عندما كان الفنان التشكيلي العراقي ضياء العزاوي (مولود ببغداد سنة 1939، ومقيم بلندن منذ العام 1976) عازفا عن العودة إلى العراق منذ رحيله عنه في تلك السنة، أنجز في عمان مجسمه الطيني الملحمي الضخم (نحو 36م2) دامجا فيه خراب مدينتين عربيتين يقال إنهما توأمان، الموصل وحلب، في العراق وسوريا. عند ذاك كانت إسرائيل بدأت تبيد غزة الفلسطينية بشرا وحجرا، وأخذ لبنان يعيش أشرس حملة تدمير وقتل إسرائيلية في ضاحية بيروت الجنوبية وفي مناطقه الحدودية الجنوبية، والداخلية في البقاع.
سلطان الدولة وخراب المجتمع
من وقف في صالة "غاليري صالح بركات" الفسيحة ببيروت، حيث افتتح معرض ضياء العزاوي التشكيلي والنحتي في 11 سبتمبر/ أيلول 2025، لا بد من أن يشعره بالدوار خليط أشلاء البشر والأشياء في جدارياته الأربع المنصوبة وحدها ومنفردة على جدران الصالة. ويبلغ الدوار أقصاه، فيما بصر الرائي أو المشاهد يجول في متاهات الخراب الطيني المهول، المجدب والمقفر والخالي من أي أثر لبشر ونبات وحياة، في مجسم العزاوي المسطح والمنبسط على أرض الصالة، مجسدا نكبتي الموصل وحلب.
لكن إحدى الجداريات الأربع على الجدران، تلك التي عنوانها "جنة منسية أو للنسيان"، يطغى على خلفيتها الأحمر القاني، ويجلل الأسود الليلي، المظلم أو المعتم، أشكال البشر وطقسهم الجنائزي فيها، ويتوسطها مجسم جثثي نافر كثير الألوان لمصلوب يخرج منظوريا وتشكيليا وزمنيا عن الجدارية التي تجسد ما يتراءى أنه احتفال طقسي جنائزي، سلطوي ومهيب، وتختلط في ملامحه أشكال فرعونية وبابلية وآشورية. لكن هذه الجدارية أوحت لمن أتى لمشاهدة معرض العزاوي، أنها تجسد مهابة سلطان الدولة في الشرق وحضاراته، قديمة وحديثة أو معاصرة، تجسيدها أيضا انفصال سلطان الدولة عن المجتمع الذي يجسده خراب الموصل وبغداد في المجسم الطيني المنبسط على أرض الصالة.
الخراب يظهر أيضا في جدارية أخرى في الصالة عنوانها "الموصل: بانوراما الخراب". وهي مرسومة بالأسود الفحمي على قماش أبيض، مجسدة مشهدا آخر لخراب المدينة العراقية، لكن بأشلاء البشر ولأشياء في زمن سيطرة تنظيم "داعش" عليها.