"جيل زد" ينقل الاحتجاج في المغرب من الإنترنت إلى الشارع

أ.ف.ب
أ.ف.ب
تظاهرة قادها الشباب للمطالبة في بتحسين قطاعي الصحة والتعليم في سوق بالرباط في 29 سبتمبر 2025

"جيل زد" ينقل الاحتجاج في المغرب من الإنترنت إلى الشارع

يترقب المواطنون في المغرب الخطاب الذي سيلقيه الملك محمد السادس أمام مجلسي النواب والمستشارين يوم الجمعة المقبل، بمناسبة افتتاح السنة التشريعية الجديدة، وهي الأخيرة في عمر البرلمان الحالي، بانتظار تجديد أعضائه، بعد الانتخابات العامة القادمة في 2026، التي ستنبثق عنها حكومة جديدة. وتواجه الحكومة الحالية والبرلمان والمنتخبين والطبقة السياسية كافة، انتقادات حادة من لدن آلاف الشباب، الذين خرجوا إلى الشارع للمطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية عميقة، في الوقت الذي ابدى فيه عدد من الوزراء تفهمهم لمطالب المحتجين وشدد رئيس الوزراء عزيز أخنوش على ان الحل يكون عبر الحوار.

وتركز المطالب على معاودة النظر في برامج السياسات العمومية، خاصة منها قطاع الصحة والتعليم وسوق العمل التي تعاني من ضعف في الأداء الحكومي، رغم تحقيق تقدم في النمو الاقتصادي بلغ أربعة في المئة في المتوسط. ويقول هؤلاء الشباب إنهم لا يلمسون آثار التقدم، في القطاعات التي تحظى باهتمامهم، وعلى رأسها المجالات الاجتماعية، ومعدلات البطالة التي تجاوزت 12 في المئة، في بلد ينفق عشرات مليارات الدولارات على البنى التحتية الحديثة. ما يجعل المغرب يسير بسرعتين غير متوازيتين برأيهم.

"جيل زد" من الفضاء الرقمي إلى الشارع

وشهدت عدة مدن مغربية في الأيام الأخيرة، احتجاجات ذات طابع اجتماعي سياسي، تحت شعار "الشعب يريد إسقاط الفساد" بقيادة حركة شبابية مجهولة لم يُسمع بها من قبل، أطلقت على نفسها اسم "جيل زيد 212" (GZ-212)، عبر تطبيقات على مواقع التواصل الاجتماعي، وتمكنت من تجميع نحو 163 ألف منتسب افتراضي من الداخل والخارج عبر تطبيق "ديسكورد". وتتراوح أعمارهم بين 15 و28 سنة، وليس لهم انتماء سياسي أو نقابي أو أيديولوجي أو عقائدي معلن، ولدوا بين نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، في زمن التكنولوجيا والعولمة واتساع الحريات الفردية والجماعية.

نشأت حركة أخرى في الجزائر تحت اسم "GZ-213" أعلنت عن نفسها يوم الجمعة الأخير. ولا يعرف زعماء لهذه الحركات الشبابية في شمال أفريقيا التي تدعو إلى مسيرات سلمية وإصلاحية

أغلب هؤلاء الشباب لهم كفاءة تقنية عالية، يقضون أوقاتهم خلف الحواسيب وشاشات الهواتف الذكية. تعلموا الرقمنة قبل الكتابة على الورق، يهتمون بقضايا التعليم، والصحة، والبيئة، والعدالة الاجتماعية، والسلام بين الشعوب، ويعتبرونها قضايا كونية. لكن تنقصهم التجربة، وتغيب عنهم التفاصيل، وضعف الثقافة العامة. جلهم لم يشارك في أي انتخابات سابقة، ولهم ميل إلى العزوف عن السياسة. انطوائيون، يفضلون ريادة الأعمال، على الوظائف القارّة، لهم ميل إلى الهجرة للخارج، وعدم الاستقرار في العمل، ولا يؤمنون كثيرا بالحدود الجغرافية، ما يجعلهم أقرب إلى اختراع عالم مثالي، منه إلى الواقع المادي بكل تحدياته. واستعملت هذه الحركة الأرقام الثلاثة الأولى لرمز الاتصال المحلي، في إشارة إلى أنها حركة عالمية تحت التشكيل. ونشأت حركة أخرى في الجزائر تحت اسم "GZ-213" أعلنت عن نفسها يوم الجمعة الأخير. ولا يعرف زعماء لهذه الحركات الشبابية في شمال أفريقيا التي تدعو إلى مسيرات سلمية وإصلاحية. وهي تختلف عن ظاهرة "الربيع العربي" التي كانت حركات ذات ميول إسلامية وسياسية عنيفة، انطلقت شرارتها من تونس نهاية عام 2010.

الشعارات التي رفعها المنتسبون لهذه المجموعة، تُحمّل الحكومات المتعاقبة "مسؤولية تردي الأوضاع التعليمية، والخدمات الصحية في المستشفيات العمومية"

محاربة الفساد وإصلاح الصحة والتعليم

وقالت حركة "GZ-212" المغربية في بيان على الإنترنت إنها "قررت نقل نشاطها من الفضاء الرقمي إلى الشارع"، عبر "المطالبة السلمية بتحسين الخدمات العمومية في قطاعات الصحة والتعليم وتوفير فرص العمل للعاطلين (عن العمل)، ومكافحة الفساد ومحاسبة المفسدين". وانضمت إليها فئات من المجتمع، تعتقد أنها "لم تستفد من التطور الاقتصادي والاجتماعي والعمراني الذي حققه المغرب في السنوات الأخيرة". الشعارات التي رفعها المنتسبون لهذه المجموعة، تُحمّل الحكومات المتعاقبة "مسؤولية تردي الأوضاع التعليمية، والخدمات الصحية في المستشفيات العمومية"، بعد تسجيل وفيات في مستشفى الولادة، بمدينة أغادير جنوب البلاد، قبل أسابيع، بسبب نقص العناية والتجهيزات. ورغم تدخل وزير الصحة، وإقالة المسؤولين المحليين، والوعد بافتتاح قريب للمركز الاستشفائي الجامعي الكبير، فإن شرارة الغضب امتدت إلى مناطق أخرى، تعيش بدورها تدني مستوى الخدمات العمومية، وضعف فرص العمل التي يكفلها الدستور.

أ.ف.ب
رئيس الوزراء المغربي عزيز أخنوش يلقي كلمة في باريس، في 22 فبراير 2025

والمفارقة، فإن رئيس الحكومة عزيز أخنوش ينتمي إلى محافظة سوس ماسة، التي انطلقت منها هذه الحركات الاحتجاجية في قطاع الصحة، وسبق له أن فاز في الانتخابات العامة الأخيرة عام 2021، وفيها أعلن برنامجه الانتخابي الذي مكن حزب "التجمع الوطني للأحرار" من تصدر الانتخابات وترؤس الحكومة. ويعتقد محللون محايدون أن "الحركات الشبابية الحالية تستهدف إغلاق الباب، أمام ولاية ثانية". وقالت فاطمة الزهراء المنصوري، وزيرة الإسكان، وعمدة مدينة مراكش ورئيسة حزب "الأصالة والمعاصرة" المشارك في الحكومة: "إن خروج الشباب للشارع من أجل الاحتجاج على تدهور قطاعي الصحة والتعليم، يُبين لنا كمسؤولين في الحكومة أننا لم ننجح في أداء مهامنا"، وأن "هناك عدة مشاكل لا يمكن إنكارها، لدينا نقص 30 ألف طبيب، وهذا لا يمكن تحقيقه في ظرف سنة أو سنتين".

شجب مئات الآلاف من المواطنين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مظاهر العنف والتخريب، التي طالت مسيرات احتجاجية سلمية، قادها شباب يدافعون عن حقوق يضمنها الدستور

ورصد مراقبون وجود بعض التباين في مواقف الأحزاب السياسية الثلاثة المشكلة للحكومة، ("التجمع الوطني للأحرار"، و"الأصالة والمعاصرة"، و"حزب الاستقلال"). وقال الناطق الرسمي باسم الحكومة مصطفى بيتاس في حوار تلفزيوني: "إن الحكومة تقبل الحوار مع هؤلاء الشباب، ومنفتحة على مطالبهم (المشروعة) لكن عليهم في المقابل تقديم مقترحات ملموسة، لنتمكن من دراستها والحسم فيها". وجاء رد الحركة الشبابية عبر منصات التواصل الاجتماعي" أنها غير مستعدة للحوار مع الحكومة في هذه المرحلة". ورفع فريق من المحتجين سقف المطالب الى "إسقاط الحكومة ومحاسبتها"، وردّ أحد الزعماء السياسيين، في اتصال مع "المجلة" أن "هذا أمر يحدده الدستور ويقرر بشأنه الملك والقضاء".

صمت الحكومة يؤجج الشارع

الملاحظ أن صمت الحكومة خلال الأيام الأولى للاحتجاج كان خطأ تكتيكيا، وفراغا تواصليا سلبيا، حيث ظل المحتجون وجها لوجه مع الشارع، دون تأطير أو توجيه، وهم شباب ليست لهم خبرة في التجمع والاحتجاج وقوانين المظاهرات وشروطها الإدارية، مما سمح بتسرب عناصر من خارج الحركة الشبابية، غيروا توجهها وشعاراتها الأصلية. وتحولت بعض المسيرات السلمية إلى مواجهة مع رجال الأمن، أسفرت عن خسائر وإصابات واعتقالات، وإضرام النار في سيارات الشرطة وتلك الخاصة، وتخريب محلات تجارية وإحراق فروع مصرفية وسياحية والاستيلاء على أغراض شخصية. وقالت مصادر رسمية: "إن الأحداث التي وقعت في مدينة القليعة (قرب أغادير)، خلفت ثلاثة قتلى من بين عشرات الأشخاص الملثمين، حاولوا الاستيلاء (ليلا) على أسلحة وذخائر، كانت موجودة في مركز للدرك الملكي في المدينة".

أ.ف.ب
قوات الأمن المغربية تعتقل شابا خلال مظاهرة قادها الشباب من أجل العدالة الاجتماعية والمطالبة بتحسين قطاعي الصحة والتعليم العامين، خارج مبنى البرلمان في الرباط في 27 سبتمبر 2025

وقال بيان لوزارة الداخلية: "إن القوات العمومية حرصت على تدبير حركة الاحتجاجات، بما يضمن حماية الأمن والنظام العام، وسلامة المواطنين وأملاكهم. لكن بعض الأشخاص (المخربين) استعمل أسلحة بيضاء، وزجاجات حارقة، ورشق بالحجارة، (مما) تسبب في إصابة 263 شخصا بجروح، وإضرام النار في 142 سيارة تابعة للشرطة".

وحذرت الداخلية المغربية "من أن الأشخاص الذين يثبُت ارتكابهم لأفعال تحت طائلة القانون، ستترتب عنه مسؤوليات جنائية". وشجب مئات الآلاف من المواطنين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مظاهر العنف والتخريب، التي طالت مسيرات احتجاجية سلمية، قادها شباب يدافعون عن حقوق يضمنها الدستور، "تم اختراقهم من قبل منحرفين لا تعرف الجهة التي حركتهم أو تقف وراءهم". وذهب البعض إلى اتهام "جهات معادية" لم يسمها بـ"السعي لخدش صورة المغرب في العالم، والتشويش على أمنه واستقراره، والنجاحات التنموية المسجلة، والإعداد لمظاهرات عالمية في المملكة بعد أسابيع".

وأصدرت حركة "زد-212" بيانا استنكاريا يُدين الأعمال التخريبية، وتبرأت من مرتكبيها (الملثمين)، وقررت تقليص عدد مظاهراتها ووقفاتها الاحتجاجية، وحصرها في مناطق مُعينة سلفا والابتعاد عن الأحياء والشوارع، التي يتسلل منها شبان من عالم الانحراف والمخدرات. وسجلت أقصى حالات تخريب الممتلكات في ضواحي أغادير وسلا ووجده.

يُعتبر المغرب بلدا صاعدا بـ"درجة استثمار" في التصنيف الائتماني، لوكالة "ستاندارد آند بورز" الأميركية. وجلب نحو 40 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، خلال السنوات الأخيرة

بلد صاعد اقتصاديا ومحتشم اجتماعيا

يُعتبر المغرب بلدا صاعدا بـ"درجة استثمار" في التصنيف الائتماني، لوكالة "ستاندارد آند بورز" الأميركية. وجلب نحو 40 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، خلال السنوات الأخيرة. وأصبح رائدا في صناعة السيارات والطائرات والتكنولوجيا الحديثة، وتساهم الصناعة بنسبة 29 في المئة من الناتج الإجمالي، هي الأعلى في القارة الأفريقية، ويحتل المرتبة 56 في الاقتصاد العالمي، بعدد سكان يقل عن 40 مليون نسمة وله موانئ عالمية، في موقع جغرافي استراتيجي بين أوروبا وأفريقيا، على مدخل البحر المتوسط والمحيط الأطلسي.

أ.ف.ب
سيارة شرطة مشتعلة خلال مظاهرة قادها الشباب للمطالبة بإصلاحات في قطاعي الرعاية الصحية والتعليم في سلا في 1 أكتوبر 2025

ويجري الإعداد لاحتضان نهائيات كأس أفريقيا قبل نهاية العام، وتسريع تحديث البنى التحتية، والمرافق الرياضية، وبناء الفنادق المصنفة، والملاعب العالمية، ومد شبكة القطارات فائقة السرعة، وتوسعة المطارات، وشراء عشرات الطائرات، استعدادا لاستقبال ملايين المشجعين والسياح، خلال مظاهرة كأس العالم، التي سيستضيفها المغرب مع أسبانيا والبرتغال عام 2030.

مغرب بسرعتين غير متوازنتين

في المقابل يحتل المغرب رتبا غير مشرفة في مجال التنمية البشرية والتعليم والصحة، وتقدر نسبة الفقراء بـ6.8 في المئة، خاصة في العالم القروي والأرياف. ولا زال ربع سكان المغرب أميين، وفق تقرير المندوبية السامية في التخطيط، و38 في المئة من النساء القرويات لا يذهبن إلى المدرسة، أو يتزوجن في سن مبكرة. ولا تتجاوز نسبة عمل المرأة 20 في المئة من القوى العاملة، وأحيانا كثيرة دون تغطية صحية. وتفيد الإحصاءات بأن ربع مليون تلميذ ينقطعون عن التعليم في سن المراهقة سنويا، وبتراكم السنوات أصبح عددهم يقدر بمليون ونصف المليون شخص، دون تأهيل أو عمل أو دراسة. ورغم أن هذه الظاهرة منتشرة في جميع دول شمال أفريقيا، فإن الانفتاح الاقتصادي والحريات، التي يتمتع بها المغاربة تجعلهم أكثر قدرة على الاحتجاج، ولهم فسحة أكبر للمطالبة بتحقيق العدالة الاجتماعية، تحت غطاء الدستور الذي يكفل الحقوق والحريات.

أ.ف.ب
قوات الأمن تستخدم مدفع مياه لتفريق متظاهرين شباب في سلا، في الأول من أكتوبر 2025

وكان الملك محمد السادس سباقا إلى إثارة سلبية هذه الفوارق الاجتماعية، خلال خطاب العرش في 29 يوليو/تموز الأخير، عندما قال إنه لا يقبل بمغرب من سرعتين. وأضاف: "للأسف لا تزال هناك بعض المناطق، لا سيما بالعالم القروي، تعاني من مظاهر الفقر والهشاشة، بسبب النقص في البنيات التحتية والمرافق الأساسية، وهو ما لا يتماشى مع تصورنا لمغرب اليوم، ولا مع جهودنا في سبيل تعزيز التنمية الاجتماعية، وتحقيق العدالة المجالية، فلا مكان اليوم ولا غدا، لمغرب يسير بسرعتين".

تدخل الملك متوقع ومرتقب في الأيام القادمة، وقراراته حاسمة، فهو الحَكم في الخلاف المستعصي بين المتظاهرين والسياسيين.

font change