جحيم الحدود الباكستانية... نيران وإيمان وحدود هشة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
قوات باكستانية تقوم بدورية على طول الحدود الباكستانية الأفغانية في منطقة خيبر في 3 أغسطس 2021

جحيم الحدود الباكستانية... نيران وإيمان وحدود هشة

في ليلة سبت غارقة بظلام دامس لا قمر في سمائها، دوى هدير النيران في جبال نوشكي، وتمزق الهواء الساكن تحت وطأة ضربات المدفعية الباكستانية عندما شن الجيش هجوما مضادا عبر الحدود الأفغانية. وتصاعدت ألسنة اللهب من الأبنية التي وصفها المسؤولون بـ"مواقع قيادة طالبان" ومن بينها مقر غزنة، الذي يعتقد أنه كان مركزا للتسلل عبر الحدود.

ووصف مسؤولون أمنيون العملية بأنها "سريعة ونظيفة وحاسمة". ووفقا لقسم العلاقات العامة والجناح الإعلامي للقوات المسلحة الباكستانية، فقد استهدفت باكستان مواقع متعددة لطالبان بعد إطلاق نار "غير مبرر" عبر الحدود في وقت سابق من ذلك اليوم من الأراضي الأفغانية عبر عدة بلدات مثل أنغور أدا، وباجور، وكورام، ودير، وتشيترال.

وقال مصدر عسكري باكستاني رفيع المستوى لـ"المجلة": "أرادوا اختبار صبرنا، وقد عرفوا الإجابة بالتأكيد".

مع بزوغ الفجر، كانت أعمدة الدخان تتصاعد من مركز القيادة المدمر فوق التلال الحدودية. وأكدت السلطات الباكستانية مقتل ثلاثة وعشرين جنديا، والقضاء على أكثر من مئتي مسلح، معظمهم ينتمون لـ"حركة طالبان باكستان"، خلال الضربة الانتقامية. اتهمت إسلام آباد مجموعة "فتنة الخوارج"، وهو الاسم الذي تطلقه على المتطرفين، بتدبير الهجوم بدعم من المخابرات الهندية.

التصعيد الحالي ليس حادثة معزولة، بل هو الفصل الأحدث والأخطر في علاقة متوترة امتدت لعقود، بدأت خلال الحرب السوفياتية-الأفغانية في ثمانينات القرن العشرين

ومن كابول، جاء الرد سريعا. حيث رفض المتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد تلك الاتهامات، وأدان الضربات ووصفها بأنها "انتهاك لسيادة أفغانستان". وقال في حديثه لوسائل الإعلام الأفغانية "لن تسمح أفغانستان لأي أحد بانتهاك حرمة أراضينا وتهديد سلامتها. قواتنا تحركت دفاعا عن النفس، لا لتشن عدوانا، ونحن نحث باكستان على مواصلة الحوار، لا الاستمرار في القصف".

بحلول يوم الأحد، ظل صدى القصف المتقطع يتردد في مرتفعات كورام. وأغلقت المعابر الرئيسة، وهي: تورخام، وشامان، وأنغور أدا، وخارلاتشي، وغلام خان، الأمر الذي أسفر عن تجميد التجارة عبر الحدود وتعطيل حركة آلاف الأسر التي تعتمد على اقتصاد الحدود.

أخوّة ... وامتحان دموي

والتصعيد الحالي ليس حادثة معزولة، بل هو الفصل الأحدث والأخطر في علاقة متوترة امتدت لعقود، بدأت خلال الحرب السوفياتية-الأفغانية في ثمانينات القرن العشرين، عندما أصبحت باكستان نقطة الانطلاق الرئيسة للجهاد ضد السوفيات.

 رويترز
معبر شامان الحدودي على طول الحدود الباكستانية الأفغانية في إقليم بلوشستان باكستان، 12 أكتوبر 2025

في عهد الجنرال ضياء الحق، قامت المخابرات الباكستانية بتدريب وتسليح عشرات آلاف المقاتلين الأفغان. وشكل الكثير من هؤلاء الرجال المتمرسين في المعارك لاحقا نواة حركة طالبان في منتصف تسعينات القرن الماضي، وجلبوا إلى السلطة نظاما متشددا أيديولوجياً، دعمته إسلام آباد بالخفاء كي يكون قوة استقرار في ساحتها الخلفية الغربية.

وفقا لمسؤولين باكستانيين، قتل أكثر من ألف من أفراد الأمن في أعمال عنف مرتبطة بحركة طالبان الباكستانية منذ عام 2022

وعندما غزت الولايات المتحدة أفغانستان في 2001، أصبحت باكستان حليفة واشنطن في الخطوط الأمامية. وفي الوقت الذي كانت تقاتل فيه إلى جانب الولايات المتحدة، لم تتوان باكستان عن تقديم ملاذ آمن لفلول قيادة طالبان، على أمل أن يعودوا يوما ما كقوة صديقة. وبدا أن هذا الأمل تحقق في أغسطس/آب 2021، عندما عادت حركة طالبان إلى كابول بعد الانسحاب الأميركي الفوضوي.

احتفلت إسلام آباد بعودة طالبان لفترة وجيزة. فقد بدا "العمق الاستراتيجي" في متناول اليد وهو حلم باكستان العسكري القديم بأن تحظى بأفغانستان صديقة. لكن النشوة لم تدم طويلا.

قيامة حركة طالبان الباكستانية

بدلا من إرساء السلام، أطلقت عودة طالبان العنان لحالة جديدة من انعدام الاستقرار. وجدت حركة طالبان الباكستانية، المتمركزة منذ زمن طويل على طول الحدود الأفغانية، ملاذات آمنة جديدة. وبعد أن تفرق المئات من مقاتليها، أعادوا تنظيم صفوفهم في ولايات مثل كونار وننغرهار وباكتيكا. وتصاعدت هجماتهم داخل باكستان.

ووفقا لمسؤولين باكستانيين، قتل أكثر من ألف من أفراد الأمن في أعمال عنف مرتبطة بحركة طالبان الباكستانية منذ عام 2022. وتصر إسلام آباد على أن قيادة الجماعة تعمل بحرية من الأراضي الأفغانية، وفي كثير من الأحيان تحت حماية طالبان المحلية.

أ.ف.ب
وزير الخارجية الأفغاني أمير خان متقي في مؤتمر صحافي في سفارة أفغانستان في نيودلهي في 12 أكتوبر 2025

وقال مسؤول باكستاني رفيع المستوى في مكافحة الإرهاب إن "حركة طالبان الباكستانية هي العقبة الأكبر أمام السلام. فهي ليست مجرد جماعة مسلحة وحسب، بل أصبحت ذراعا إقليمية تُستخدم لاستنزاف باكستان".

وينفي قادة أفغانستان هذه الاتهامات حيث أكد مجاهد: أن "لا قواعد لحركة طالبان-باكستان في أفغانستان. وإذا كان لدى باكستان أي أدلة، فعليها الإفصاح عنها ومشاركتها. فالإمارة الإسلامية لا تدعم حرب أي طرف من الأطراف".

بيد أن عمليات التنصت الاستخباراتية والمحللين الغربيين والمسؤولين الباكستانيين يوجهون مجتمعين أصابع الاتهام نحو تنامي الروابط بين حركة طالبان-باكستان وعدد من شبكات الاستخبارات الأجنبية، ولا سيما جناح البحث والتحليل الهندي. وتتهم إسلام آباد نيودلهي بتمويل وتسليح المتمردين سرا عبر وسطاء في أفغانستان، وهو اتهام تنفيه الهند بشدة.

المفارقة مريرة بلا شك. فباكستان التي كانت ذات يوم مهد الجهاد الأفغاني، تجد نفسها اليوم عرضة لهجوم من الفصيل الأيديولوجي المنحدر من تلك الحركة ذاتها

الدور الهندي

جاء التصعيد الأخير في الوقت الذي قام فيه وزير خارجية طالبان أمير خان متقي بزيارة غير مألوفة إلى الهند، حيث أشارت نيودلهي إلى خطط "لرفع مستوى التعاون الدبلوماسي". ويرى كثيرون في إسلام آباد أن توقيت الزيارة لم يكن مجرد مصادفة.

ويرى المحلل في شؤون جنوب آسيا مستنصر كلاسرا أن "الهند تلعب لعبة طويلة الأمد. فبعد استثمار مليارات الدولارات في أفغانستان أثناء الوجود الأميركي، تسعى نيودلهي إلى استعادة نفوذها. وتستغل وكالاتها الاستخباراتية غياب الاستقرار على الجبهة الغربية لباكستان لخلق الضغوط".

أما المؤسسة العسكرية الباكستانية التي تجد نفسها محاصرة بين فكي كماشة، فتواجه معضلة على جبهتين: الهند التي تجاهر بعدائها على الحدود الشرقية ونظام طالبان الذي لا يمكن التنبؤ به على الحدود الغربية، ولدى كليهما القدرة على إيواء شبكات مناهضة لباكستان مثل "جيش تحرير بلوشستان" (BLA) وحركة طالبان الباكستانية.

 أ.ف.ب
معبر حدودي مغلق بين أفغانستان وباكستان في منطقة سبين بولداك في ولاية قندهار في 12 أكتوبر 2025

ويزعم مسؤولون في إسلام آباد أن تصعيد "جيش تحرير بلوشستان" الأخير لهجماته في بلوشستان يُظهر "تنسيقا مع خلايا حركة طالبان الباكستانية" التي تعمل في ظل الملاذات الأفغانية. ويغذي شبح التدخل الهندي، المباشر أو غير المباشر، مخاوف باكستان الأمنية ​​العميقة من التطويق، وهو خوف متجذر في تاريخها منذ الانفصال عن الهند.

مجاهدو الأمس... أعداء اليوم المحتملين

المفارقة مريرة بلا شك. فباكستان التي كانت ذات يوم مهد الجهاد الأفغاني، تجد نفسها اليوم عرضة لهجوم من الفصيل الأيديولوجي المنحدر من تلك الحركة ذاتها.

بعد عام 2021، عرضت باكستان على كابول الاعتراف الدبلوماسي والمساعدات الإنسانية وتزويدها بالكهرباء، أملا في ترجمة حسن النوايا إلى تعاون ضد التشدد العابر للحدود. غير أن قيادة طالبان، التي يهيمن عليها متشددون من قندهار، لم تبدِ رغبة حقيقية في مواجهة نظرائها الإسلاميين مثل حركة طالبان الباكستانية، التي تعتبرهم إخوة في السلاح.

وترى إسلام آباد في هذا التردد نوعا من الخيانة، وقد عبر عن هذه المشاعر دبلوماسي باكستاني متقاعد عندما قال: "كنا نتوقع الامتنان، وبدلا من ذلك، حصلنا على أسلحة عبر الحدود. إن التاريخ يعيد نفسه".

عرضت قوى إقليمية، مثل إيران وقطر والسعودية، الوساطة. وصرح دبلوماسي غربي في إسلام آباد "يشعر الطرفان بالظلم. ثمة مخاوف بأن ما بدأ كاشتباك حدودي قد يتطور إلى قطيعة جيوسياسية"

يحمل التحدي الذي تبديه طالبان أيضا بعدا سياسيا داخليا. فبعد أن قاتلت لعشرين عاما لطرد القوات الأجنبية، باتت تعتبر أي طلب باكستاني تدخلا في الشأن الأفغاني. وقال مجاهد: "أفغانستان تريد علاقات ودية، ولكن ليس على حساب استقلالها. نتوقع الاحترام نفسه من جيراننا".

البعد الإنساني

وراء هذا الواقع الجيوسياسي ثمة مأساة إنسانية تلقي بظلالها. فباكستان تستضيف حتى الآن حوالي ثلاثة ملايين أفغاني، لاجئين منذ أربعة عقود من الحرب. وُلد وترعرع معظمهم في باكستان، بهويات وولاءات متباينة. لكن مع تصاعد التوتر على الحدود، تجد تلك المجتمعات نفسها اليوم عالقة بين التاريخ والعداء.

وتعكس حملة الترحيل الأخيرة التي شنتها إسلام آباد ضد الأفغان غير المسجلين إحباطا متزايدا، إلا أنها تكشف في الوقت نفسه عن معضلة أخلاقية: كيفية حماية الأمن القومي دون التخلي عن المسؤولية الإنسانية.

أ.ف.ب
أفغان يحملون علم طالبان أثناء تجمعهم دعما لحكومة طالبان الأفغانية خلال تجمع حاشد في خوست في 13 أكتوبر 2025

ولعل التجارة والتواصل يتأرجحان في مهب الريح أيضا، فالأسواق العابرة للحدود في تورخام وشامان تعطلت. إن مشاريع مثل الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني (CPEC) وممر الطاقة (CASA-1000) تحتاج إلى حدود غربية آمنة. وإذا امتد القتال، فقد تمتد آثاره الاقتصادية إلى ما هو أبعد من جبال نوشكي.

النار والمستقبل

تبنى الجيش الباكستاني بقيادة المشير عاصم منير مبدأ "الردع السريع"  وهو تحول من الدفاع السلبي إلى الدقة الاستباقية. ويقول المسؤولون إن الضربات الأخيرة تشير إلى أن باكستان "لن تبدأ الحروب، لكنها لن تتقبل الهجمات أيضا".

وفي الوقت نفسه، يدعو قادة أفغانستان إلى ضبط النفس، لكن دون التخلي عن مواقفهم المتحدية. والهوة الأيديولوجية بين جنرالات راولبندي ورجال الدين في قندهار آخذة بالاتساع، الأمر الذي يذكرنا بأن الإيمان المشترك لا يترجم دائما إلى مصالح مشتركة.

ومن جهة ثانية، عرضت قوى إقليمية، مثل إيران وقطر والسعودية، الوساطة. وصرح دبلوماسي غربي في إسلام آباد "يشعر الطرفان بالظلم. ثمة مخاوف بأن ما بدأ كاشتباك حدودي قد يتطور إلى قطيعة جيوسياسية".

في الوقت الحالي، هدأت أصوات المدافع، لكن الصمت يبدو مؤقتا؛ هدنة هشة بين جارتين تشابكت مصائرهما منذ أيام المجاهدين. أما جبال نوشكي الرابضة كشاهد أبدي فهي كما كانت دائما: تملؤها الندوب، تتربص بحذر وترقب، وتنتظر الشرارة التالية.

font change