"النشاز" شعرا وحياة

"النشاز" شعرا وحياة

استمع إلى المقال دقيقة

في "لسان العرب" وما لحقه من معاجم، النشاز من الأرض، هو ما ارتفع أو به نتوء، وأن تنشز المرأة بزوجها هو أن تتمرد عليه وتستعصيه بل وتبغضه، وأن ينشز الرجل بزوجته هو أن يسيء عشرتها، فيجافيها. وفي المعاجم المعاصرة ينضاف إلى سيرورة المعنى للنشاز ما مفاده: النغمة الخارجة عن نسق اللحن وقس على ذلك فن القول.

في الصداقة كما في الحياة، بالقياس إلى الموسيقى، وبلاغة الكلام، نصطدم بالنشاز في علاقاتنا من القريب والبعيد في آن، نتجشم عناء صداقات هي في الواقع محض حصوات تسدّ مجرى النبع، محض براميل جوفاء تحجب الشمس والهواء، محض نبات سامّ في حوض نعناع أيامنا الموقوتة.

وكذا المدن، منها ما يضيق بذرعنا، ما يطوق حياتنا ويحاصر حريتنا ويصادر إنسانيتنا، ومع ذلك نجبر على الاستمرار فيها بالإكراه إلى حين. ولعل أفدح النشاز هو ما يعتمر الذاكرة من نتوءات تستعصي على الاقتلاع، لا سبيل إلى مكنسة تعجل بقشها المتفاقم إلى قمامة النسيان.

وقس على ذلك أن تنشز حياتك، إذ تسبح في فلك من الرتابة، بإيقاع ضالع في النمط، غير مجانب للتكرار، فتغدو بركة آسنة، ومن آيات النشاز السوداء، أن يبدو لك نشاز ما أنت راسخ فيه، تناغما بديع الأثر، تهدر حفنة أيامك على مغزله المخادع.

في المتن الشعري القديم، نصادف أثر مفردة النشاز في أبيات شعرية دامغة، لكن تتباين في المعنى وتختلف، بحسب اللحظة الزمنية، وفق الحالة الشعرية، موضوعا وتوصيفا.

فمنها ما يجنح لتوصيف الجسم، كبيت ابن الأعرابي:

فما ليلى بناشزة القصيرى

ولا وقصاء لبستها اعتجار

وناشزة القصيرى يعني بها أنها ليست بضخمة الجنبين. وهذا ما يثريه بيت تأبط شرا، إذ يمعن في وصف جسمه في حالة ما يتعلل به مع فقدان الزاد، لدرجة نشزت أضلاعه، بمعنى هزلت وتداخلت:

قليل ادخار الزاد إلا تعلة

فقد نشز الشرسوف والتصق المعي

ولا ينأى الأعشى عن هذا المنحى في بيته الموشوم:

وتركب مني إن بلوت نكيثتي

على نشز قد شاب ليس بتوأم

بالمعنى الذي يفيد بأنه صار أشيب، على سبيل النشز الذي يحيل على الكبر والغلظ. ويمضي عروة بن حزام أبعد وأقصى في بيته المنذور، لعينين بقدر ما تستوفيان نشزا، تعجّان بما يكفي إذ تجيشان:

وعيناي ما أوفيت نشزا فتنظرا

بمأقيهما إلا هما تكفان

وبيت كثير عزة يستأنف مضاعفات معنى الجوع، بصدر ناشز وبطن ضامر:

عوى ناشز الحيزوم مضطمر الحشا

يعالج ليلا قارسا مع جوع

في المتن الشعري القديم، نصادف أثر مفردة النشاز في أبيات شعرية دامغة، لكن تتباين في المعنى وتختلف، بحسب اللحظة الزمنية


وفي هذا النزوع بيت لكعب بن زهير، يسبغ معنى النشز على الخصائل بالنظر إلى اعوجاج القوائم:

رفيع المحال والضلوع نمت به

قوائم عوج ناشزات الخصائل

وكذلك قيس بن الملوح، يضفي المعنى ذاته على قرن الظبية:

لقد أشبهتها إلا خلالا

نشوز القرن أو خمش الكراع

ويشمل أبو العلاء المعري مفردة النشز بمعنى النتوء أو ما علا عن الأرض:

لقد زلزلت أرض الجبال بوقعة

أسالت دما في كل نشز وأبطح

وبالمثل يصدح أبو تمام:

فلم تنصرم إلا وفي كل وهدة

ونشز لها واد من العرف فائض

وفي ذلك أنشد ابن الرومي:

لما رأوها وعلونا نشزا

هز جناحيه إليه هزا

والنشز يرادف العين الدامعة إذ جاشت النفس من الفزع، كما في بيت الشريف الرضي:

تركتهم يدعون والدمع ناشز

وما ملكت طرفي عليّ دموع

وكذلك القلوب إذا نشزت كما في بيت الفرزدق:

به اطمأنت قلوب القوم إذ نشزت

إذا الجبان رأى للموت ألوانا

ويغدو الثعلب حصانا مجللا إذا ما اعتلى نشزا كما في بيت الأخطل:

ترى الثعلب الحولي فيها كأنه

إذا ما علا نشزا حصان مجلل

ولا يجانب معنى النشز العلو والنتوء كما في بيت جميل بثينة:

على ظهر مرهوب كأن نشوزه

إذا جاز هلاك الطريق رقود

ونتوءات الطرق تصير خيولا في بيت جرير:

إذا نشز المخارم في ضحاها

حسبت رعانها حصنا قياما

وكما تنشز القلوب تنشز الأكباد، إذ تضطرب فزعا من الصائد وفق بيت ذو الرمة:

فأقبل الحقب والأكباد ناشزة

فوق الشراسيف من أحشائها تجب

والنشز قد يعني الابتعاد والجفاء كما في بيت مهيار الدليمي:

ولو نشزت عنك القلوب لردها

لسانك هذا الحلو أو وجهك الرطب

والفزع في أقصى أحواله ضجة ناشز في بيت بديع الزمان الهمذاني:

كأن هدير الرعد ضجة ناشز

شكت من وميض البرق ضربة فالق

من الجفاء والبغضاء، إلى التمرد، والابتعاد، تسافر مفردة النشاز لتغادر معنى النتوء في المكان، صوب ما يخرج عن نسق اللحن في تناغم الموسيقى، بعد أن تستوفي مضاعفات الحالات الإنسانية للأعضاء من الكبر والضخامة حتى الاهتراء، وفي نسغ النشاز ما رسخ نقديا وفلسفيا وفنيا بالتوصيف الذي يعني الخروج عن المعتاد، لكن بغير ما تناغم يطابق فداحة الاختلال والفساد والخطأ والانحطاط، يلفي أقاصي محمولاته الدالة في حفريات الخير والشر كما في حالة نيتشه.

من الجفاء والبغضاء، إلى التمرد، والابتعاد، تسافر مفردة النشاز، لتغادر معنى النتوء في المكان، صوب ما يخرج عن نسق اللحن في تناغم الموسيقى


بالمقابل، ثمة نشاز أسيء فهمه، بالنظر إليه كأسلوب حياة أو فن خارج عن منظومة الاعتياد، على نحو خاص النشاز الذي نطلق حكمه على كل ما هو غامض، وهو ما يسمق بودلير بفرادته إذ ينحاز إليه محتفيا بالقول: إن في تعذّر الفهم نوعا من المجد.

font change