الجزائر ومالي... تصعيد مستمر وأوراق ضغط

اصطفافات جيوسياسية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
قوات شرطة مكافحة الشغب أمام السفارة الجزائرية في باماكو في 8 أبريل 2025

الجزائر ومالي... تصعيد مستمر وأوراق ضغط

إن العلاقة بين الجزائر وجارتها الجنوبية مالي، ترزح تحت كم هائل من التوتر، بعد لجوء السلطات الانتقالية في باماكو، إلى محكمة العدل الدولية، ورفعها دعوى ضد الجزائر، بشأن إسقاطها طائرة مالية من دون طيار، انتهكت المجال الجوي الجزائري في مارس/آذار الماضي، لكن التصعيد لم يتوقف عند هذا الحد، إذ يضاف إلى ذلك ما يتصل بالمشهد السياسي الرسمي في مالي، والذي أصبحت فيه الجزائر موضوعا أساسيا في خطابات المسؤولين الماليين.

ويأتي المنعطف الجديد في العلاقات الجزائرية– المالية المتوترة أصلا، بعد الخطاب العدائي الذي ألقاه الجنرال عبد الله مايغا، رئيس الحكومة في مالي، خلال كلمته أمام الجمعية العامة الثمانين للأمم المتحدة في نيويورك، مطلقا اتهامات ضد الجزائر بـ"دعم الإرهاب الدولي".

في ظل هذه التطورات، تطرح تساؤلات ملحة حول أسباب لجوء مالي إلى ساحات القضاء الدولي، ولمن ستعود غلبة القانون الدولي، وتثار أسئلة أخرى حول تقدير مسارات الأزمة ومآلاتها المقبلة، وعما إذا كان هناك مخرج واضح في الوقت الحالي، والسؤال الثالث وهو المهم والأهم في الموضوع: من الذي يقف وراء هذه الخطوات الضارة بالعلاقات الثنائية؟

يبدو واضحا أن السلطة الانتقالية في باماكو، تريد ضرب عصفورين بحجر واحد، الأول: تدويل الحادثة على المستوى الإقليمي والدولي، من أجل كسب الدعم الدولي، أما الثاني فيتمثل في بحثها عن الشرعية على الساحة الدولية، فمالي اليوم تعيش مرحلة انتقالية صعبة لتشابك الأحداث، وكثرة اللاعبين الإقليميين في المنطقة، وفوضوية المشهد وكل هذه الظروف ساهمت في تصاعد الهجمات الدامية، بين جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (جي إن آي إم، المرتبطة بتنظيم "القاعدة" في بلاد المغرب الإسلامي) والجيش المالي وأيضا تفاقمت معاناة الماليين أمنيا واقتصاديا.

مالي اليوم تعيش مرحلة انتقالية صعبة لتشابك الأحداث وكثرة اللاعبين الإقليميين في المنطقة وفوضوية المشهد

لكن جرت الرياح عكس ما اشتهاه رئيس المرحلة الانتقالية في مالي، العقيد آسيمي غويتا إذ أصدرت محكمة العدل الدولية قرارا يقضي بإحالة طلب مالي ضد الجزائر بشأن إسقاط طائرة مسيرة إلى الحكومة الجزائرية، وقالت في بيانها إن "الدعوى لا يمكن أن تمضي قدما ما لم توافق الجزائر على اختصاصها القضائي"، القرار الذي منح الجزائر موقعا مريحا للغاية، وخلط حسابات باماكو، وقطع مساعيها الرامية لتدويل، هذا الملف عبر محكمة العدل الدولية.

رسائل موسكو

المؤكد أن قرار محكمة العدل الدولية، وإن بدا قانونيا في مظهره، نظرا لاستنادها على المادة 36 من النظام الأساسي التي تحدد كيفية تأسيس اختصاص المحكمة، حيث تشمل القضايا التي يحيلها الأطراف والمسائل المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة أو المعاهدات، كما تسمح للدول بإعلان قبولها للاختصاص الإلزامي للمحكمة، في مسائل قانونية محددة مثل تفسير المعاهدات، ووجود انتهاكات للالتزامات الدولية، لكنه يحمل رسائل سياسية بالغة الدلالة، فهو ينصف الجزائر من جهة، ويضعها في موقع الممسك بكل الخيوط من جهة أخرى، ويقلص بالمقابل الخيارات المتاحة أمام باماكو، فهي أمام سيناريوهين لا ثالث لهما في ظل غياب قرار قانوني ملزم:

1- مصافحة يد الجزائر الممدودة.

2- التمسك بسياسة اصطفافات جيوسياسية أبرزها محور "غويتا– روسيا– أنقرة".

أ.ف.ب
أحد الحضور يحمل علمَي روسيا ومالي أثناء تجمع في مركز باماكو الدولي للمؤتمرات في باماكو، 12 أبريل 2025، استجابةً لدعوة منظمات شبابية مالية للاحتجاج على ما يعتبرونه "عدوانا جزائريا".

وفي هذا المناخ المشحون، دخلت روسيا على خط الأزمة بشكل معلن، وأبدت على لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف، استعدادها لحل هذا التوتر الحاد، لكنه تعمد إيصال مضامين معينة بصورة غير مباشرة وهو ما يعرف إعلاميا بـ"الرسائل الضمنية"، ومن بين ما تم تمريره أن "التوترات الحالية بين الجزائر ومالي "مرتبطة ارتباطا وثيقا بالماضي الاستعماري، عندما اكتفى المستعمرون بتقسيم أفريقيا، وفق خط مستقيم، ما أدى إلى فصل الجماعات العرقية بعضها عن بعض"، موضحا أن "هذا ما حدث مع الطوارق" في إشارة صريحة وواضحة إلى مسؤولية الاستعمار الفرنسي عن تقسيم دول الساحل، وتشتيت قبائل الطوارق في أراضيها.

وارتكزت الرسالة الضمنية الثانية على دخول موسكو على خط الجزائر-مالي، حيث قال لافروف: "الطرفان مهتمان بأن نساهم في تسوية الخلافات القائمة، ونحن مستعدون لذلك"، دون أن يقدم أي تفاصيل أخرى، كما أنه لم يكشف صراحة، عن وجود طلب صريح من أي من الطرفين، لتؤدي موسكو وساطة بينهما، واستعرض لافروف في تصريحاته "الفليق الأفريقي" (الوحدة العسكرية التابعة لوزارة الدفاع الروسية التي تعمل في عدة بلدان أفريقية؛ خصوصا في منطقة الساحل مثل مالي، تحت غطاء دعم الحكومات الشرعية في مواجهة الإرهاب)؛ حيث قال إن: "قواتنا المسلحة لا تنفذ أي عمل ضد المدنيين أو الممتلكات المدنية".

مالي، والنيجر، وبوركينافسو دول انقلابية بمعنى أن من يحكمها اليوم هي أنظمة عسكرية انقلابية، تفتقد للشرعية السياسية والدبلوماسية، وهي غير قادرة على الاستمرار دون وجود قوى فاعلة تدعمها في المنطقة

وهناك عدد قليل جدا من الأكاديميين والمتخصصين، الذين يبدون تفاؤلا بإمكانية أن تجد العلاقات الجزائرية-المالية منفذا لتجاوز الأزمة، والعودة في الظرف الراهن إلى العلاقات الطبيعية، لسببين: الأول يتعلق بكثرة اللاعبين في المنطقة، والثاني مرتبط بطبيعة النظام. وللتدليل على هذا المعطى يشرح جدو فؤاد، أستاذ وباحث بقسم العلوم السياسية والإعلام بجامعة بسكرة الموضوع موجزا: "المفارقة الصارخة أن هذه الدول على غرار: مالي، النيجر، بوركينافسو هي دول انقلابية، بمعنى أن من يحكمها اليوم، هي أنظمة عسكرية انقلابية، تفتقد للشرعية السياسية والدبلوماسية، وهي غير قادرة على الاستمرار، دون وجود قوى فاعلة تدعمها في المنطقة، وهي من تؤجج الوضع في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم ذلك فهي تواجه عزلة دولية وقطيعة، مع الكثير من الدول والمنظمات الدولية، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: تعليق الاتحاد الأفريقي عضوية مالي ردا على الانقلاب العسكري، في مايو/أيار الثاني 2021، مهددا في الوقت نفسه بفرض عقوبات في حال لم يعد قادة المجلس العسكري السلطة إلى المدنيين، كما علق الاتحاد الأوروبي المساعدات التنموية وفرض عقوبات على قادة الانقلاب".

وتثار حاليا تساؤلات بشأن الخيارات، وأوراق الضغط التي تملكها باماكو في أزمتها مع الجزائر، بعد فشل مساعي تدويل الحادثة، وبخصوص هذه النقطة، يوضح جدو قائلا إن "السلطة في باماكو لا تمتلك أوراق ضغط كافية، ما عدا ورقة ضغط واحدة ألا وهي الأزواد الذين يمتدون إلى عمق جنوب الجزائر، لذلك سعت إلى إنجاح اتفاق السلم والمصالحة باعتباره الإطار الأنسب لحل الأزمة في مالي، وللحفاظ على سيادتها وسلامة أراضيها ووحدتها الوطنية، لكن السلطات الانتقالية نقضت الاتفاق، وأصبحت تعامل جميع الحركات في الشمال، على أساس أنها حركات إرهابية، وقد استغلت موسكو هذه الفوضى، لأنها تبحث عن موطئ قدم لها في الساحل".

وتنظر سعيدة سلامة، أستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية بـ"جامعة الجزائر" إلى مالي على أنها نموذج صارخ لـ"عسكرة السياسة في أفريقيا"، وتقول إنه "ومنذ الانقلاب الأخير لم تفلح السلطة العسكرية سوى في تمديد أمد المرحلة الانتقالية، وتأجيل الاستحقاقات الديمقراطية، والتورط في تحالفات خارجية لا تخدم سوى أطماع قوى دولية، تبحث عن موطئ قدم في الساحل الأفريقي. ولعل الأدهى أن هذه السلطة اختارت مهاجمة الجزائر، الدولة التي لم تكف يوما عن دعم مسار السلم والمصالحة في مالي، في محاولة يائسة لتحويل الأنظار عن فشلها الداخلي". والأمر الذي لا يجب إغفاله وفق المتحدثة أن "عسكرة السياسة بديلا عن الديمقراطية، بل هي النقيض المباشر لها، فحيثما حلت البنادق محل صناديق الاقتراع، انكمش الأفق السياسي، وتراجعت التنمية، وفقدت الدولة مشروعيتها".

font change