صورة المثقف في 3 روايات مصرية جديدة

سيرة التحولات منذ الستينات حتى الزمن الراهن

Lina Jaradat
Lina Jaradat

صورة المثقف في 3 روايات مصرية جديدة

لطالما عبرت الرواية عن واقع المجتمع، ولا سيما عن الطبقتين الوسطى والفقيرة، وبين هذه وتلك يمثل المثقف بمواقفه وأفكاره وطموحاته ورؤيته المغايرة للمتعارف عليه والسائد، وقد ظهرت أخيرا روايات تعكس صورة مغايرة للمثقف، وتسعى إلى تجاوز النمط السائد عنه، أي ذلك المتعالي على المجتمع، وتجعله شريكا للناس في حركتهم وهمومهم أو واحدا من بين الجموع يسعى لأن يجد له مكانا ودورا بينهم. ربما لم تسع هذه الروايات إلى تقديم نموذج مثالي أو شكل من أشكال البطل لذلك المثقف، لكنها طرحت صورا من صوره، نتوقف عند كل واحدة منها لنرى كيف جاء تمثيل المثقف فيها على اختلاف مواضيعها وأفكارها بل وأجيال كتابها.

بين الأجيال

رواية "نور كموج البحر" للناقد والروائي محمود عبد الشكور (ينتمي الى جيل الثمانينات)، تدور حول زهدي، كاتب من جيل الستينات يكتشف إصابته بمرض في عينه يكون سببا في استعادته تفاصيل حياته القديمة من جديد، يتعرف الى شابة تقرأ أعماله ويتغير من خلالها نمط حياته، ويطلعنا على جانب من أحوال المثقفين بين زمانه وهذه الأيام.

وفي حين تتمحور رواية "مجانين أم كلثوم" للروائي شريف صالح (ينتمي الى جيل التسعينات) حول أم كلثوم وتعرض أجزاء من حكايتها وسيرتها، إلا أن البطل الرئيس للعمل هو جلال عبد الفتاح، مثقف ومخرج مسرحي مصري تربطه علاقة حب في البداية بزوجته المثقفة وسام، جمع بينهما مصادفة حب أم كلثوم، ويرسم شريف صالح بذكاء ذلك الفارق بين النموذجين ربما لأول مرة في الرواية العربية، حيث يأتي الرجل هذه المرة مقهورا مغلوبا على أمره، وتتمكن الزوجة من فرض سيطرتها بل واستغلال نفوذها ومكانتها لا سيما بعد أن أصبحت أستاذة جامعية بالتحكم في العلاقة وتغيير مسارها.

أما رواية "الهروب إلى الظل" للروائي فريد عبد العظيم، الذي ينتمي إلى جيل الشباب، فتدور حول بهيج داود، مثقف مصري يعود إلى جيل الستينات أيضا، ولكنه يعثر فجأة على حبيبة في سنه الكبيرة هذه، فيبدأ بمخاطبتها وكتابة رسائل إليها يحدثها فيها عن التغيرات التي طرأت على حياته، ويصادف أن يتعرف الى مجموعة قراء شباب يدخلون حياته ويغيرون عالمه، ويسترجع معهم تاريخه وكتابته وذكرياته.

الحب والثورة وأشياء أخرى

هكذا يحضر الحب في الروايات الثلاث، وإن بنسب وطرق مختلفة. ففي الوقت الذي نتعرف فيه لى بداية علاقة الحب بين جلال ووسام في "مجانين أم كلثوم"، ثم زواجهما، وما يحدث بعد ذلك في علاقتهما من اضطرابات ومشكلات تتنهي بهما إلى الانفصال تماما، يراهن الستيني العجوز زهدي على الحب بعد أن يغير حياته تعرفه الى ابنة صديقه القديم كرمة، ويشعر أن اقترابه منها وعلاقتهما ممكنة حيث تفتح له آفاقا جديدة في الحياة، في الوقت الذي لا يزال بهيج داود يبعث برسائله إلى حبيبته العجوز وهي في مثل سنه، ولكنها تركته فجأة فأخذ يكتب لها تلك الرسائل التي يحكي فيها ما حدث معه بين ماضيه وحاضره، ورغبته في كتابة رواية جديدة عن طبيب عاش في فترة الستينات ومات أثناء اعتقاله هو فريد حداد .

يرسم شريف صالح في روايته، وعلى خلفيتها أغاني أم كلثوم وحكايتها، نموذجين مختلفين للمثقف 


نتعرف في "مجانين أم كلثوم" الى بدايات الحب بين جلال ووسام، المواعيد ومحاولات الاتصالات الهاتفية، العاشق الذي يظل معلقا بحجرة الهاتف طوال الليل لكي يستمع إلى صوت حبيبته، وبينما هو كذلك تكون أغنية أم كلثوم في الخلفية "حقابله بكرة"، ويرى بكل رومانسية أن عشق كل منهما لأم كلثوم قادر على أن يجعلهما يواجهان العالم معا، ولكن العلاقة تتطور شيئا فشيئا فيكتشف العاشق أن حبيبته تفضل كاظم الساهر على "الست"، ولكنه يتجاوز ذلك وغيره من الخلافات التي يراها ثانوية حتى يتزوجها، يقترب منها ومن حياتها أكثر، ويعرف عقدها ومشكلات حياتها التي عانت منها طويلا، وتود أن تتخلص منها بالزواج به، وهو، كأي عاشق رومانسي، يستسلم للعب هذا الدور جيدا، ورغم أنهما يتشاركان في كل شيء قبل الزوا،ج إلا أن العلاقة تتخذ مسارا آخر مختلفا تماما بعد ذلك.

تحضر ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 وتكون فرصة لكي يستكشف جلال من خلالها العديد من الأشياء من حوله، فهو لم يكن يوما من المعارضة ولكنه يفاجأ بزوجته متحدثة باسم الثورة، وإذا بها بين عشية وضحاها واحدة من الثوار، تتركه في المنزل مع بناته غير مهتمة بمسؤولياتها الزوجية، وفي الوقت نفسه تناقش رسالة الدكتوراه. وهكذا كان صعود زوجته في السلم الاجتماعي على المستويين الأكاديمي والعملي حيث أصبحت أستاذة جامعية كبرى واسما بارزا  ونشطا في عالم السياسة في الوقت نفسه، بينما هو يسعى لفرض وجوده والتمسك بعمله كمخرج مسرحي ويحاول إبقاء بيته أيضا ومراعاة ابنتيه، بل وارتضى على حد تعبيره أن يعيش في الظل، لكن الخلافات بينهما تتزايد، فتطلب منه أن تكون العصمة بيدها، وأن يكتب الشقة باسمها لضمان حقوقها، ويستجيب لطلباتها ولكنه يشعر بأن الفجوة بينهما تزداد، لا سيما أنها بدأت تسخر من تصرفاته وأفكاره وحياته حتى جاءت أزمة كوفيد 19 وفاقمت الخلافات بينهما، فبدأ يفكر في الطلاق وترك البيت.

غلاف رواية "مجانين أم كلثوم"

 هكذا يرسم شريف صالح في روايته، وعلى خلفيتها أغاني أم كلثوم وحكايتها، نموذجين مختلفين للمثقف بين جلال وزوجته، الأول يسعى لكي يعيش حياته ويرأب صدع علاقته بزوجته، فيما الثانية تبدو نموذج الوصولية التي تستغل الأحداث والمواقف بل وحتى الزواج والأبناء لكي تحقق طموحاتها وتكسب المزيد من المال والشهرة.

خيبات وآمال

في رواية "نور كموج البحر"، يبدو زهدي زاهدا في الحياة بالفعل، ساخطا على كل من حوله، ولولا صديقاه بيتر وحمام لقضى حياته منبوذا، ويعبر الكاتب عن ذلك في بداية الرواية، حيث يعترف بينه وبين نفسه بأنه كره الكتابة والتعبير عن نفسه والكتابة للآخرين، بل هجر الكتابة منذ عشرين عاما، بعد أن كتب روايات لم تلق النجاح الذي كان ينتظره، رغم ذلك يأتي إليه الحب من خلال كتابته، حيث نتعرف الى كرمة، الفنانة ابنة كاتب كبير كان صديقه وأمها شاعرة متحققة، تقرأ روايات زهدي وتسعى للتعرف اليه بعد أن أعجبت برواياته ورأت فيه نموذجا للإنسان المثقف الذي يسعى للتعبير عن نفسه ويملأه شعور بالذنب والرغبات المكبوتة على نحو ما كتب في رواياته!

يبدو حرص محمود عبد الشكور منذ البداية على أن يرسم في روايته أكثر من نموذج للمثقف، بل ويعكس ما بين الأجيال من صراعات واتفاق واختلاف


هكذا يبدو حرص  محمود عبد الشكور منذ البداية على أن يرسم في روايته أكثر من نموذج للمثقف، بل ويعكس ما بين الأجيال من صراعات واتفاق واختلاف، وكيف يرى الشباب الأكبر منهم سنا وكيف يتعاملون معهم، بل إنه يسعى الى أبعد من ذلك حيث يقدم بيتر، صديق زهدي من جيل الشباب، الذي يقرأ رواياته ويحبها ويسعى للاقتراب منه، كما يحضر ناقد شاب آخر يكون أحد الداعمين له من خلال دراسته ومقالاته، ولكنه سرعان ما يوافيه الموت.

غلاف رواية "نور كموج البحر"

لا تحضر الثورة في رواية "نور كموج البحر" ولكن يحضر بديلا منها ذلك الصراع المكتوم بين تمرد الشباب وحكمة المسنين، التي يمثلها في جانب منها زهدي الذي يكتشف نفسه من جديد مع كرمة، التي ترى فيه فنانا مختلفا يمكن أن يستحق أن يأخذ جزءا من فوضى عالمها، وتقترب منه وتجعله يخرج من ضيق عالمه إلى آفاق أخرى، فإذا به يسمح لمشاعر الحب أن تنمو بينهما وتغير حياته بعد كل هذا الركود. وهذ ما يراهن عليه محمود عبد الشكور حتى نهاية الرواية، حيث يأتي فصلها الأخير بعنوان "بداية" وفيه تعترف كرمة بمشاعرها نحوه، بما يرسم لهما عالما واعدا قائما على الحب والاهتمام بالفن والجمال.

غلاف رواية "الهروب إلى الظل"

رسائل عابرة للزمن

يظهر الحب وصراع الأجيال أيضا في رواية "الهروب إلى الظل" لفريد عبد العظيم، حيث تبدأ الرواية بمشهد يحكيه بهيج داود لحبيبته حياة، التي تهجره فجأة، ولكنه يجد في ذلك فرصة لكي يبثها أشواقه ويحكي لها حكايته من خلال رسائل لا نعرف إذا كانت تصل أم لا، ولكنها تجعلنا نتعرف الى عالمه وآماله وإحباطاته، بداية من كتابة المقالات التي يشعر أن لا أحد يهتم بها أو يقرأها حتى تعرفه الى جارته العجوز حياة، وبداية تعلقه بها. في الرسائل التي يكتبها، ينتقل السرد بحرية بين ماضي بهيج وحاضره، فيحكي لها كيف تغيرت حياته قديما حين ربح جائزة الدولة وتحول إلى فارس من فرسان جيل الستينات يخوض المعارك وتبقى كتبه وأفكاره يتداولها الجميع، ولكنه اختار أن يعيش في أمان بعيدا من النضال وخوفا من تهديد حياته بالموت أو الاعتقال. في الوقت نفسه يسعى لأن يكتب رواية ربما تكون الأخيرة عن مناضل ستيني مجهول من الجميع، ولكنه تعرف اليه فيه طفولته، وهو الطبيب فريد حداد الذي كان يعالج الفقراء بالمجان، واعتقل وقتل أثناء استجوابه في سجون عبد الناصر. يجمع الأخبار عنه ويتعرف الى عالمه، وينجح إلى حد كبير في الوصول الى عدد من المعلومات التي تساعده في روايته.

Marco Longari / AFP
تجمع آلاف المصريين في ميدان التحرير بالقاهرة خلال "مسيرة المليون" ضد نظام مبارك، 1 فبراير 2011

هكذا تحضر السياسة جنبا إلى جنب الحب في رواية "الهروب إلى الظل"، ليس في الستينات فحسب، بل ايضا من خلال مجموعة من الشباب يقرؤون له ويدخلونه الى عالمهم، بين من يعارض التوريث ومن يتحدث عن ضرورة التغيير السياسي والاجتماعي، وأهمية دور الأديب والمثقف في ذلك الحراك السياسي. يتعرف الى ذلك الوسط الثقافي الجديد الذي يستقي معلوماته ومعارفه من وسائط الإنترنت والصفحات الإلكترونية، ويقارن فريد عبد العظيم بين أكثر من نموذج للمثقفين، في العصر الناصري والعصر الحالي، ورغم ما يبدو بين العصرين من تشابه، خاصة في القمع والديكتاتورية، لا سيما عندما ينتقل إلى وصف تلك التظاهرات وما جرى فيها من تجاوزات أصابت أصدقاءه من الشباب الذين تعلقوا به وتعلق بهم وأصبح مضطرا لمتابعة أخبارهم ودفعهم للمزيد من المقاومة، الى أن يختتم الرواية بمشهد بدايات ثورة يناير 2011 وكأنه بارقة الأمل التي ظهرت في آخر حياة بهيج داود لتكون بمثابة تسليم الجيل الأكبر لجيل الشباب الذي استطاع تجاوز مشكلاته وآلامه وخرج باحثا عن الحرية والأمل.

تقدم الرواية عالم المثقفين بشكل أكثر اتساعا، فلا يقتصر على بطل الرواية الكاتب وماضيه والذين من حوله، بل يرسم صورة الماضي وكيف كان المثقف/ الطبيب مشتبكا مع السياسة وطامحا الى التغيير 

تقدم الرواية عالم المثقفين بشكل أكثر اتساعا، فلا يقتصر على بطل الرواية الكاتب وماضيه والذين من حوله، بل يرسم صورة الماضي وكيف كان المثقف/ الطبيب مشتبكا مع السياسة وطامحا للتغيير من جهة، وكذلك صورة  جيل من الشباب يمثلون الحاضر الذي سعوا فيه الى التغيير حتى لو عرفنا أن آمالهم وأحلامهم لم تنته إلى شيء.

font change

مقالات ذات صلة