حضور الجسد في "طائر تخطئه الطلقات" لمحمد الدميني

الشعر بوصفه مسافة بين الجرح والنجاة

حضور الجسد في "طائر تخطئه الطلقات" لمحمد الدميني

ينتمي الشاعر السعودي محمد الدميني إلى جيل الثمانينات الأدبي الذي أفرزت تجربته شعورا بالوعي التاريخي، وحساسية إنسانية متعمقة في التعبير عن التجربة المعاصرة. امتدت مسيرته الإبداعية على مدى أربعة عقود، حاضرة في فضاءات الكتابة والتحرير، فقد عمل في ملحقي صحيفة "اليوم"، وتولى رئاسة تحرير مجلات ثقافية عدة مثل "دارين" و"القافلة"، مما منح تجربته مساحة واسعة للتجريب والمقاربة النقدية الدقيقة للنصوص، ومكنه من تقديم تجربة شعرية غنية بالصور الرمزية والإيقاعات الداخلية، بحيث يرتبط كل نص بسياقه الثقافي والفكري.

في ديوانه الجديد، "طائر تخطئه الطلقات"، الصادر عن "منشورات المتوسط" في ميلانو (2025)، يمنح الشاعر قصيدته مساحة للتحليق الحر في فضاءات وجودية متقلبة، فتتحول العزلة والفقد إلى أدوات للتأمل في المعنى والوجود، فيتجاوز حدود السرد اليومي إلى حيز شعري واسع، يتقاطع فيه الجسد مع الروح، والواقع مع الرمزية.

يعيد الديوان رسم العلاقة بين النص والواقع، من خلال تحويل التفاصيل اليومية إلى طاقة شعرية متأرجحة بين الانكسار والتحليق، وبين الفقد وعودة الأمل، فتتشابك التجربة الفردية مع تجربة الحياة الإنسانية الجامعة. كما في هذا المقطع من الديوان، حيث يقول: "كان يمضي في (طريق الراحة)/ لكن بلا حذاء/ كان يرتطم بالأرض/ ساخرا من قدميه الداميتين/ وكان عقله الغافل/ يطأ الحجارة الصغيرة/ ويحلم بغبطة التراب".

في هذا المشهد، يصبح المشي "بلا حذاء" رمزا لمواجهة الحياة بشجاعة، فيما يمثل "الارتطام بالأرض" لحظة إدراك للواقع الذي يحتوي الألم والمعرفة في آن واحد. وتؤكد "الغبطة في التراب" قدرة النفس على إيجاد السلام ضمن تفاصيل الحياة البسيطة، بينما يربط النص الحاضر بالزمن الكامن في الذاكرة، ويكشف العلاقة بين الجسد والروح، بين المعاناة والتحرر، وبين اللحظة العابرة والأسئلة الكبرى حول الوجود والمعنى. إذ يتحرك الجسد داخل النص كشاهد على التحولات الداخلية للشاعر، فيصبح الشعر امتدادا للذات، والطريق الذي يسلكه الجسد محفوفا بالرمزية التي تمنح النص حيوية وعمقا شعوريا وفكريا متوازنين.

الطائر رمز الشعر والنجاة

يكتسب الطائر في الديوان حضورا محوريا، فهو يشير إلى الشعر ككائن رقيق وعنيد قادر على التحليق فوق القيود والأخطار، مما يمنح القصائد أبعادا متعددة تتصل بالحياة اليومية، والتجربة الوجدانية، والبعد الوجودي للشاعر.

يعيد الديوان رسم العلاقة بين النص والواقع، من خلال تحويل التفاصيل اليومية إلى طاقة شعرية متأرجحة بين الانكسار والتحليق، وبين الفقد وعودة الأمل

يظهر هذا الرمز بوضوح في مقطع آخر من الديوان، حيث يمتزج التعب بالحب في فضاء نصي غني بالرمزية: "فكر في (التعب)/ الذي تسرب من شقوق ثوب شاعر/ كان يرمي بنباله في الوادي/ ليصطاد طيف امرأة/ ويتهيأ للحب/ الذي بدا دائما/ كطائر تخطئه الطلقات".

REUTERS
أفغاني يحمل حمامة في سوق الطيور بكابول، 2 مارس 2010

يكشف المقطع العلاقة بين التعب والحب، بين المعاناة والبحث عن المعنى، فيصبح الطائر رمزا للنجاة المستمرة، ويتحول الشعر إلى طاقة حيوية تمنح الذات الصمود، وتحول الألم إلى معنى، والخطر إلى فرصة للتحليق. كما يمثل الطائر استمرار الحياة في مواجهة التهديد، واستمرار الشعر في تجاوز كل محاولة لإسكات الصوت، والتحليق رغم الصعاب، فتصبح القصيدة تجربة وجودية متكاملة تجمع بين الجسد والروح والذاكرة.

بدورها، تتحول تفاصيل الحياة اليومية إلى علامات على معنى البقاء والزمن والفقد، فتتشكل شبكة معقدة من الرموز التي تمنح القصيدة أبعادا وجودية متسعة. "المنزل القديم"، "الجيران"، "المقبرة"، "العصافير"، "الزيتون"، "الحقائب"، جميعها مشاهد تتحرك بين الحياة والموت، الغياب والحضور، الفقد والاستعادة، فتحول العابر إلى سؤال وجودي متكامل يربط الإنسان بتجربة الحياة اليومية. وهكذا تتحول كل لحظة إلى فضاء للتأمل في الوجود وماهيته، بينما تمنح التفاصيل اليومية القصيدة طاقة رمزية تجعل القارئ يكتشف أبعادا أعمق لكل عنصر، فتصبح مزيجا متقنا بين الوعي الفردي والمعاني العامة، ويغدو كل عنصر شعري نافذة على الحياة، والجسد جزءا من النص، والتحليل امتدادا للتجربة اليومية المعيشية.

بوابات متعددة للمعنى

تلعب العناوين دورا مزدوجا في الديوان، فهي تحدد موضوع القصائد، وتفتح فضاء للرمزية والتأويل، فتضيف بعدا إضافيا للتجربة الشعرية. عناوين مثل "عزلة"، "قصيدة الموتى"، "زيتون"، "قصيدتي المنهوبة"، "حارس المرمى"، "قمر منسي"، و"قصيدة العطر"، تمنح القارئ مدخلا إلى العالم الشعري للدميني. بينما يعكس "حارس المرمى" عزلة الفرد في مواجهة العالم، وتصور "قصيدتي المنهوبة" التجربة المرتبطة بفقد الصوت والفكرة، أما "قمر منسي" فيسلط الضوء على جمال غائب وسط العتمة، وتمنح "قصيدة العطر" إحساسا بالحضور الحسي ضمن مساحة رمزية متجددة.

يعكس الديوان استمرار المشروع الشعري لجيل الثمانينيات في السعودية، الذي جمع بين الحساسية الإنسانية والوعي التاريخي والتجربة الحديثة

تتحول العناوين إلى مفاتيح لفهم العلاقة بين المشهد والشعور والمعنى، بحيث يصبح كل نص نافذة على تجربة الإنسان داخل الفضاء الشعري الشامل للديوان، ويعكس نضج التجربة الشعرية واتساع دلالاتها الرمزية والمعنوية.

يعكس الديوان استمرار المشروع الشعري لجيل الثمانينيات في السعودية، الذي جمع بين الحساسية الإنسانية والوعي التاريخي والتجربة الحديثة. يواصل الدميني إعادة صوغ أسئلة الحرية والوجود والذاكرة، ويثبت قدرة الشعر على التجدد عبر مراحل الزمن، مع الحفاظ على نبرة خاصة ومميزة.

تمتد هذه الاستمرارية من مجموعاته السابقة، "أنقاض الغبطة" (1989)، "سنابل في منحدر" (1994)، و"أيام لم يدخرها أحد" (2014)، حيث يقدم الشعر إمكانات جديدة للتعبير عن الذات والتجربة، ويتيح للقارئ رحلة متجددة عبر الزمن والمعنى، مستندة إلى وعي جمالي رفيع بالصور والرموز والإيقاعات الداخلية، مما يجعل الديوان تحفة متكاملة بين الشكل والمضمون، ويمنح القارئ تجربة قراءة ممتدة ومتعددة الأبعاد.

REUTERS
طيور مهاجرة تحلق فوق مستنقعات شالبوغ شمال سريناغار، كشمير، 26 مارس 2007

تتداخل عناصر الذاكرة والطفولة والفقد في الديوان لتشكيل فضاء شعري تأملي عميق، حيث تتفاعل تفاصيل الحياة اليومية في الماضي، من البيت القديم إلى الجيران والمقابر والحقائب، مع الحاضر وبشكل وثيق. يظهر الموت والفقد كجزء من نسيج الحياة، ويتحول الشعر إلى وسيلة للفهم، وإيجاد مساحات جمالية مضيئة وسط العتمة.

الطائر كرمز للحرية أيضا

يحمل الطائر بعدا معنويا ضمنيا، إذ يرمز إلى تحليق الذات فوق القيود، وتجاوز الأخطار التي تهدد الفعل الشعري. تشير عناوين مثل "قصيدتي المنهوبة" و"حارس المرمى" إلى فقدان الصوت وانعزال الفرد، فيما يرمز الطائر إلى النجاة والتحليق. تمنح هذه الرمزية النص بعدا مزدوجا: وجوديا وإنسانيا في الوقت نفسه، فيتحول الشعر إلى أداة للتعبير عن الحرية والوجود وسط عالم يختبر صمود الإنسان أمام الصعاب والتحديات، بينما يمثل الطائر الاستمرار والمقاومة والبحث عن الذات في مواجهة الواقع.

تتحرك القصائد من الألم إلى الغبطة، من التعب إلى الحب، ومن الجسد إلى العقل، لتمنح القارئ إحساسا بأن النجاة ممكنة، وبأن الشعر قادر على منح معنى للحياة

تتسم القصائد بخلق موسيقى داخلية متصلة بالإيقاعات والتكرار وتراسل الصور والوقفات داخل الصفحة الواحدة. وتنمو الإيقاعات بصيغة تشبه تنفس الطائر أثناء التحليق، سريعا أحيانا ومتقطعا أحيانا أخرى، مما يعكس التوتر بين الخطر والتحرر، بين الجسد والروح، وبين التجربة الفردية والأسئلة الكبرى للوجود. وتقوم بنية القصائد على مقاطع قصيرة مترابطة تتيح للقارئ التنقل بين نوافذ متعددة على تجربة واحدة، بحيث تشكل كل قصيدة وحدة قائمة بذاتها، وتبرز الانسجام الداخلي بين النص والمشهد والشعور، مما يمنح الديوان وحدة فنية متكاملة تنسجم مع أبعاده الرمزية والوجدانية.

REUTERS
طيور تحلق فوق محمية طبيعية جنوب فينيسيا، لويزيانا، أثناء كارثة التسرب النفطي، 30 أبريل 2010

يحضر الجسد في الديوان كعنصر مهدد ومقاوم في آن واحد، يتحرك داخل القصائد ليصبح شاهدا على التحول الشعري، وعلى العلاقة بين الألم والمعنى، وعلى خلق مسافة بين الذات والخطر، وبين الفقد والنجاة. يتحول الشعر إلى امتداد للجسد، والجسد إلى امتداد للنص، والطائر استعارة للذات التي تستمر في النجاة والتحليق.

تتداخل التجربة الجسدية مع الرمزية لتخلق نصا متعدد الأبعاد يربط بين الحس اليومي والمعاني الوجودية العميقة، فيصبح الشعر مساحة للاحتفاء بالحياة وسط الخراب والمحن.

يقدم محمد الدميني في "طائر تخطئه الطلقات" تجربة شعرية مغايرة ومتماسكة، تجمع بين العمق الإنساني والحساسية الحديثة، بين اليومي والرمزي، بين الفقد والغنائم الصغيرة للغبطة. وما الطائر الذي ينجو من الطلقات سوى الشعر ذاته، الممتد عبر الزمن، المتجاوز للخراب، المتشبث بالحياة، والمنفتح على الحب والذاكرة والحرية.

تتحرك القصائد من الألم إلى الغبطة، من التعب إلى الحب، ومن الجسد إلى العقل، لتمنح القارئ إحساسا بأن النجاة ممكنة، وبأن الشعر قادر على منح معنى للحياة حتى في أصعب اللحظات. حيث يوازن الشاعر بين الوعي الذاتي والوعي الجمعي، بين التجربة الفردية والأسئلة الكبرى للوجود، مؤكدا أن الشعر فعل مقاومة وتحليق وتجديد دائم.

font change