زرت ليبيا لأول مرة في حياتي عام 1994 بدعوة من جامعه طرابلس الغرب للبحث في إمكانية التعاقد معها بغية العمل في قسم المسرح بعد حصولي على شهادة الدكتوراة بالفنون المسرحية من أكاديمية غيتيس للفنون المسرحية بموسكو.
اتجهت بالطائره من موسكو إلى مالطا، وحجزت بطاقة سفر بالسفينة من مالطا إلى طرابلس الغرب، بعد أسبوع من وصولي مالطا، كان هدفي أن أستجم نوعا ما قبل الوصول إلى العاصمة الليبية.
مضى الأسبوع وكأنه يوم واحد. استمتعت كثيرا في مالطة إلى أن حان وقت التجمع العام في ساحة كبيرة شاهدنا من خلالها السفينة الضخمة التي ستبحر بنا إلى طرابلس الغرب.
في ذاك اليوم كانت الشمس حارقة للغاية وطلب منا رجل الأمن الليبي الانتظار ريثما تتم عملية إدخال عناصر الفرقة العسكرية الموسيقية الليبية إلى السفينة. استغرق الأمر وقتا طويلا، مما أدى إلى انزعاجي وسؤال رجل الأمن إلى متى سننتظر؟
نظر رجل الأمن إلي باستخفاف ولم يرد على سؤالي.
باغتني أحد الأشخاص وعرفت فيما بعد أنه لبناني من أصول فلسطينية يعمل في جامعه بنغازي، وقال لي: "إذا أردت أن تبدأ العمل في ليبيا وتستمر فعليك الانضباط والهدوء. لا تسأل... لا تنزعج... اهدأ".
بعد انتظار ممل سمح لنا بالدخول إلى السفينة، أظهرت بطاقة الحجز للمضيفة بهدف تعريفي بمكان مقعدي فقالت لي: "للأسف، ستضطر لأن تسافر معنا واقفا، ذلك أن عناصر الفرقة الموسيقية عددها كبير جدا وبالتالي وفرنا لها المقاعد ومن ضمنها مقعدك".
قلت في نفسي: "حتى إنها لم تعتذر"!
وبعد جهد جهيد وملل وصلت السفينة إلى شاطئ طرابلس الغرب، وكان في استقبالي أحد الأصدقاء "فيروز هزه" من الذين عملوا في ليبيا قبل 5 سنوات...
هو: أخبارك يا صديقي؟ لماذا يبدو الانزعاج على وجهك؟
أنا: لا يهم.
وحدثته عما جرى لي مع المضيفة. ضحك فيروز وقال: المهم وصلت بالسلامة والباقي تفاصيل ستتعود عليها.
أنا: كيف تقول لي ذلك؟ ألا يوجد نظام؟
من جديد ضحك فيروز، وقال: دعوت الليلة عددا من الأصدقاء على حفلة عشاء أقمتها في بيتي احتفالا بوصولك.
في صباح اليوم التالي، استيقظت باكرا وانتظرت خروج فيروز من غرفة نومة لكي نذهب معا إلى كلية المسرح جامعة طرابلس. بدأت أسال نفسي: ما الذي أتى بي إلى العاصمة الليبية؟ "المكتوب واضح من عنوانه"، قلت لنفسي.
الواحدة ظهرا خرج فيروز من غرفته. نظر إليّ وضحك ثم قال: "لماذا صحوت مبكرا؟ عليك أن تتعود أن لا أحد يعمل مبكرا في طرابلس، هيا بنا".
وصلنا قسم الشؤون الإدارية والتقينا برئيسه، قبل ذلك همس فيروز في أذني قائلا: "إنه– أي هذا المسؤول- مفتاحك لكل شيء في الجامعة وخارجها... كن لطيفا وحذرا في آن معا عند الحديث معه".
واكتشفت فيما بعد أنه يحمل شهادة الصف السادس الابتدائي، لكنه ينتمي إلى اللجان الثورية، وهو ذو شأن نظرا لأنه من قبيلة كبيرة قريبة من معمر القذافي.
عدت مع صديقي فيروز إلى بيته، وفي الطريق سألته هل أزعجتك يوما ما في عمر صداقتنا؟ لماذا أتيت بي إلى هنا؟
كعادته ضحك فيروز وقال: "تدريجيا ستتعود على كل شيء".
في اليوم التالي اتجهنا صوب الجامعة وتحديدا إلى إحدى القاعات فيها لمراقبة فحص الفصل الصيفي وكانت القاعة مكتظة بالطلاب.
وبعد ربع ساعة من بدء الامتحان سمعت أصوات وابل من الرصاص. هبط جميع من في القاعة تحت المقاعد الدراسية، في حين سألت صديقي الذي كان مبتسما "ما هذا؟ ما الذي يجري؟".
- "لا تقلق يا صديقي، ثمة مجموعة من قبيلة معينة أرادت إخافة أستاذ لأن هناك طالبا من القبيلة يقدم الامتحان في قاعة مماثلة لقاعتنا والهدف إخافته حتى يعطيه علامة النجاح بامتياز".
أُصبت حقيقة بالكآبة جراء الاستماع لكلمات صديقي الذي قال لي: "عليك أن لا توجه أي ملاحظة لأي طالب خلال الفصل الدراسي، لأنه ببساطه يمكن له أن يعطل سيارتك".
قلت له: "أفهم منك أن المبدأ هنا يشير إلى أن الطالب يصبح أستاذا والعكس صحيح".
"صحيح مئة في المئة. بدأت تفهم علي"، أجابني فيروز!!!
هنا بدأت أدرك أن سيادة القانون في ليبيا أمر بعيد المنال، وأن اللجان الثورية فوق كل شيء، وأن المحسوبية تعتبر الأساس في التعامل مع الرموز الحكومية.


