أزمة الجزائر وبلدان الساحل... سيناريوهات وتداعيات

من يقف وراء تحريك المياه الراكدة في الساحل؟

أ.ف.ب
أ.ف.ب
متظاهرون يحملون لافتات أثناء تجمعهم في مركز باماكو الدولي للمؤتمرات في 12 أبريل استجابة لدعوة منظمات شبابية مالية للاحتجاج على ما يعتبرونه عدواناً من قبل الجزائر

أزمة الجزائر وبلدان الساحل... سيناريوهات وتداعيات

شهدت العلاقات بين الجزائر ومالي توترا متصاعدا في العامين الأخيرين وصل ذروته بعد حادث إسقاط الطائرة المسيرة المسلحة (درون) التي حاولت اجتياز الحدود الوطنية والتسلل إلى الأراضي الجزائرية بحوالي كيلومترين، أعقبه انفلات في الخطاب السياسي لكل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو (استدعاء السفراء على خلفية إسقاط المسيرة) رغم أن هذا العمل العدواني قد يؤدي إلى عقوبات دولية وحتى ردود فعل عسكرية لأنه يعتبر ووفقا لاتفاقية شيكاغو لعام 1994 المتعلق بتنظيم الطيران المدني انتهاكا للسيادة الوطنية.

وزعمت الحكومة المالية، في بيان لها، أن "الطائرة دون طيار كانت ترصد اجتماعا لمسلحين قبل إسقاطها من قبل الجيش الجزائري في منطقة تبعد 9.5 كيلومتر جنوب الحدود بين مالي والجزائر"، لتطلب السلطات المالية من نظيرتها الجزائرية تزويدها بأدلة تثبت انتهاك طائرة استطلاع مالية دون طيار لمجالها الجوي رغم أنها ليست المرة الأولى التي تستهدف القوات المالية المناطق الحدودية بضربات جوية وقد تكرر هذا الأسلوب عدة مرات في الأشهر الماضية ويمكن الإشارة إلى الضربات التي استهدفت سيارة تنقيب عن الذهب كانت بالقرب من منطقة تين زواتين الحدودية مع الجزائر.

وذهبت إلى أبعد من هذا كله، إذ قررت الانسحاب فورا من لجنة الأركان المشتركة (هيئة تنسيق عسكري كانت تجمع الجزائر ودول الساحل الأفريقي مقرها تمنراست جنوبي البلاد)، وأيضا تقديم شكوى أمام الهيئات الدولية ضد السلطة في الجزائر رغم أن المادة الثالثة من الاتفاقية السالفة الذكر تنص على أنه "لا يجوز لأي طائرة من الطائرات المستخدمة في خدمات عسكرية أو جمركية أو في خدمات الشرطة التابعة لدولة متعاقدة أن تطير فوق إقليم دولة أخرى أو أن تهبط فيه إلا إذا كانت قد حصلت على ترخيص بذلك من خلال اتفاق خاص أو غيره وطبقا لشروط ذلك الترخيص، كما وجه البيان المالي اتهامات لاذعة للجزائر بدعم ما تصفه باماكو بـ"الجماعات الإرهابية" في إشارة واضحة وصريحة إلى حركات الأزواد التي تتمركز في شمال مالي قرب الحدود مع الجزائر.

السلطات الانتقالية المالية وجهت أنظارها إلى إقليم الأزواد بعد تلقيها ضربات من جماعة "نصرة الإسلام" التابعة لجماعة "أنصار الإسلام والمسلمين"

وأجهضت الأزمة مؤشرات التقارب بين الجزائر وباماكو والتي برزت بعد إرسال سفيرين جديدين وتصريحات إيجابية للسفير المالي الجديد في الجزائر محمد أماغا دول، والتي أكد فيها أن "الجزائر بلد شقيق وصديق نتقاسم معه الكثير من الروابط التاريخية والجغرافية والاقتصادية"، مؤكدا أنه "سيعمل على خريطة الطريق لمهمته في الجزائر، لتعزيز التعاون الثنائي بين البلدين".

مثل هذه التطورات تحتاج اليوم إلى البحث عن إجابات عقلانية وواقعية، فثمة أسئلة عديدة تطرح نفسها وتشمل: من يقف وراء تحريك المياه الراكدة بمنطقة الساحل وحتى الدفع نحو إعادة تشكيل وصياغة التحالفات الإقليمية في المنطقة؟ وما سيناريوهات المرحلة المقبلة والتأثيرات السلبية التي ستنجر عن هذه التوترات؟

قبل الإجابة على السؤال الأول، يقول إيدابير أحمد أستاذ الدراسات الأمنية والاستراتيجية بكلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة تامنغست في حوار مطول مع "المجلة" إنه يجب العودة إلى مجموعة من الأحداث المهمة التي وقعت منذ الانقلاب العسكري الأخير في مالي أهمها اتفاق الشراكة الذي أبرمته السلطات الانتقالية في مالي مع مرتزقة "فاغنر" الروسية وتوظيفها في تعزيز قدراتها الأمنية بعد انسحاب القوات الفرنسية وإنهاء مهام بعثة حفظ السلام الأممية بموجب القرار رقم 2690 الصادر عن مجلس الأمن الدولي".

بعد هذه الخطوة، يقول المحلل السياسي إن "السلطات الانتقالية المالية وجهت أنظارها إلى إقليم الأزواد بعد تلقيها ضربات من جماعة (نصرة الإسلام) التابعة لجماعة (أنصار الإسلام والمسلمين) بقيادة الإرهابي طلحة أبو هند الذي كان ينشط في المنطقة المتاخمة بين جنوب مالي ومنطقه أزواد، الأمر الذي بررته السلطات الانتقالية بأنه تحالف بين الحركات الأزوادية والجماعات الإرهابية لتجد ذريعة للتنصل من اتفاق السلام الموقع في الجزائر عام 2015، وبعدها شنت سلسلة من الهجمات العسكرية على مدن أزوادية وتمكنت من استرجاع مدينة كيدال معقل الحركات الأزوادية، غير أن هذا الانتصار لم يدم طويلا، ففي صيف 2024 تعرض (فيلق فاغنر) إلى هزيمة نكراء على يد الحركات الأزوادية بمنطقة اشبرش بضواحي منطقة تين زواتين الأزوادية، والتي كلفتها خسائر مادية وبشرية بعد ثلاثة أيام من القتال إلى جانب الجيش المالي".

يجب العودة إلى مجموعة من الأحداث المهمة التي وقعت منذ الانقلاب العسكري الأخير في مالي أهمها اتفاق الشراكة الذي أبرمته السلطات الانتقالية في مالي مع مرتزقة "فاغنر" الروسية 

ولم تستسغ السلطات المالية هذا الفشل وخوفا من فقدان ثقة الشعب، وجهت على لسان وزير خارجيتها عبد الله مايغا اتهامات للجزائر على أنها "تؤوي الإرهابيين وتلعب دور المشوش ولا تحترم حسن الجوار وعليها أن تعلم أن مالي ليست ولاية جزائرية، ورد وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف على تصريحات مايغا ووصفها بأنها "كلام وضيع لا يليق البتة".

أ.ب
علم الجزائر على واجهة البرلمان، 16 أبريل، في الجزائر العاصمة

لكن المؤكد اليوم أن هناك عدة أطراف تتدخل في الأزمة وتسعى إلى تعقيد الأوضاع أكثر مما هي معقدة فالمنطقة مثقلة بأزمات متجذرة لا تعد ولا تحصى، نذكر على سبيل المثال الهجمات الإرهابية المتنامية في الدول الثلاث مالي وبوركينا فاسو والنيجر، إذ تمثل بؤرة رئيسة لنشاط التنظيمات الإرهابية وبخاصة جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" وتنظيم "داعش" اللذين يسعيان إلى السيطرة على أهم قواعد الجيش المالي وقد نجحا العام الماضي في السيطرة على أطراف مدينة لابيزينغا. يضاف إلى ذلك الفقر وتغير المناخ والنزوح إذ يضطر المئات من الماليين يوميا إلى الهجرة بحثا عن لقمة العيش.

ولأن العلاقات بين الجزائر و"تحالف الساحل" تعيش لحظات فارقة وخطيرة أبقت بعض التقديرات السياسية المجال مفتوحا على جميع الاحتمالات، ويطرح إيدابير أحمد سيناريوهين اثنين. تقوم فرضية السيناريو الأول وهي الأكثر تفاؤلا على أن تجد الأزمة مخرجا في الأسابيع القليلة القادمة، ذلك أن البيان الصادر عن تحالف دول الساحل تم إصداره بصفة فردية من قبل رئيس المجلس العسكري في مالي آسيمي غويتا دون التشاور مع رؤساء النيجر وبوركينا فاسو. أما السيناريو الثاني فيسمى "السيناريو المتشائم" لا سيما إذا استغلت بعض القوى الإقليمية أو الدولية الأزمة وأخرجتها عن نطاقها من أجل استنزاف الجزائر على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية.

هناك ترتيبات نسقية وبنيوية جديدة لمنطقة الساحل في إطار توزيع جديد لسلم القوة والنفوذ وفق معايير جيو-طاقوية ذات صلة بسوق الغاز الذي أصبح موضوعا استراتيجيا

وأي تصعيد مرتقب في هذا السياق قد يؤدي إلى تأثيرات سلبية على المشاريع الجزائرية عبر العمق الأفريقي. ويمكن الإشارة هنا إلى مشروع "أنبوب الغاز العابر للصحراء" وهو مشروع ضخم واستراتيجي يهدف إلى نقل الغاز الطبيعي من نيجيريا إلى أوروبا عبر النيجر والجزائر يهدف إلى نقل ما بين 20 و30 مليار متر مكعب سنويا من الغاز من نيجيريا، وحول هذا المشروع يقول المحلل السياسي إيدابير أحمد إنه "وعلى الرغم من أنه لا يمر عبر الأراضي المالية ما يجعله بمنأى عن التأثير الجغرافي المباشر، فإن الانعكاسات الجيوسياسية لهذه الأزمة تبقى قائمة فتصاعد التوتر بين الجزائر ومالي قد يضعف التنسيق الإقليمي الضروري لإنجاح مثل هذه المشاريع العابرة خصوصا إذا تعكرت العلاقات مع النيجر التي تمثل الشريك الأساسي في مسار الأنبوب".

وطبعا هذا الوضع يخدم قوى إقليمية أخرى، والمقصود هنا المغرب الذي سعى جاهدا للظفر بالمشروع لكن عقباته كانت أكبر من جدواه، وأهمها: التمويل وصعوبة مسار الخط. ووفقا لبعض التقديرات الاقتصادية فإن الخط يمر عبر عدة دول ولهذا يصعب فنيا تنفيذه وتمويله ماليا وحمايته أمنيا إضافة إلى صعوبة إبرام عقود شراء الغاز فالسؤال الذي يطرح نفسه: من سيقتني الغاز لمدة 20 سنة قادمة؟ بينما المشروع يحتاج إلى مدة تتراوح بين 5 و10 سنوات كاملة لإنجازه، ولذلك يقول إيدابير أحمد إن "الأمر مرتبط بدور نيجيريا كدولة محورية في منطقة الساحل الأفريقي وقرارها يبقى مهماً في تحديد مسار مشروع أنبوب الغاز".

وبالنظر إلى المتغيرات التي برزت في المنطقة، فالمطلوب اليوم من الجزائر إدارة الأزمة بذكاء وحكمة، ويقول البروفيسور نور الصباح عكنوش أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة بسكرة لـ"المجلة" إن "هناك ترتيبات نسقية وبنيوية جديدة لمنطقة الساحل في إطار توزيع جديد لسلم القوة والنفوذ وفق معايير جيو-طاقوية ذات صلة بسوق الغاز الذي أصبح موضوعا استراتيجيا مرتبطا بلعبة الأمم بين روسيا والاتحاد الأوروبي، حيث تصبح منطقة الساحل الرمادية بالنظر لهشاشة نظم حكمها موقعا للتنافس الشديد على مستوى الفواعل المنتجة للغاز والأسواق الخارجية المستهلكة وعلى الجزائر في هذا السياق إدارة الأزمة بذكاء وحكمة حفاظا على مصالحها الطاقوية والاستراتيجية كمؤثر حاسم في الموضوع من خلال عدم الانجرار في معادلة بعض القوى التي تريد استنزافها في توترات هامشية وإعادة قراءة الأحداث ببرغماتية"، ومن بين الخيارات المطروحة حاليا تفعيل الشراكة مع نيجيريا والسنغال وموريتانيا وتشاد في إطار مقاربة دبلوماسية واقتصادية وسياسية لعزل الأطراف الثلاثة ومن وراءها في المنطقة في إطار تكتل أوسع لمجموعة الساحل والصحراء.

font change