بوح البراري في لوحات اللبنانية غادة الزغبي

من الداخلي الحميم إلى الخارج المففتوح

غادة الزغبي، «الكهف الحامل 2 (الولادة)»، 2024، أكريليك وفحم على قماش، 91.5×150 سم

بوح البراري في لوحات اللبنانية غادة الزغبي

تنصرف الفنانة التشكيلية اللبنانية غادة الزغبي في معرضها الجديد الذي تحتضنه "صالة جانين ربيز" في العاصمة بيروت، بعنوان "بين الغبار والفجر" إلى الإصغاء الى أحوال توسع الصخور وتسطح الحجارة في عملية سردية بصرية يضيع فيها الخط الفاصل بين الخاص والعام، بين الجامد والمتحرك، وبين المفاجئ والممنهج.

منذ معرضها السابق المعنون بـ"مناظر طبيعية برية"، التفتت الفنانة إلى صيغة تشكيلية مستحدثة أرادت بها أن تكون توصيفا لما صادفته في بيئتها، في البقاع اللبناني، من صخور وحجارة وأتربة مائلة إلى اللون الكستنائي وإلى اللون الأصفر الذي يذكر بالصحراء. رافق هذا التلوين الترابي الاصرار على جعل اللون الأزرق الرصاصي مزاجا عاما "يقلق" جو اللوحات بشكل عام. في معرضها الجديد انتقلت الزغبي إلى الإيغال في متاهة المنظومة الديناميكية والمتشنجة القائمة ما بين الحجر والبشر فتقشفت الألوان وحضر الرسم بالفحم.

جيولوجيا الذاكرة

الأعمال الفنية الجديدة ليست قائمة بذاتها بقدر ما هي استكمال لمعارضها السابقة، كما أشارت لنا الفنانة. فهي لا تشكل خروجا عن المنطق الملازم لسيرتها الفنية، بداية من أول معرض لها سنة 2016 بعنوان "أنظمة الشخصي" الذي انطلقت فيه "من أعماق الشخصي والحميم نحو العام والمشترك في محاولة لفهم العلاقة بينهما". وها هي اليوم تضع من جديد ما تراه من حولها تحت مجهر الذات في اتصاله مع الخارج حتى نكاد نقول إن هذه المشاهد التي رسمتها حتى الآن خرجت من تلك الخزانة الأولى.

تتسلل بهدوء إلى "خواطر" الصخور المخفية تحت صلابة ظاهرية متسعة، شوهت معظمها يد الإنسان، لتكون الساردة البصرية لأحوالها

لم تغب الكآبة التي برعت الفنانة في عقلنتها ولكن دون أن تهوي في ميلودرامية ساذجة أو تشاؤم مطبق. وإن كانت في معرضها السابق طرحت أسئلة تفور تباعا من صميم روحها، فهي تتسلل بهدوء هذه المرة إلى "خواطر" الصخور المخفية تحت صلابة ظاهرية متسعة، شوهت معظمها يد الإنسان، لتكون الساردة البصرية لأحوالها.

غادة الزغبي، «البناؤون المرتبكون 1» (إعادة تفسير للوحة دي كيريكو "فرسان على جسر")، 2025، أكريليك وفحم على قماش

الفحم في حضرة اللون

لوحات المعرض هي من نوع "الميكسد ميديا" مشغولة بمادة الأكريليك والفحم. لم تتعامل الفنانة مع تلك المواد لمجرد التنويع أو الاختبار بل استطاعت عبر استخدام هاتين المادتين أن تقيم درامية التشنج ما بين الظاهر البارز، والضئيل شبه الخفي. فجعلت ما أنجزته بالفحم المشهد الأوسع ولكن في الوقت نفسه الأقل أهمية والأضعف نطقا بمعاني اللوحات. بينما حضرت الألوان الأكريليكية من أصفر وبرتقالي وبنفسجي وأخضر من خلال ضربات مختزلة ترافق رمادية وسواد الفحم لتكون هي الناطقة الأولى بنتوءات الحجر الداخلية وسيرة انبساطها تحت مطرقة التحولات الحاملة شتى أنواع معاني الخزلان والتشويه. وكيف لا يحمل الحجر هذه المعاني وقد اعتبرته الفنانة مادة حية تكتنز الأسرار وذكريات المكان وبصمات مرور الزمن؟

غادة الزغبي، «البقايا 2»، 2025، أكريليك وفحم على قماش، 80×118 سم

من ناحية أخرى، وربما بسبب إهمال أو إساءة البشر للبيئة الطبيعية، قلبت الفنانة الأدوار، جاعلة الفحم هو الظاهر الباهت والمتوسع، واللون هو الظل الحي الناطق بأحوال الحجر. الحجر الذي ينقبض على ذاته تشكيليا في لوحتين عنونتهما الفنانة بـ"بقايا 1" و"بقايا 2"، ليغدو أشبه بصرر رحيل قسري لن يقوى على شد رحاله إلى أي بقعة خارج بيئته. ومن هنا، ربما، هيئات التمزق التي بدت على هذه الصرر أو اللفائف اللونية.

في المعرض لوحتان تقعان ما بين المعرض السابق والمعرض الجديد. وقد منحتهما غادة الزغبي عنوانا واحدا هو "الأرض الحبلى". ربما تشكل هاتان اللوحتان أهم ما قدمت في المعرض، لذا قد تكونان نواة لأعمال جديدة وإن شطحت هذه الأخيرة إلى عوالم بعيدة عن الصخور والطبيعة الجرداء المتأثرة بأفعال البشر، لتتحدث عن الوحشة وعن أفق يتسع عبثا. وفيهما خمدت وتيرة الفحم وتراجعت لتترك المجال لسطوة الألوان الترابية والزرقة العميقة التي تذكر تماما بساعات الفجر. الفجر الذي سبقه غبار اللوحات الجديدة.

غادة الزغبي، «الكهف الحامل 1»، 2024، أكريليك وفحم على قماش، 119×200 سم

سيرة الخلاص الملتبس

يواصل الناظر إلى لوحات الزغبي التساؤل عن خامة هذا التراخي المتحجر الذي يشبه الصخور دون أن يكونها. فهل هي قطع من قماش تحولت مع الزمن إلى"عرافات" تقيم ما بين عالم الصخور وعالم البشر وتدعي القدرة على معرفة ما تكنه الطبيعة بموادها الأولية تجاه الانسان واقترافاته؟ أم هي حجارة مصهورة أو مقولبة بمواد كلسية رميت بازدراء؟ أو ربما هي الحجارة دون تدخل بشري وقد اكتسبت رغم ذلك هيئات شبه بشرية تعبر عن معنى تشنج الخواء وبرودة الحزن، إذ نعثر في لوحة "بقايا 2" على هيئة امرأة مطأطئة الرأس تتكئ على إحدى ذراعيها وفوقها ريش كثيف ومبعثر لطائر أسود لا وضوح لمعالم جسده ولا لوجهه، بينما تظهر لوحة "بقايا 1" حجارة معجونة بألوان صماء متحدة مع ما يشبه ثوبا رثا. 

ربما هي الحجارة دون تدخل بشري وقد اكتسبت رغم ذلك هيئات شبه بشرية تعبرعن معنى تشنج الخواء وبرودة الحزن

إلى جانب هذه اللوحات تحضر لوحة  ينبعث منها رجاء ما، برز فيها ما يشبه تشكيلا صخريا مائعا، تحت حافري حصان غامض. تشكيل موشوم بأزهار باهتة، هي خفة الحياة العابرة وهي أيضا هشاشة الأمل.

وتحضر في المعرض أيضا لوحة قد تكون مفتاحا يدور في باب أسرار تلك اللفائف/ الصرر والأقمشة "الصخرية" الملتبسة. منحت الفنانة هذه اللوحة عنوان "من وحي فرنسيس بايكون"، وهو فنان إيرلندي شهير عرف بأعماله ذات الأجواء الكئيبة التي تتحدث غالبيتها عن العزلة القاهرة والتخلي، وذلك من خلال هامات بشرية منفرة ومرعبة، معظمها مضغوط أو ممطوط مبتور الأعضاء أو مشوه، حد أن يصبح أشبه بخرق بالية. 

غادة الزغبي، «أنشودة لفرنسيس بايكون (دراسة لبورتريه ذاتي)»، 2025، أكريليك وفحم على قماش، 83×81 سم

شكلت هذه اللوحة موقفا مضادا لما ظهر في باقي اللوحات، دون أن تخرج عن الجو الموشوم بكآبة خجولة. وكأن الفنانة أرادت أخذ ما رسمته في اللوحات الأخرى نحو فسحة خلاص من الوحول البشرية، إذ حضر في اللوحة ما يشبه قطعة قماش قطنية بيضاء تشبه الكفن مسكونة بروح تتلوى وتنفصل عن الأرض صعودا نحو سماء غيبية رمادية ذات مشحات ديناميكية ليست خاوية وشبه عدمية كما هي فضاءات اللوحات الأخرى. تذكر هذه القطعة البيضاء بما يشبه حبل خلاص متعرجا لا بل قيامة من سبات مقلق وكئيب. والغريب أنه على الرغم من تلك النفحة الخلاصية، لم تخرج اللوحة عن الهدوء، بل سكون قاتل محمل خيبات كثيرة.

ومن أعمال المعرض، لوحة أهدتها الفنانة إلى عمل جياكوميتي، "القصر الساعة 4 فجرا". وشتان ما بين الفنانين، أي بايكون وجياكوميتي، وليس من مصادفة في اختيار الفنانة عملا لجياكوميتي يتناقض تماما مع أجواء لوحات بايكون. حضر في اللوحة هيكل مكتنز ومبيض بسطته الفنانة على نحو شبه أفقي وليس عموديا، جاء شبيها بحوت أبيض لفظته الأرض بعد أن كان  في حجرها كمادة أولى. لوحة على الرغم من تباينها مع منحوتة جياكوميتي، تذكر بروحية منحوتته الفراغية "القصر الساعة 4 فجرا" لناحية الخفة المبلسمة والشاعرية التي تذكر بدورها بشخوص الفنان الرهيفة.

غادة الزغبي، «القصر 1» (استلهاما من منحوتة جياكوميتي القصر عند الرابعة فجرا)، 2025، فحم على قماش، 60×68 سم

يذكر أن الفنانة غادة الزغبي أقامت في 2021، معرضها الفردي الثاني بعنوان "مهجورة جميلة"، كما شاركت في العديد من المعارض الجماعية والمهرجانات الفنية في لبنان والخارج، وقد اقتنى لوحاتها العديد من جامعي الأعمال الفنية، وبعضها جزء من المجموعة الدائمة لمتحف سرسق الفني في بيروت.

font change

مقالات ذات صلة