عودة إلى سيد الواقعية جان فرنسوا مييه

معرض استعادي في "ناشيونال غاليري" بلندن

wikipedia
wikipedia
لوحة لجان فرنسوا مييه

عودة إلى سيد الواقعية جان فرنسوا مييه

يعقل أن تذهب إلى معرض فني من أجل رؤية لوحة واحدة. لوحة سبق لك أن أحببتها حين رأيتها أول مرة. ولكن سيقال "ذلك لا يصح مع فنان له مكانة مهمة في التاريخ الفني مثل الفرنسي جان فرنسوا مييه".

في الذكرى 150 على وفاته يُقام معرض استعادي له في "ناشيونال غاليري" بلندن. كل لوحات المعرض استعيرت من مجموعات فنية بريطانية إلا لوحة واحدة تكرم متحف أورسيه الباريسي بإعارتها، وهي اللوحة التي ذهبت إلى المعرض من أجلها، على الرغم من أنني سبق ورأيتها مرات عدة، وذلك بسبب شغفي بها.

مييه (1814 ــ 1875) هو أحد أهم رواد ومؤسسي الاتجاه الواقعي في الرسم الذي هو بمثابة فاصلة مريحة بين الاتجاه الرومانسي الذي وقف على رأسه دولاكروا والاتجاه الإنطباعي الذي كان من أهم رموزه كلود مونيه وإدوار مانيه وتولوز لوتريك وإدغار ديغا وأوغست رونوار، أما فنسنت فان غوغ وبول سيزان فقد بدآ انطباعيين وسرعان ما تحولا، ليشق كل واحد منهما طريقه في مغامرة ألهمت التاريخ الفني الكثير من فصول تحولاته.

رسم مييه الفلاحين والحطابين ورعاة الأغنام كما لم يرسمهم أحد من قبل، وذلك سر شهرته. ومن أجل تلك الموضوعات التي عالجها باسترسال عاطفي، أحبه الجمهور ولا تزال سببا في جذب جمهور جديد إليه. وإذا ما عرفنا أن فنسنت تأثر في بداياته بطريقة معالجة مييه لتلك الموضوعات، يمكننا أن نثق في أن الرسام الذي كان إميل زولا مقابله في الأدب الروائي، كان ملهما لرسامي عصره، على الرغم من أن كل المتأثرين به وفي مقدمتهم فان غوغ فارقوه وذهبوا بعيدا عنه في زمن قصير.

رسم مييه الفلاحين والحطابين ورعاة الأغنام كما لم يرسمهم أحد من قبل، وذلك سر شهرته

مشكلتي مع مييه أنني كنت أنظر إليه بإعجاب من غير أن أحبه. كنت أعتبره رسام الواجب اليومي. ذلك ما لم يكن يغني خيالي. في حينه، نظر إليه فنسنت بطريقة مختلفة. لم أحب الاستسلام للواقع في لوحاته. كان يمكن أن يستمر الأمر كذلك لولا أني رأيت لوحته "التبشير الملائكي" التي كشف مييه من خلالها عن عمق انتمائه إلى لحظة تعبير لا تنتمي إلى الواقع. جعلتني تلك اللوحة أعيد النظر في كل ما عرفته عن مييه.

GETTY
جان فرنسوا مييه858

من أجل أولئك المساكين الراحلين

سيكون كل شيء قابلا للتأويل بالنسبة إلى لوحة "التبشير الملائكي". أعجبت اللوحة سلفادور دالي، فقال إنها تصور أما وابنها. فيما وصفها فان غوغ بأنها شعر، والأرجح أنها كذلك. مييه في هذه اللوحة هو ليس ذلك الرسام الذي عرفناه من خلال موضوعاته التي لاحق من خلالها أبطاله المزارعين الفقراء، إذا لم نقل أفقر فقراء فرنسا. في اللوحة التي رسمها عام 1859، يلتقط رأس خيط يقوده إلى الحياة الروحية. ذلك الجانب غير المرئي من حياة، كان اجتهد في تصوير تفاصيلها الواقعية بطريقة عفوية. في تلك اللوحة يظهر زوجان وقد توقفا عن العمل ليؤديا صلاتهما منحنيين، فيما يسلط عليهما ضوء خافت كأنه ينبعث من جسديهما. ولأن الإثنين يقفان جانبيا، ولم يكن الرسام راغبا في الإفصاح عن عمرهما، فقد جرى الاختلاف على هويتهما ونوع العلاقة بينهما، وهذا جزء من غموض اللوحة المحبب. اتبع البعض سلفادور دالي في القول بأنهما أم وولدها بسبب ما يفصح عنه وجه الشاب من صغر سنه. ولأن عمر المرأة ظل مجهولا، فإن البعض الآخر يقول إنهما زوج وزوجته.

The National Gallery, London.
تفصيل من لوحة "التبشيرالملائكي" (1857-1859) لجانفرانسوا ميليه. المتحف الوطني، لندن

عام 1865 كتب مييه: "صلاة التبشير الملائكي هي صورة رسمتها وأنا أتذكر كيف كانت جدتي، عندما كانت تعمل في الحقول آنذاك، عندما نسمع رنين جرس الكنيسة تجبرنا على التوقف عن العمل لتلاوة صلاة التبشير الملائكي من أجل أولئك المساكين الراحلين".

فان غوغ هو الوحيد الذي تمكن من التقاط الخيط الذي يقود إلى طريقة تفكير مييه في العالم الذي يستحق أن يكون مادة للرسم

كل شيء مبهم في اللوحة التي صارت مع الزمن واحدة من أهم الأيقونات الفرنسية، حتى أنها تعد اللوحة الأكثر استعمالا في الإعلانات، إضافة إلى أن التنافس على شرائها كان دائما على أشده إلى أن استقرت في المتحف الفرنسي الشهير بمقتنياته الانطباعية. غير أن ما لن يتوقعه المهتمون ممَن رأوا صورا لتلك اللوحة، أن تكون صغيرة الحجم، وهي في ذلك لا تخرج عن دائرة رغبة الرسام في أن يرسم لوحات صغيرة. 

ملهم فان غوغ

 يضم المعرض 15 لوحة توزعت بين الرسم بالزيت على القماش والتخطيط على الورق. وليست التخطيطات بأقل أهمية على المستوى الجمالي من لوحات القماش. في جميعها من غير استثناء، يصعب تجاهل ذلك التداخل الصارخ بين سيرة الرسام الذاتية، وهو المولود في عائلة مزارعين ميسورة واندفاعه الثوري في اتجاه الكشف عن معاناة الفلاحين الفقراء في عالم لا يلتفت إليهم.

The National Gallery, London.
"الزارع"، لجان فرانسوا مييه

يعتقد بعض النقاد أن مييه كان في السنوات الأخيرة من عمره يرسم ردا على الانطباعيين الذين كانوا يتغنون في أعمالهم بالطبيعة ولذائذها البصرية، فيما كانوا يغضون النظر عن آلام المزارعين الذين يقفون وراء خلق جزء من تلك المشاهد. فنسنت فان غوغ هو الوحيد الذي تمكن من التقاط  الخيط الذي يقود إلى طريقة تفكير مييه في العالم الذي يستحق أن يكون مادة للرسم. في ذلك العالم يمتزج الجمالي بالإنساني بطريقة تجعل من الرسم لغة تنتصر للإنسان.

هذا سيد الواقعية يقول لنا من خلال لوحاته إن الواقع هو حالة ملهمة وليس مجرد مشاهد بصرية تنقل مثل صورة فوتوغرافية

في كل الرسوم التي صور فيها فنسنت مشاهد الفلاحين، شكلت رسوم مييه مصدر إلهام فكري وتصويري. بمعنى أنه لم يكتف بالتعبير عن اعجابه ببناء اللوحة، بل تخطى ذلك إلى نزعة مييه الثورية في عرض معاناة الفلاحين الفقراء وهم يهبون الطبيعة قوتهم. حتى المفردات التي لجأ فان غوغ إلى استعمالها لغايات رمزية، كانت مستعارة من عالم مييه الذي يتميز بمعالجات زاهدة بالألوان. ظل فنسنت مسكونا بعالم مييه حتى نهاية حياته، حين ظهرت الغربان في حقول القمح. وفي العموم فإن فان غوغ كان اختط لنفسه طريقا خاصة ابعدته عن الانطباعيين وعوالمهم.

The National Gallery, London.
لوحة لجان-فرانسوا ميليه، «نَشّارو الخشب»

خبرة عيش تتحول إلى أسلوب

ليس جان فرنسوا مييه أول فنان رسم الفلاحين والحطابين الفقراء في أراضيهم في تاريخ الرسم الغربي. منذ عصر النهضة احتلت المشاهد الرعوية مساحات مهمة من اللوحات لم يكن المزارعون يظهرون فيها إلا باعتبارهم زينة ملحقة بها. لم يكن هناك أحد يعتبرهم كائنات تصلح أن تكون موضوعا ملهما للرسم. خرج مييه عن ذلك التقليد. هو أول رسام غربي يفعل ذلك. فابن النورماندي الذي أمضى شبابه بين الحقول واختبر بهجة الطبيعة ممزوجة بشقاء المزارعين، سعى إلى أن يكون مخلصا لخبرته وفيا للمبادئ الإنسانية التي تعلمها. أما حين انتقل للعيش في قرية باربيزون جنوب باريس، فإنه تحرر نهائيا من عبء الوصفات الفنية السائدة واتيحت له الفرصة للتبشير بمنهجه الواقعي في الرسم الذي جذب إليه حشدا من رسامي عصره. 

لعل واحدة من أهم فوائد التعرف الى مييه عن قرب ورؤية معرضه الاستعادي، تكمن في إزالة سوء الفهم الذي جعل الكثيرين يعتقدون أن الواقعية في الفن تسعى إلى تكريس الواقع والعمل على تقليده. هذا سيد الواقعية يقول لنا من خلال لوحاته إن الواقع هو حالة ملهمة وليس مجرد مشاهد بصرية تنقل مثل صورة فوتوغرافية.     

font change

مقالات ذات صلة