هاتف جنابي في ديوانه الجديد "لا يشبه نفسه مع البولنديات"

حين تفقد ذات الشاعر مركزها لتولد من جديد

غلاف ديوان "لا يشبه نفسه مع البولنديات"

هاتف جنابي في ديوانه الجديد "لا يشبه نفسه مع البولنديات"

تشير مجموعة الشاعر العراقي هاتف جنابي "لا يشبه نفسه مع البولنديات" الصادرة عن "دار المدى" 2025 ، منذ العنوان، إلى حالة القلق التي تحكم النصوص. ليس الأمر مجرد تسمية لكتاب شعري، بل هو إعلان صريح عن مأزق وجودي: الذات هنا لا تعود مطمئنة إلى تشابهها مع نفسها، بل تدخل في علاقة توتر مع صورة مغايرة تنبع من الآخر.

إن العنوان في هذا المعنى عتبة دلالية تضع القارئ في قلب التجربة قبل أن يفتح أي صفحة من صفحات المجموعة. "لا يشبه نفسه" عبارة صادمة في بساطتها، كأنها تقطع مع المبدأ الذي قامت عليه الكتابة الشعرية منذ قرون، أي أن الشعر هو لحظة مطابقة بين الشاعر وذاته، بين الصوت والهوية. لكن هذه المجموعة تفكك هذا اليقين، لتعلن أن الشاعر لا يعود كما هو حين يعبر لغات أخرى، أو حين يستعير أرضا لا تنتمي إلى طفولته الأولى.

الذات هنا تتحرك، تتبدل، وتفقد مركزها لتولد من جديد. أما الإضافة "مع البولنديات" فتوسع حدة المفارقة. فهي لا تحيل فقط إلى علاقة بالشعب أو اللغة، بل إلى تماس حقيقي مع الغربة كشرط يومي. البولندية هنا ليست مجرد لغة، بل فضاء يعيد تشكيل الصوت العربي من الداخل. هي مرآة مغايرة يطل منها الشاعر على ذاته فلا يتعرف إليها.

ثنائية حادة

الذات في هذه المجموعة تعيش الاختلاف لا التشابه، وتمتحن التبدل ولا تستسلم للاستقرار. وهذا ما يجعل النصوص محمولة دائما على ثنائية حادة: بغداد/وارسو، العربية/البولندية، الماضي/الحاضر. غير أن هذه الثنائية ليست قطيعة نهائية، بقدر ما هي جسر مضطرب يمر عبره الشاعر كل مرة. بغداد ليست فقط ذاكرة مثقلة بالدم، ووارسو ليست فقط مدينة عبور باردة، كلتاهما تتحول إلى علامة في جغرافيا داخلية أكثر تعقيدا، حيث لا تكون عبورا دائما بين أماكن، لا امتلاكا لمكان واحد.

تتأسس المجموعة كلها على التوتر بين الألفة والغربة. الألفة التي تتجسد في تفاصيل الطفولة والذاكرة والأسطورة الرافدينية، والغربة التي تتجسد في المدن الأوروبية واللغات الأخرى


من هنا تتأسس المجموعة كلها على التوتر بين الألفة والغربة. الألفة التي تتجسد في تفاصيل الطفولة والذاكرة والأسطورة الرافدينية، والغربة التي تتجسد في المدن الأوروبية واللغات الأخرى. والشعر هو اللغة الوحيدة القادرة على جمع هذا التناقض في نص واحد، حيث يمكن الذات أن تقول: "لا أشبه نفسي"، وفي الوقت ذاته تكتشف نفسها في هذا الاختلاف.

REUTERS/Kacper Pempel
منظر عام للبلدة القديمة في وارسو، بولندا، في 26 أبريل 2019

إذا كان العنوان يضع القارئ في قلب إشكالية الهوية المتحولة، فإن أول ما يعزز هذا التحول في المجموعة هو حضور الأمكنة بوصفها مرايا داخلية. المدن ليست علامات على خرائط جغرافية، إنما جراح مفتوحة، أو رموز تتقاطع في ذات ممزقة بين الذاكرة والواقع. بغداد، على سبيل المثل، لا تأتي كمدينة متخيلة في الحنين، بل كجسد مختنق. في قصيدة "العراق سنة 2021"، يقول الشاعر:

"رئة لا تتنفس،

عين مسهدة وقلب لا يخفق".

هكذا تختزل صورة واحدة مصير وطن بأكمله، حيث الخراب يتجسد في لغة جسدية، تجعل الوطن شبيها بكائن يوشك على الموت. بغداد إذن ليست مجرد مكان مفقود، بل جسد ينهار داخل القصيدة.

في المقابل، وارسو ليست مجرد محطة إقامة عابرة، بل فضاء يفرض على الشاعر امتحان الغربة، فهي مسافة داخلية بين الذات وذاتها، وهي تمثل الآخر الذي يفرض على الشاعر أن يعيد صوغ صوته. وهذا ما يجعل النصوص تنبض دائما بقلق المقارنة.

REUTERS/Victor Ruiz
هرم كوكولكان في موقع تشيتشن إيتزا الأثري في شبه جزيرة يوكاتان بالمكسيك، 7 يوليو 2007

لكن الشاعر لا يقف عند حدود أوروبا. بل يفتح القصيدة على مدن وحضارات بعيدة، ليؤكد أن الجغرافيا عنده ليست مجرد إحداثيات، بل رمز كوني. في قصيدة تستدعي الصين، يقول:

"رأيت الزهر يملأ قمة الرأس

والشعاع الذهبي

يكسو الجسد المسحور بنهر يانغتسي".

هذه المراوحة بين حضارتين متباعدتين تكشف أن الخراب تجربة كونية تتكرر في كل مكان وزمان. في هذا المعنى، تتحول الأمكنة في المجموعة إلى شبكة رمزية: بغداد رمز الجرح، وارسو رمز الغربة، برمنغهام رمز العبور، الصين رمز الصفاء المؤجل، والمايا رمز الخراب الكوني. كلها علامات على خريطة واحدة، لكنها ليست خريطة العالم، إنما خريطة الداخل الشعري.

هذه المراوحة بين حضارتين متباعدتين تكشف أن الخراب تجربة كونية تتكرر في كل مكان وزمان


هذه الجغرافيا المتعددة لا تشتت النصوص بقدر ما تمنحها إيقاعا خاصا، فهي تكتب من أماكن متداخلة، تجعل القارئ يشعر أن الشاعر يعيش دائما في "المنفى داخل المنفى"، حيث لا مستقر إلا في اللغة نفسها.

اللغة كاختبار وجودي

إذا كانت الأمكنة في المجموعة تتحرك بين الداخل والخارج، فإن اللغة تمثل الجسر الأكثر هشاشة والأكثر خطورة في آن. فهي معركة يومية يخوضها الشاعر كي يعيد تشكيل ذاته. هنا تصبح اللغة امتحانا وجوديا: كيف يمكن الشاعر أن يحافظ على صوته، وهو يكتب في فضاء لغوي مغاير، أو وهو يترك اللغة الأولى لتتعرض للانكسار؟

REUTERS/Saba Kareem
لوح حلم جلجامش، المسروق من العراق عام 1991 والمستعاد بعد مصادرته من قبل الحكومة الأميركية، معروض في وزارة الخارجية في بغداد

القصائد تكشف أن العربية باتت لغة مهددة مثل الوطن نفسه. في نص يقول:

"أكتب

دون علامات ترقيم وحواجز،

لأن أبجديتي

عمدت بالرعد والبرق".

الجملة تكسر القاعدة النحوية، كأن الشاعر يعلن أن اللغة لم تعد مستقرا للنظام، بل فضاء للفوضى الخلاقة، حيث لا تكتب القصيدة وفق قوانين، بل وفق اهتزاز الداخل.

ومع ذلك، ثمة انجذاب إلى لغات أخرى، بوصفها أفقا لتجدد الذات، لا بديلا. واللافت أن هذا التعدد لا يأتي كزينة ثقافية، بل كصراع داخلي. فاللغة تفرض على الشاعر أن يواجه غربة أخرى، غربة الكلمة. لكن هذه الغربة تصبح شرطا للشعر نفسه، إذ لا يمكن النص أن يولد إلا وهو يعبر عن فقدان، عن مسافة بين ما يراد قوله وما يمكن قوله.

هكذا تتحول اللغة في المجموعة إلى كائن حي، متشظ مثل الذات. العربية تنكسر وتتشقق، البولندية تستعار لتعيد بناء الصوت، والقصيدة نفسها تتحرك بين لغات متعددة، كأنها تبحث عن وطن مؤقت في الكلمات. اللغة هنا جسد هش يكتب كي ينجو من التلاشي، لا مرآة لجوهر ثابت.

REUTERS/Thaier Al-Sudani
تمثال آشوري قديم لثور مجنح برأس إنسان في المتحف الوطني العراقي في بغداد

الأسطورة كذاكرة كونية

لا تكتفي المجموعة باستدعاء الأمكنة الواقعية، إنما تفتح نصوصها على فضاءات الأسطورة والتاريخ، كأن الشاعر يبحث عن ذاكرة أوسع من ذاكرة الفرد، وعن جغرافيا تتجاوز الخرائط الممزقة. الأسطورة هنا تتجاوز الزخرف الثقافي، لتصبح أداة مقاومة للخراب، مرآة تقارن بين انهيار الأمس وانهيار اليوم. في قصيدة "روح جلجامش"، يتحدث الصوت الشعري بلغة الكائن الذي لم يمت:

"أنا هذا العراق

العصي على الموت

قبلتي الشمس

والجبهة الأفق".

جلجامش هنا يتجسد كصوت العراق الجريح، الذي يصر على النهوض رغم الخراب، واستدعاؤه يضخ في النص طاقة مقاومة، لكنه في الوقت ذاته يكشف عن عبء تاريخي ثقيل تحمله الذات. أما بابل وسومر وآشور، فإنها تحضر كأحمال ترهق الجسد المعاصر: "ينوء بحمله على كاهله أسفار سومر، آشور، وبابل".

حضور الأسطورة يوسع أفق المجموعة ويمنحها عمقا كونيا، يجعلها تتجاوز حدود التجربة الفردية والمنفى المحلي، لتكتب عن قدر الإنسانية نفسها


الذات الفردية تتحول إلى حامل لذاكرة أمة مثقلة بالانهيارات، كأنها لم تولد لتعيش حاضرها فقط، بل لتسير مثقلة بركام آلاف السنين. لكن المجموعة لا تنغلق على تراثها الرافديني، بل تنفتح على أساطير بعيدة لتصنع جسرا كوزموبوليتيا. الصين تحضر بوصفها صورة للفيض والخلود:

"رأيت الزهر يملأ قمة الرأس

والشعاع الذهبي

يكسو الجسد المسحور بنهر يانغتسي".

الصورة هنا تجعل من الصين مرآة مغايرة للعراق، حيث الماء ليس خرابا بل حياة، وحيث الضوء يغمر الجسد لا ليحرقه بل ليباركه. وفي المقابل، تأتي حضارة المايا كصدى بعيد لخراب بابل:

"أصغي إلى أنين المايا في مدنهم الحجرية

وأتذكر صمت بابل وهي تغرق في الرمل".

المشهد يكشف أن الخراب مصير كوني يتكرر. الحضارات، مهما بلغت عظمتها، مهددة بالتحلل والاندثار، والشاعر إذ يستدعي المايا، فإنه يضع جراح العراق في سياق إنساني أوسع. في هذا المعنى، تتحول الأسطورة في المجموعة إلى ذاكرة كونية، لا تعود ملكا لجغرافيا محددة، بل تصبح ميراثا للإنسانية جمعاء. ومن خلال هذا الانفتاح، تطرح القصائد سؤالا وجوديا: إذا كانت بابل والمايا وسومر قد سقطت، فما الذي يضمن لنا نحن – نحن الذين نكتب في زمن الخراب – ألا نكون أطلالا جديدة؟

هاتف جنابي

إن حضور الأسطورة يوسع أفق المجموعة ويمنحها عمقا كونيا، يجعلها تتجاوز حدود التجربة الفردية والمنفى المحلي، لتكتب عن قدر الإنسانية نفسها: قدر الانهيار، وقدر التكرار. وهنا بالذات تتجلى قوة الشعر، لا باعتباره سجلا للماضي، بل باعتباره مرآة للمستقبل.

font change