هبة خليفة لـ "المجلة": الطريق الوحيد إلى الخارج يمر عبر الداخل

فازت بالجائزة الشرفية في "لقاءات آرل الفرنسية للفوتوغرافيا" لهذا العام

هبة خليفة لـ "المجلة": الطريق الوحيد إلى الخارج يمر عبر الداخل

في مشروعها "عين النمرة"، تستقبلنا المصورة الفوتوغرافية المصرية هبة خليفة بصورة شخصية تعود إلى تسعينات القرن الماضي، لشابة محجبة تحمل وجهين، أحدهما في وضعه الطبيعي ينظر إلينا، والآخر في وضع مقلوب، يصر أيضا على التحديق فينا. نقطة الارتكاز في الوجهين المتلاحمين، هي العينان. تتكرران، تحاولان مقاومة أثر التشوه، لكنهما تظلان مشوهتين. وحده ظل الشابة على الحائط خلفها، يفرض حضوره القاتم والمتماسك.

في الصورة التالية مباشرة، تعطينا خليفة عتبة نصها الفوتوغرافي: كنبة بلدي مصغرة، كأنها مثبتة على الحائط، تتناثر حولها وعليها مسامير معدنية صغيرة، نتخيل أن القعود عليها أو مجرد الاتكاء، مهمة شاقة وأليمة. إنه عالم البيت الذي كبرت فيه الشابة الأولى. يذكرنا نحن النساء، بأن كل قسوة لحقت بنا في الخارج، حدثت أولا في البيت.

كتاب "عين النمرة" الذي صدر أخيرا في القاهرة، عن "وزيز للنشر والتوزيع"، يتضمن أيضا نصا مكتوبا بالعامية. إنه يرافق القراء، "فقط إذا رغبوا في قراءته"، كما تقول المصورة وكاتبة النص، ويسمح بتخيل المزيد حول عوالم الصور التي نطالعها.

يأخذنا "عين النمرة" في زيارة عكسية إلى عالم المصورة، الواقفة وراء العدسة لا أمامها. إلى لحظات متباينة من تاريخ عائلتها، إنما أيضا من تاريخ مدينة القاهرة، تاريخها الشخصي والإنساني ربما. في صورة أخرى لافتة، باستخدام الكولاج، تستلقي هبة خليفة متعبة فوق سطوح بعض بيوت القاهرة القديمة، سارحة في زاوية من السماء الضيقة.

هدف الفن ليس الوصول إلى صيغة محددة ومعروفة سلفا، إنما الهدف خوض الرحلة والانفتاح على الاكتشاف، وإن كان هذا الاكتشاف أليما في بعض مراحله


 يبدو "عين النمرة" فيلما سينمائيا يريد أن يروي حكاية ما، ذاتية طبعا، لكنها ترحب بحكايات الآخرين، كعادة مشاريع هبة خليفة الفوتوغرافية. في الحوار التالي، نزور ذاكرة هبة خليفة، ونحاول استكشاف مشروعها الذي فاز بالجائزة الشرفية في فعالية لقاءات آرل الفوتوغرافية، وهو مهرجان سنوي للفوتوغرافيا، يقام سنويا خلال فصل الصيف، في مدينة آرل جنوب فرنسا، منذ العام 1970. 

أرواح وأصوات

ميلودي روندين
من المعرض

أصوات

يبدو مشروعك أقرب إلى فيلم سينمائي، كادراته ثابتة، وصامتة لكنها مسكونة بعشرات الأرواح والأصوات، فكيف بدأت هذه الرحلة؟

ربما بدأت وأنا بعد مراهقة، في التاسعة عشرة، وربما قبل ذلك. كبرت في بيت كانت جدرانه عارية باستمرار. حين عثرت بالمصادفة على كاميرا أبي الراحل، بدأت أصور كل شيء أمامي. ومنذ ذلك اليوم، أصابتني "حمى التصوير". حين التحقت بكلية الفنون الجميلة لدراسة ديكور السينما والمسرح، لم أجد في نفسي ميلا إلى تلك الصرامة الأكاديمية في مقاربة الفن. شعرت باللا إنتماء، وبدأت أبحث عن هويتي. إلى أن توصلت بالمصادفة إلى تقنية الكولاج، وبعد ذلك اتخذ التصوير بالنسبة إلي بعدا آخر.

هل شعرت آنذاك، أنك تريدين أن تصبحي مصورة فوتوغرافية وليس مهندسة ديكور؟

حدث هذا بالتدريج، عملت لبعض الوقت متطوعة في جمعية لرعاية الأطفال المتسربين من التعليم. بعد أن انتهى تعاوني مع الجمعية، وجدت معي عشرات الصور لأولئك الأطفال، وبدأت أتساءل عن مغزى الصورة. هل تؤكد الحضور أم الغياب؟ قررت أن أجمع الصور في معرض فوتوغرافي وأسميه "غياب مؤقت". في ذلك الوقت، كنت أجرب تقنية الكولاج مع صور أفراد عائلتي. إزاء النتيجة، مستني "كهربا"، وشعرت للمرة الأولى بمعنى الفن.

 ميلودي روندين
من المعرض

الرحلة والاكتشاف

كيف تصفين مقاربتك الشخصية للفن؟

هدف الفن ليس الوصول إلى صيغة محددة ومعروفة سلفا، إنما الهدف، بالنسبة إلي، هو خوض الرحلة والانفتاح على الاكتشاف، وإن كان هذا الاكتشاف أليما في بعض مراحله. لم أكن أريد أن أبقى حبيسة التقنية. خلال إقامة فنية في سويسرا، أجريت تجارب عديدة على الصور المطبوعة، على تفاعلها مع الأغراض أو الأشياء التي نضيفها إليها عبر الكولاج. بالنسبة إلي، لا تزال النتيجة غير قابلة للوصف.

عملت بعد ذلك، مصورة صحافية، والصورة الصحافية تختلف عن الصورة الفنية، لا يمكنك مثلا أن تجربي معها الكولاج؟

بالضبط التصوير الصحافي، جعلني أتعامل مع الصورة "كوثيقة". لكن العمل في الصحافة نفسه جاء مصادفة. وقد سمح لي بزيارة مدن في مصر، وأحياء لم يخطر لي من قبل زيارتها. اكتسبت أيضا مهارة الكلام مع الناس، وكسب ثقتهم. كان مواطنون عاديون، يعلقون على صوري المنشورة في جريدة "الشروق"، يحسونها قريبة منهم. مع ذلك، لم أشأ أن أبقى طويلا في مرحلة الصورة الصحافية.

الأمومة

بين عامي 2013 و 2014، اشتغلت على مشروع فوتوغرافي عن صعوبات الأمومة، كان هذا قبل حتى أن تصدر إيمان مرسال كتابها المؤثر "عن الأمومة وأشباحها". هل تحدثيننا عن هذا المشروع؟

كنت أنجبت ابنتي ورد، أعمل كمصورة صحافية، وأمر بتجربة الانفصال. فترة صعبة. لكنها أعادتني بشكل ما إلى الفن. بدأت أفكر في مشروع "من الداخل"، وألتقط صورا في بيتي، لي مع ورد. حين عرض المشروع للمرة الأولى على الناس.

لا يفترض بالجسد أن يكون عبئا على صاحبته. أردت أن أستكشف هذا الألم، مع نساء حقيقيات من لحم ودم وتجارب، وليس موديلات


صدم البعض، وسمعت تعليقات من نوع "إن كانت الخلفة صعبة كدة، بتخلفوا ليه؟". طبعا خفت هذه التعليقات اللاذعة مع الوقت. ومع ذلك، لا تزال هناك أصوات مهاجمة ترفض التعبير الحميمي للنساء عن أنفسهن في مشاريع فنية. هنا حوار معها.

أشعر أن كل مشروع فوتوغرافي لك، يؤدي بالضرورة إلى المشروع التالي. مثلا حين شاهدت "عين النمرة"، تذكرت على الفور مشروع "صنع في البيت"، عن علاقة النساء الشائكة بأجسادهن؟

في "صنع في البيت"، لم يكن حولي مقتنعون بإمكان تحويل البيت إلى مساحة للتصوير. لكني فعلت ذلك. دعوت مجموعة من النساء والفتيات إلى بيتي. تشاركنا الحكايات والتقطت لهن صورا. لم يكن سهلا بالنسبة إليهن. لكنه كان أليما لي أيضا. لا يفترض بالجسد أن يكون عبئا على صاحبته. أردت أن أستكشف هذا الألم، مع نساء حقيقيات من لحم ودم وتجارب، وليس موديلات. أنا أيضا استكشفت ألمي معهن. لم يكن ممكنا أن أدفعهن لخوض هذه الرحلة، من غير أن أخوضها بنفسي.

 لين تيفينون
من أجواء المعرض

الشغف

من هنا تستشهدين في النص المكتوب، بعبارة من جحيم دانتي: "الطريق الوحيد إلى الخارج يمر عبر الداخل"؟

بالضبط. هذه المشروعات الفوتوغرافية، هي رحلات بدأتها من مكان، وانتهت في مكان آخر تماما. لكني لست مشغولة كثيرا بما ستكون عليه النتيجة النهائية، أترك الشغف يدفعني وكذلك الأسئلة. مثلا "عين النمرة" بدأ بفكرة عن مرحلة المراهقة. واتخذ اتجاها آخر، حين عثرت على الصورة تلك التي أشرت إليها في البداية ودونت خلفها، وأنا بعد صغيرة: "ده وشي الحقيقي". هذا الاكتشاف حفز اكتشافات أخرى، في رحلة استغرقت ثمانية أعوام. جربت خلالها التأمل، والتأمل بالرسم، وحتى التنويم المغناطيسي من بين تقنيات أخرى.

نلاحظ في صور المشروع، تكرار بعض الأغراض مثل الزجاجات البلاستيكية المعاد استخدامها، وحتى البحر الذي يظهر في سماء إحدى الصور. وكأنه عالم الطبقة المتوسطة المصرية في زمن محدد وخيالها ذلك الذي يتجلى في الصور...

هذا صحيح. كبرت وبيتنا مزدحم دائما بالزجاجات البلاستيك المعاد استخدامها من الألوان والأحجام كافة. أتصور أن عائلتي كانت تمارس الفن، من غير أن تدرك ذلك تماما. الإمساك بالكاميرا والتصوير في البيت، كان يعني إظهار كل هذا العالم، وتلك التفاصيل إلى النور. منذ البداية انتبهت إلى أن الكاميرا هي أداة اختفاء. إنها تخفي مصورها، وإن كنت مارست الاختفاء فعلا في بعض الأوقات- سواء في التصوير أو الواقع- فقد أردت أيضا أن أعكس الآية. أن أجعل الكاميرا تنظر إلى الوراء، إلى المصورة نفسها هي وعالمها.

المسكوت عنه

هل تعتقدين أن رحلتك كفنانة هي أيضا رحلة جرأة، وتصريح بقسم من غضب النساء المسكوت عنه؟

أعتقد أن رحلتي مع الفن، هي رحلة تصاعدية الجرأة. مع إدراكي التام لطبيعة الضغوط التي تحاصر النساء المهتمات بالفن النسوي. مثلا، حين تتلقى أعمالنا في الخارج، ينتظر منا أن نؤكد الفكرة التي تربط عذاب الجسد الأنثوي حصرا بالمجتمعات العربية. هذا غير صحيح. لأن معاناة النساء الجسدية، تحدث في كل مكان من العالم.

بحثت عن الكتابة التي تستخدم اللغة العارية، عبر السماح بتدفق الأفكار والذكريات في تيار وعي، أثارته الصور نفسها، والرحلة التي خضتها خلال التصوير


 وهكذا فإن النضال النسوي هو في طبيعته نضال كوني. في فرنسا مثلا، سررت بتفاعل شابات فرنسيات وشباب مع صوري. البعض جاء يعبر لي عن تأثير اللوحات، برسم قلب في الهواء، لأنهم مثلا لا يجيدون اللغة الإنكليزية. من أجل هذا التفاعل الشخصي، الإنساني، والحميمي أصنع فني.

لماذا كتبت النص المرافق للصور، وكان يمكنك الاكتفاء بعرض الصور من دونه، علما أن قراءته ليست سهلة، كما أتخيل أن كتابته لم تكن سهلة؟

 النص لم يقع ضمن خطتي الأولى للمشروع. لكن أثناء رحلة التصوير والاكتشاف الشخصي الطويلة، ظهرت في رأسي الفكرة وتشبثت بها. أظن أنني قاربت الكتابة من زاوية مختلفة. بحثت عن الكتابة التي تستخدم اللغة العارية، عبر السماح بتدفق الأفكار والذكريات في تيار وعي، أثارته الصور نفسها، والرحلة التي خضتها خلال التصوير. يمكن قراءة النص مصحوبا بالصور، مع ذلك، يمكن أيضا عدم قراءته والاكتفاء فعلا بالصور. وأنا مدينة في تحريره، و"عمل مونتاجه" إلى الفنان الليبي عمر جيهان، فقد أدرك حساسية النص، وأضاف إليه لمساته الدقيقة.

 يولالي بيرنليه
هبة خليفة خلال حفل التكريم

هل تحدثيننا أخيرا عن جائزة آرل الشرفية التي حصلت عليها؟

كانت مفاجأة سارة جدا. حين أعلنوا اسمي، بقيت لوهلة صامتة ومذهولة. حتى طلبوا مني الصعود إلى المسرح. كنت سعيدة جدا بالطبع، أهديت الجائزة إلى أهلي، وابنتي ورد. ثم قلت "تحيا فلسطين"، فضجت القاعة بالتصفيق.

 

 

font change

مقالات ذات صلة