الاعتراف بالدولة الفلسطينية بين قيادة الرياض وبوصلة عمّان

الرمزية رغم محدوديتها تبقى حاضرة

الاعتراف بالدولة الفلسطينية بين قيادة الرياض وبوصلة عمّان

استمع إلى المقال دقيقة

خلال الأيام الماضية، بدا العالم وكأنه يعيش استرجاعا لمشهد قديم، لحظة إعلان الدولة الفلسطينية في الجزائر عام 1988، حين وقف ياسر عرفات أمام المجلس الوطني الفلسطيني ليعلن الاستقلال، فتدفقت الاعترافات من عواصم عديدة، ارتفع الأمل واشتعلت الرمزية، لكن الواقع بقي صلبا كما هو: الاحتلال ظل قائما، المستوطنات استمرت في التمدد، القدس ازدادت عزلة، وغزة ظلت تحت حصار خانق، واليوم تتكرر الصورة نفسها تقريبا، دول كبرى وصغرى تعلن اعترافها بفلسطين، تصفيق دبلوماسي في قاعات الأمم المتحدة، بيانات رسمية تحمل عبارات التضامن، لكن الفلسطيني الذي يمر عبر حاجز عسكري في الخليل أو نابلس يعرف أن شيئا لم يتغير، وأن الاعتراف لا يوقف تفتيشا مذلا، ولا يؤجل اقتحاما فجائيا.

الاعتراف الدولي بدولة فلسطين ليس بلا معنى، فهو يمنح الفلسطينيين شرعية مضافة، ويعطيهم أدوات قانونية، يمكن توظيفها في المحافل الدولية، كما يتيح لهم هامش حركة أوسع في المنظمات الأممية، لكنه يظل رمزا محدود الأثر أمام جدار الاحتلال الصلب، إسرائيل لا تزال صاحبة اليد العليا، تتحكم في الحدود والمعابر، وتقرر متى تفتح طريقا ومتى تغلقه، تزرع مستوطنة وتهدم بيتا، وتتعامل مع شعب كامل، كأنه يعيش داخل سجن كبير، في مثل هذا الواقع يصبح الاعتراف أشبه برفع العتب، أداة تهدئة للضمائر الغربية، أكثر منه خطوة لتغيير موازين القوة على الأرض.

لكن الرمزية رغم محدوديتها تبقى حاضرة، هي تضيء ذاكرة الفلسطينيين، وتمنحهم شعورا بأن العالم لم ينسهم تماما، غير أنها لا تتحول إلى خطة تنفيذية، ولا إلى مسار سياسي، فكما كان إعلان 1988 لحظة تاريخية بلا تطبيق، تبقى الاعترافات الحالية مهددة، بأن تكون مجرد جملة في سجلات الأمم المتحدة، بانتظار إرادة سياسية حقيقية توقف الاستيطان، وتطلق مسارا تفاوضيا ملزما.

تضع السعودية شرطا واضحا، أن لا تطبيع ولا علاقات استراتيجية مع إسرائيل من دون مسار حقيقي نحو الدولة الفلسطينية

في هذا السياق، جاء الموقف الأردني متوازنا وحاسما، فخطاب عمّان لم ينجر إلى أجواء الاحتفاليات، ولم يكتف بالتصفيق السياسي، بل ركز على الاستحقاق العملي، الحل لن يكون من دون مسار واضح نحو الدولتين، ولا قيمة لأي رمزية ما لم تتحول إلى آلية ضغط توقف الاستيطان، وتجبر إسرائيل على الاعتراف بحق الفلسطينيين في السيادة، وقد عبّر الملك عبدالله الثاني عن هذا الموقف بوضوح في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما قال: "إن الصمت قد يعني قبول الوضع الحالي، والتخلي عن إنسانيتنا، لكننا في الأردن لن نصمت، ولا يمكن للعالم أن يستمر في تجاهل معاناة الفلسطينيين، أو القفز فوق استحقاق قيام الدولة الفلسطينية".

هذا الخطاب لم يكن مجرد موقف سياسي عابر، بل امتداد لنهج أردني مستمر، يجمع بين المبدأ والعمل، فإلى جانب المرافعة السياسية المتواصلة في الأمم المتحدة والمحافل الدولية، قاد الأردن جسورا جوية وبرية لإيصال المساعدات إلى غزة، وشارك في عمليات إسقاط جوي مشتركة، وفتح ممرات إمداد رغم المخاطر، وعندما تعرضت القوافل الأردنية لاعتداءات من مستوطنين، لم يتردد في تسمية الأمور، ووضع إسرائيل أمام مسؤولياتها، ليكتسب الموقف بعدا أخلاقيا يضاعف صداه السياسي.

وليس بعيدا عن هذا المشهد، بروز الدور السعودي كعامل حاسم في صياغة الموقف الإقليمي، السعودية اليوم ليست مجرد دولة مركزية في العالم العربي، بل القائدة الفعلية لإقليم يمر بتحولات كبرى، وهي التي تملك مزيجا نادرا من النفوذ الاقتصادي والسياسي والديني، وهو ما يمنح صوتها وزنا مضاعفا. منذ سنوات والسعودية تضع شرطا واضحا، أن لا تطبيع ولا علاقات استراتيجية مع إسرائيل من دون مسار حقيقي نحو الدولة الفلسطينية، وهو موقف لم يتزحزح رغم كل الضغوط، فمعادلة الرياض تقوم على أن أمن المنطقة واستقرارها، مرهون بإنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة.

هذا الموقف السعودي يشكل مظلة استراتيجية للموقف الأردني، فبينما يركز الأردن على التفاصيل اليومية، بحكم الجغرافيا والتداخل المباشر مع الضفة الغربية والقدس، تقدم السعودية الغطاء الإقليمي الواسع، فهي التي تقود العالمين العربي والإسلامي في المحافل الدولية، وهي التي تستطيع أن تربط بين أي تفاهمات كبرى في المنطقة، وبين القضية الفلسطينية، بهذا المعنى يشكل الموقفان معا معادلة ضغط لا يمكن تجاوزها، عمّان تحفظ البوصلة، والرياض توفر الغطاء الاستراتيجي، وفي لحظة يغلب فيها الرمز على الفعل، تصبح هذه الثنائية ضرورة لضمان أن لا تتحول الاعترافات إلى مجرد كلمات عابرة.

القضية ليست في عدد الدول التي تعترف، بل في الإرادة السياسية التي تجبر إسرائيل على القبول بمسار حل الدولتين

المفارقة أن بعض الدول التي تتسابق اليوم للاعتراف بفلسطين، هي نفسها التي وفرت الغطاء للاحتلال لعقود، وغضت الطرف عن سياسات التهويد والاستيطان، بل دافعت عن إسرائيل في مجلس الأمن وفي كل المحافل، واليوم حين تنطق بكلمة اعتراف تحاول أن تسوّق لنفسها صورة أخلاقية أمام شعوبها، لكنها في العمق لم تغير من سياساتها الفعلية تجاه الاحتلال، وهذا ما يدركه الفلسطينيون جيدا، ويقرأه الأردن والسعودية بوعي أكبر، لذلك لا يفرطان في الخطاب، ولا يبيعان الوهم، بل يصران على أن لا قيمة لأي اعتراف ما لم يتحول إلى أدوات ضغط توقف الاستيطان، وتطلق مسارا تفاوضيا ملزما.

الرهان على الاعتراف وحده، إعادة إنتاج لمشهد الجزائر عام 1988، لحظة جميلة في الذاكرة لكنها لم تتحول إلى واقع، والرهان على الرمزية وحدها، أشبه ببناء قصر على الرمال، يلمع تحت الشمس لكنه يتهاوى عند أول اختبار، أما الرهان على التكامل بين الدور السعودي كقائد إقليمي والدور الأردني كبوصلة ميدانية فهو الطريق الواقعي، لأنه يجمع بين الشرعية السياسية والغطاء الإقليمي، ويضع إسرائيل أمام استحقاق لا يمكن تجاوزه.

في النهاية، القضية ليست في عدد الدول التي تعترف، بل في الإرادة السياسية التي تجبر إسرائيل على القبول بمسار حل الدولتين، عندها فقط يصبح الاعتراف لبنة حقيقية في بناء الدولة الفلسطينية، لا مجرد حبر على ورق، وعندها فقط ينقلب المشهد من احتفالية رمزية إلى واقع سياسي قابل للحياة، أما ما لم يحدث ذلك، فسيظل الفلسطينيون عالقين بين رمزية الاعتراف وواقعية القوة، ينتظرون لحظة جديدة تقودها قيادة إقليمية واعية، تجمع بين وضوح عمّان وصلابة الرياض، لتفتح الطريق إلى الحرية والسيادة.

font change