الجزائر على "اللائحة السوداء"... أزمة مالية بأبعاد سياسية "أوروبية"

إصلاحات بهدف تكييف التشريعات مع الالتزامات الدولية وقيود صارمة على العملات الرقمية

أ.ف.ب.
أ.ف.ب.
جزائري يلوح بأوراق نقدية في المحكمة قبيل البدء محاكمة شخصيات بارزة في البلاد اتهمت بالفساد، العاصمة الجزائري 2 ديسبمر 2019

الجزائر على "اللائحة السوداء"... أزمة مالية بأبعاد سياسية "أوروبية"

مُنذُ إدراجها ضمن اللائحة الأوروبية السوداء للدول العالية الأخطار من حيث غسيل الأموال، استنبطت الجزائر وسائل أشد حذرا وأكثر أمانا وسرية لمكافحة هذه الجريمة. ويمكن وضع هذه الإصلاحات في إطار منطق "العصفورين بحجر واحد": الأول، الشطب من اللائحة والحصول على ثقة دولية وصدقية وازنة، فالإدراج على اللائحة سيؤثر على العمليات المالية ليس فقط مع الأوروبيين بل العالم أجمع.

أما الثاني، فيتمثل في المراجعة في حد ذاتها باعتبار أن الزمن قد تجاوز القانون رقم 05–01 المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما، إذ مضى على صدوره 20 سنة كاملة، تغيرت خلالها الكثير من الأمور، لا سيما في المجال المالي والمصرفي الذي أصبح يعتمد كثيرا على التكنولوجيا المالية (Fintech)، والأهم من ذلك ظهور ما يُسمى بالعملات الافتراضية إنطلاقا من سنة 2009. فهل ستنجح الجزائر في كسب الرهان والخروج من اللائحة؟

تُعتبر مجموعة العمل المالي الدولية (Groupe d'action financière - Gafi)، المعروفة بالإنكليزية باسم "فاتف" (FATF – Financial Action Task Force)، من أبرز الهيئات الدولية التي تعنى بالحفاظ على نزاهة النظام المالي العالمي، وهي تأسست عام 1989 بمبادرة من مجموعة الدول الصناعية السبع (G7)، وجاء إنشاؤها استجابة للتهديدات المتزايدة الناتجة من غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

منع إصدار العملات الرقمية أو بيعها أو شرائها أو استخدامها أو حيازتها، كما يحظر الترويج لها أو جعلها وسيلة للتداول التجاري أو الاستثماري وتعدين العملات المشفرة

على الرغم من أن القطاع المصرفي بعيد عن شبهات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، على خلفية تشدده في تطبيق إجراءات الرقابة الداخلية في المصارف كأحد قواعد مكافحة عملية غسل الأموال، غير أن الجزائر أبدت اهتماما ببعض النوافذ التي قد تكون ممرا لمثل هذه الجرائم، مثل القطاع العقاري، إذ أطلقت نظاما جديدا يهدف إلى سد الثغرات المالية المشبوهة في هذا القطاع من خلال فرض ضوابط صارمة على الوسطاء (الأعوان) العقاريين، كإلزامهم التدقيق في هوية العميل والمستفيد الحقيقي والوكلاء المحتملين مع توضيح غرض العملية وطبيعتها.

تجفيف منابع "المال المشبوه"

أهم ما في هذه الإصلاحات، منع إصدار العملات الرقمية أو بيعها أو شرائها أو استخدامها أو حيازتها، كما يحظر الترويج لها أو جعلها وسيلة للتداول التجاري أو الاستثماري، إضافة إلى منع إنشاء منصات مخصصة لتبادلها أو تشغيلها، وتشمل هذه القيود أيضا ما يعرف بـ"تعدين العملات المشفرة"، الذي أصبح مصنفا ضمن الأنشطة المحظورة قانونا، مما يشير إلى تشديد الرقابة على كل ما يتعلق بالتقنيات الرقمية المالية غير المنظمة.

أ.ف.ب.
علم الجزائروسط العاصمة الجزائر، 25 أغسطس 2022

ويرى المحلل الاقتصادي جلال بوسمينة أن "هذا القرار قد أملته أسباب عدة من بينها عدم وجود رقابة مركزية وقوانين تؤطر وتنظم المنصات التي تتداول فيها، أو يتم من خلالها تتبع المستخدمين وتحصيل الضرائب، وهي تُعتبر اليوم واحدة من وسائل غسل الأموال أو تهريبها. ولهذا أصدرت الجزائر قرار المنع من أجل سد الباب نهائيا أمام هذه الجرائم".

ويُقصد بالعمولات أو الأصول الافتراضية، بحسب ما ورد في القانون الجزائري الجديد، تلك القيم الرقمية التي يمكن تداولها عبر الفضاء الرقمي أو تحويلها، ويمكن أن تستخدم لأغراض الدفع أو الاستثمار.

وضعت الجزائر نصب عينيها أموال السياسيين الرفيعي المستوى والأشخاص "المعرضين سياسيا" سواء داخل الجزائر أو خارجها كرؤساء الدول أو الحكومات والسياسيين اوالمسؤولين الحكوميين والقضائيين ومديري الشركات المملوكة للدولة وغيرهم

وهذه الخطوة ليس مصادفة، بل جزء من استراتيجيا تهدف إلى تكييف التشريعيات الوطنية مع الالتزامات الدولية للجزائر ولا سيما مع توصيات مجموعة العمل المالي، وبالتالي تسريع الخطى للخروج من ورطة اللائحة السوداء.

ووضعت الجزائر نصب عينيها أموال السياسيين الرفيعي المستوى، إذ تنص التعديلات الجديدة التي أدرجت على القانون رقم 05-01 بتاريخ 6 فبراير/ شباط 2005 والمتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما، على ممارسة رقابة مشددة على الأشخاص "المعرضين سياسيا" سواء داخل الجزائر أو خارجها وهُم الذين أوكلت إليهم مهام عامة بارزة في الجزائر أو في الخارج كرؤساء الدول أو الحكومات والسياسيين الرفيعي المستوى والمسؤولين الحكوميين والمسؤولين القضائيين الرفيعي المستوى ومديري الشركات المملوكة للدولة وكبار المسؤولين في الأحزاب السياسية، وكذلك الأشخاص الذين أوكلت إليهم مهام بارزة من قبل منظمة دولية كأعضاء الإدارة العُليا، بمن فيهم المديرون ونواب المديرين وأعضاء مجالس الإدارة أو المناصب التي تعادلها.

غيتي
مبنى مجلس النواب الجزائري، في العاصمة الجزائر 10 سبتمبر 2020

وفي محاولة منها لدحض الانتقادات الخارجية، يُلزم مشروع القانون الجديد تعزيز التعاون الدولي في مجال تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وتمويل انتشار أسلحة الدمار الشامل، وذلك من خلال التعاون وتبادل المعلومات مع الجهات النظيرة في الخارج بشكل تلقائي أو عند الطلب، وفقا للاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف. واشترطت أن تكون هذه الجهات خاضعة للسير المهني بالضمانات المحددة في الجزائر وأن تراعى في ذلك المعاملة بالمثل وعدم التعارض مع المبادئ الأساسية للنظام القانوني الجزائري.

أبعاد سياسية تتجاوز فرنسا الى أوروبا

وأمام هذا الكم الهائل من النصوص التشريعية، هل ستجد الجزائر نفسها مستقبلا خارج القائمة السوداء؟

يجزم أستاذ الاقتصاد في جامعة ورقلة الحكومية، سليمان ناصر، في جوابه أن "شطب الجزائر من قائمة الدول العالية الأخطار على صعيد غسل الأموال مرتبط بنية الاتحاد الأوروبي لأن القرار المتخذ ليس مجرد قرار اقتصادي عادي بل له أبعاد وأسباب سياسية خفية". وليست خافية على أحد طبيعة الأزمة الحادة القائمة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي في شأن اتفاق الشراكة الجاري تنفيذه منذ عام 2005.

ويقول الناصر لـ"المجلة" إن "الخلفيات السياسية الكامنة وراء التصنيف تتجاوز فرنسا لأن الخلافات القائمة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي أكبر بكثير واتخذت منحى تصاعديا بعد أن رفعت بروكسيل منسوب الغضب وأعلنت إطلاق إجراء تحكيمي ضد القيود التجارية والاستثمارية التي تفرضها الجزائر، كونها تعتبر أن الاتفاق السالف الذكر لا يزال ساري المفعول".

تعكف لجنة جزائرية على تقييم الأخطار المرتبطة بغسل الأموال ومحاربة الإرهاب، وتعمل خلية معالجة المعلومات المالية (تتبع وزارة المالية)، على إعداد تقرير ستعرضه الحكومة الجزائرية على مجموعة العمل المالي في لوكسمبورغ

ومما يعزز فرضية الخلفيات السياسية، عدم مراعاة الجانب الزمني المتعلق بالمرور من اللائحة الرمادية التي أدرجت فيها العام المنصرم إلى اللائحة السوداء التي أعلنت في بداية يونيو/ حزيران الماضي، وهو ما اعتبر معيارا غير كاف للتشدد مع الجزائر، ولا سيما أن الحكومة الجزائرية سبق لها أن أدرجت على القانون الرقم 05-01 في فبراير/شباط المنصرم، والمتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما، مجموعة من التعديلات أبرزها:

تشكيل لجنة وطنية لتقييم أخطار تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل، إضافة إلى وضع الجمعيات تحت مجهر الرقابة إذ مُنعت هذه الأخيرة من قبول أي تبرعات أو مساعدات مالية مجهولة المصدر أو متأتية من أعمال غير مشروعة. هذا بالإضافة إلى الامتناع عن قبول أي تبرعات أو مساعدات مالية يعتبرها القانون جنحة أو جناية من أشخاص طبيعيين أو معنويين أو تنظيمات أو هيئات ثبت تورطهم داخل تراب الجمهورية أو خارجها، وأي أنشطة لها علاقة بالجماعات الإرهابية، وأخيرا الامتناع عن قبول أي مبالغ مالية نقدا بدون رخصة مسبقة من الوزارة المختصة.

أ.ف.ب.
جزائريون ينتظرون أمام وكالة التوظيف، 17 فبراير 2022

ونجد في القائمة أيضا إثراء المنظومة التشريعية والتنظيمية الخاصة بالأداء التوثيقي من خلال إصدار تشريع جديد يلزم الموثقين إبلاغ الهيئة المكلفة بالاستعلام المالي بكل عملية تتعلق بأموال يشتبه في تحصيلها من جريمة أو يبدو أنها موجهة لغسيل الأموال.

وتعكف لجنة جزائرية حاليا على تقييم الأخطار المرتبطة بغسل الأموال ومحاربة الإرهاب، وخلية معالجة المعلومات المالية (تتبع وزارة المالية)، على إعداد تقرير ستعرضه الحكومة الجزائرية خلال اجتماعات متعاقبة مع مجموعة العمل المالي في لوكسمبورغ أواخر سبتمبر/أيلول المقبل، ويُتوقع أن يُحسم في الملف مطلع عام 2026 بحسب تصريحات وزير المالية الجزائري عبد الكريم بوالزرد.

font change