُشكل مرتكزا دراميا أو نفسيا بالنسبة إلى التعبير البصري، فالصورة والنص يشكلان في النهاية إيقاعا واحدا.
الحوار ليس امتدادا لفظيا لموقف ما، وإنما يُشكل مرتكزا دراميا أو نفسيا بالنسبة إلى التعبير البصري، فالصورة والنص يشكلان في النهاية إيقاعا واحدا
قال كاتب السيناريو والروائي الفرنسي ألكسندر أرنو (1884-1973): "الفيلم الذي تتكلم فيه الشخصيات ليس بالضرورة فيلما ناطقا، فيمكن أن يكون مهزلة مصورة، نسخة رخيصة، وسيلة تبسيط لعمل مسرحي". وبهذا المعنى، "فالسينما الصامتة لم تكن خرساء عندما كانت الصرخات والأصوات جزءا من الوصف أو من السلوك، كانت تُسمع من قبل المتفرج"، أي إن الحوار يشكل جزءا من الحركة. ومن تطور الحياة ضمن المسافة الدرامية المرسومة. لهذا ينبغي أن يعطي الحوار انطباعا بالمعاش، "ينبغي أن يخرج من أفواه الشخصيات وليس من ذاكرة الممثل".
يفترض هذا ضرورة أن تكون الكلمات صالحة "للحكي" بحكم وظيفتها الدرامية، وليس للإلقاء والتطريب من خلال تركيب جمل طنانة رنانة مسبوكة ومصاغة صياغة أدبية أنيقة. أي أن تكون وسيلة من ضمن وسائل درامية محددة لا أن تكون غاية "فنية" في نفسها فتقع في الأدب، إذ ليس أسوأ وأثقل من هذه الفرائد البلاغية والبيانية والبديعية في الحوار. إنها تخون اللغة السينمائية. الأدب شيء والحوار السينمائي والتلفزيوني شيء آخر. ومن هذه المنطلقات ننظر إلى استعمال الفصحى في المسلسلات التلفزيونية، ومن خلال مفهومنا للحوار ينبغي أن تُبحث المشكلة، باعتبار أن معظم كتاب الحوار ينظر إليهم من منظور أدبي صرف. فإذا استطعنا من خلال فهمنا لدور الكلمة في الوسائل البصرية-السمعية أن نحول الفصحى من لغة أدبية إلى لغة حوار تزول المشكلة.
والعامية، في هذا الإطار، تشكل أيضا قضية: إذ ليست كل عامية محكية. نلمس هذه الهوة السحيقة في المسلسلات اليومية، فالمشكلة الأساسية ليست إذن في استعمال الفصحى أو العامية، بل في تحديد دور الكلمة في العمل السينمائي والتلفزيوني.
ولهذا، فحل هذه المشكلة لا يمكن أن يتم من نظرة خارجية لفظية لازدواجية الفصحى والعامية، كأن تطرح مثلا محاولة تبسيط الفصحى أو تطويعها بشكل قسري، أو محاولة المزج بين العامية والفصحى بطريقة مفتعلة ومفبركة، فالقضية أبعد من ذلك وتتصل بجوهر البنية الدرامية، لا بالمشكلة اللغوية البحتة. من هنا، فإن الأدباء وكتاب المسرح أبعد ما يكونون عن طرح حلول جذرية لها، لأن مفاهيمهم الأدبية أو المسرحية تختلف تماما عن المفاهيم السينمائية والتلفزيونية.
الحوار الحقيقي هو الحياة الدرامية نفسها، هو الحركة والسلوك، وهذا ما يجعل سمته الأساسية العفوية وإيقاع العيش اليومي وإيصال الفكرة
فنحن في العالم العربي، لا نفرق بين الأديب والشاعر والمسرحي وبين كاتب الحوار الذي يتصوره البعض أديبا، لأننا ما زلنا أسرى الألفاظ والكلمات، تتحكم بنا نظرة خاطئة تقول إن الحوار يشكل جزءا من التعبير الأدبي. والحقيقة أن الحوار السينمائي هو نقيض الأدب (من الناحية اللغوية)، وحين يقوم على الإنشاء والتطريب، يصبح نقيض الحركة، نقيض السلوك.
الحوار الحقيقي هو الحياة الدرامية نفسها، هو الحركة والسلوك، وهذا ما يجعل سمته الأساسية العفوية وإيقاع العيش اليومي، وإيصال الفكرة، وليس أن يكون "جميلا" أو "مؤثرا" في حدّ ذاته.