الأرض على حافة الهاوية

المسار السريع نحو الفوضى المناخية

Lina Jaradat
Lina Jaradat
الأرض على حافة الهاوية

الأرض على حافة الهاوية

يعرف الجميع الآن أن المناخ يتغير. لم يعد الأمر جدلا علميا أو فرضية محل نقاش، بل حقيقة تتكرر أمامنا كل صباح، في حرائق الغابات، وانحسار الجليد، وخرائط الحرارة التي تصبغ الكوكب بالأحمر القاني. ومع ذلك، لا شيء يتغير حقا. العالم يزداد وعيا، لكنه لا يتحرك بالسرعة التي تتطلبها الأزمة التي صنعها بيديه. تعقد الحكومات مؤتمرات، وتعلن الشركات "حيادا كربونيا" بعد عقود، فيما عقارب الزمن المناخي تمضي بلا انتظار. بلغ العالم لحظة غريبة في تاريخ البشرية نمتلك فيها المعرفة الكاملة تقريبا عما يحدث، ولدينا الأدوات والتقنيات لتغيير المسار، لكننا محاصرون بعجز جماعي يشبه الإنكار. إذ أصبح العالم يكتفي بمشاهد الكارثة وتحليلها، بينما تتسع أمامنا الفجوة بين الإدراك والفعل.

من هذا الواقع القاتم ينطلق تقرير دولي جديد، يحذر من أن الأرض تسير في طريق خطير، لكنه طريق لا يزال في الإمكان تغييره. فالعلم – على الرغم من نبرته التحذيرية – لا يزال يرى بصيص أمل، شريطة أن يتحول الإدراك إلى فعل، وأن تترجم المعرفة إلى إرادة سياسية واقتصادية حقيقية قبل أن تغلق نافذة الإنقاذ الأخيرة.

وتشير بيانات التقرير الى أن عام 2024 كان العام الأشد حرا في السجلات البشرية، وربما الأشد على مدار 125 ألف سنة عام. فالمؤشرات الكوكبية التي اعتمد عليها التقرير – وعددها 34 مؤشرا يعبر كل منها عن إحدى "علامات الحياة" لكوكب الأرض – تظهر أن 22 منها وصلت إلى مستويات قياسية جديدة. وهذا يعني، بلغة العلم الباردة، أن الكوكب قد دخل فعليا مرحلة الخطر البيئي العميق.

لكن التقرير لا يتوقف عند التحذير، بل يقدم تحليلا سببيا لما يسميه الباحثون "المسار السريع نحو الفوضى المناخية"، وهو وصف دقيق يعبر عن تفاعل معقد بين عوامل طبيعية وبشرية متشابكة من تراكم الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي إلى فقدان الغطاء الجليدي، ومن اضطراب التيارات البحرية إلى ارتفاع حرارة المحيطات واتساع موجات الجفاف والحرائق في القارات. هذا التفاعل المتسلسل، كما يوضحه التقرير، لا ينتج آثارا متفرقة، بل سلسلة مترابطة من الانهيارات الجزئية في منظومات المناخ، تؤثر في أنماط الأمطار، ومستويات البحار، وخصوبة التربة، واستقرار المجتمعات البشرية في آن واحد.

ويقدر العلماء في التقرير أن غياب استراتيجيات فعالة للحد من هذه التغيرات سيؤدي خلال العقود المقبلة إلى أخطار متسارعة تهدد الأنظمة السياسية والصحية والبيئية في مختلف أنحاء العالم. فالخطر المناخي لم يعد مسألة بيئية صرفة، بل أصبح تحديا بنيويا يتعلق بقدرة الحضارة البشرية على الصمود أمام اضطرابات مناخية متزايدة القوة والامتداد. فارتفاع درجة حرارة الأرض بما يتجاوز عتبة الدرجتين المئويتين سيؤدي – وفق النماذج المناخية الحديثة – إلى مضاعفة الظواهر المتطرفة، من أعاصير وفيضانات وحرائق، وإلى فقدان هائل في التنوع الحيوي، وتراجع إنتاج الغذاء في مناطق شاسعة من العالم. هذه السيناريوهات ليست احتمالات بعيدة، بل مؤشرات بدأت تتجلى في مشاهد واقعية خلال عامي 2024 و2025، كما توثقها البيانات التفصيلية التي يعرضها التقرير.

وثق العلماء فقدانا قياسيا للغطاء الشجري نتيجة الحرائق الممتدة في أوروبا وأميركا الشمالية. فخلال موسم صيف 2025، تجاوزت مساحة الأراضي المحترقة في الاتحاد الأوروبي مليون هكتار، في أسوأ موسم حرائق منذ بدء السجلات الأوروبية

ويرى مؤلفو الدراسة، وفي مقدمهم البروفسور وليام ريبل، أن المسار الحالي يمثل انحرافا حادا عن هدف اتفاق باريس للمناخ الذي سعى إلى حصر الاحترار العالمي عند 1.5 درجة مئوية. ومع أن المؤشرات تجاوزت بالفعل هذه العتبة في بعض الأشهر، فإن التقرير يؤكد أن الأمل لم يختف بعد، إذ لا يزال في الإمكان الحد من الخسائر إذا اتخذت إجراءات عاجلة وجذرية للحد من الانبعاثات والتكيف مع التحولات الجارية.

تظهر البيانات أن تركيز الغازات الدفيئة، ولا سيما ثاني أكسيد الكربون والميثان، بلغ في عام 2024 أعلى مستوياته منذ بدء القياسات العلمية الحديثة. ويفسر التقرير ذلك بتزايد استهلاك الوقود الأحفوري على الرغم من التوسع في استخدام مصادر الطاقة المتجددة. فبينما شهد العالم طفرة في إنتاج الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، بقيت حصتها مجتمعة أقل بثلاثين مرة من استهلاك الوقود الأحفوري، في مفارقة تعكس مأزق الطاقة العالمي؛ وتؤكد أن التقدم التقني لا يكفي ما لم يصاحبه تحول اقتصادي واجتماعي جذري في بنية الإنتاج والاستهلاك.

وإلى جانب الانبعاثات، يسجل التقرير ارتفاعا مطردا في حرارة المحيطات، وهو عامل ذو أثر تراكمي شديد. فالمحيطات تمتص أكثر من 90 في المئة من فائض الحرارة الناتج من الاحتباس الحراري، ومع ذلك فإن قدرتها على تخزين الطاقة الحرارية ليست غير محدودة. ويؤدي ارتفاع حرارة المياه إلى تمددها وزيادة مستوى سطح البحر، كما يغير توزيع التيارات البحرية ويؤثر في دورة المغذيات داخل النظام البحري، مما يقود إلى تراجع إنتاجية النظم البيئية البحرية وتهديد مباشر للأمن الغذائي في الدول الساحلية.

التجاوز البيئي

أ.ف.ب.
أميركيون في تظاهرة احتجاجا على قرار الرئيس الأميركي ترمب وقف منح التمويل المناخي، واشنطن، 25 يناير 2025


وقد أشار التقرير إلى أن محتوى الحرارة في المحيطات عام 2024 بلغ مستوى لم يسجل من قبل، وأن هذا الارتفاع ترافق مع موجات حر بحرية واسعة تسببت في تبييض الشعاب المرجانية وتراجع مساحات الأعشاب البحرية في مناطق شاسعة من المحيطين الهندي والهادئ.

وفي البر، وثق العلماء فقدانا قياسيا للغطاء الشجري نتيجة الحرائق الممتدة في أوروبا وأميركا الشمالية. فخلال موسم صيف 2025، تجاوزت مساحة الأراضي المحترقة في الاتحاد الأوروبي مليون هكتار، في أسوأ موسم حرائق منذ بدء السجلات الأوروبية.

عدد السكان يتزايد بنحو 1.3 مليون شخص أسبوعيا، يضاف إليهم نصف مليون رأس من الماشية المجترة، وهي من أكثر مصادر الغازات المسببة للاحتباس الحراري

ويشير التحليل إلى أن هذا الوضع المتسارع خلق بيئة مثالية لاضطرابات مناخية غير مسبوقة. فخلال عامي 2024 و2025، شهد العالم سلسلة من الكوارث المرتبطة بالمناخ بلغت مستويات مأسوية، من فيضانات تكساس التي أودت بحياة أكثر من 130 شخصا، وحرائق لوس أنجليس التي تسببت بخسائر تجاوزت 250 مليار دولار، وإعصار "ياجي" في جنوب شرق آسيا الذي خلف أكثر من 800 ضحية، وتمثل هذه الحوادث صورة مصغرة لما يمكن أن يصبح القاعدة الجديدة إن استمر الاحترار دون كبح.

لكن الأثر الأكثر إثارة للقلق، كما يحذر التقرير، يتمثل في ضعف الدورة المحيطية الكبرى في شمال الأطلسي، وهي النظام الذي ينظم توزيع الحرارة بين خطوط العرض المختلفة. هذا الضعف قد يؤدي إلى تغيرات جذرية في مناخ أوروبا وشمال الأطلسي، وربما في توازن الأمطار والحرارة على نطاق عالمي. فاضطراب هذه الدورة يعني اختلالا طويل المدى في النظام المناخي، بما يشبه انهيار قلب الكوكب الحراري.

دخل النشاط البشري مرحلة غير مسبوقة من الضغط على موارد الأرض، وصفها العلماء بحالة "التجاوز البيئي"، أي أن استهلاك الإنسان للموارد الطبيعية يفوق قدرة النظم البيئية على تجديدها بشكل مستدام، إذ تظهر البيانات أن البشرية تستهلك في عام واحد ما يحتاجه الكوكب لينتج خلال عام ونصف عام تقريبا، وهو ما يعني أننا نعيش على رصيد بيئي مستنزف من المستقبل.

يشير مفهوم التجاوز البيئي إلى الخلل بين معدل الاستهلاك البشري ومعدل التجدد الطبيعي للموارد الأساس مثل المياه العذبة، التربة الزراعية، الغابات، والثروة السمكية. عندما يتجاوز الإنسان هذا الحد، يبدأ النظام البيئي بفقدان توازنه. تعمل الأرض، ببساطة، وفق ميزانية طاقية ومادية محددة، لها قدرة قصوى على امتصاص ثاني أكسيد الكربون، وعلى ترميم الغابات، وعلى تجديد التربة. وحين تتجاوز الأنشطة البشرية هذه القدرة، يبدأ التدهور في سلسلة مترابطة من الظواهر.

يقول الباحث كريستوفر وولف، أحد معدّي التقرير، إن العالم اليوم يشهد تضخما غير مسبوق في المؤشرات التي تدفع بهذا التجاوز إلى حدوده القصوى. فعدد السكان يتزايد بنحو 1.3 مليون شخص أسبوعيا، يضاف إليهم نصف مليون رأس من الماشية المجترة، وهي من أكثر مصادر الغازات المسببة للاحتباس الحراري. ومع تزايد الطلب على اللحوم والمنتجات الحيوانية، ترتفع البصمة البيئية لهذا النمط الغذائي الذي يتطلب مساحات شاسعة من المراعي ويستهلك كميات ضخمة من المياه والطاقة.

ويظهر تحليل بيانات العقود الثلاثة الأخيرة أن النمو الاقتصادي العالمي – رغم أنه رفع مستويات الدخل والاستهلاك – جاء على حساب التوازن البيئي. فالناتج المحلي الإجمالي العالمي بلغ مستويات قياسية، لكن ثمنه كان ارتفاعا مماثلا في انبعاثات الكربون، واستهلاك الوقود الأحفوري، وفقدان الغطاء النباتي. هذا الترابط بين الثروة والانبعاثات جعل العلماء يتحدثون عن "دائرة مفرغة" من الإنتاج والاستهلاك يصعب كسرها دون تدخلات جذرية في طريقة إدارة الموارد على مستوى الدول والأفراد.

وفي جوهر المشكلة، لا يتعلق الأمر فقط بالكميات الإجمالية للاستهلاك، بل أيضا بعدم العدالة في توزيع هذا الاستهلاك. إذ تظهر الدراسات أن 10% من سكان العالم الأكثر ثراء مسؤولون عن أكثر من نصف الانبعاثات العالمية. هؤلاء يعيشون في أنماط معيشة كثيفة الطاقة والموارد، بينما تتحمل الفئات الأقل دخلا العبء الأكبر من التغيرات المناخية مثل الفيضانات وموجات الجفاف. لذا يدعو التقرير إلى "تحول منصف" في طريقة التعامل مع الموارد، بحيث تحمل الفئات الأعلى استهلاكا نصيبها الحقيقي من المسؤولية، سواء عبر الضرائب البيئية أو التحول الطوعي إلى أنماط معيشة أكثر استدامة.

وتيرة أسرع

بعد عقود من الارتفاع التدريجي، باتت وتيرة الاحترار الآن أسرع من أي وقت مضى، حتى إن عام 2024 سجل كأشد الأعوام حرارة منذ بدأ الإنسان القياس المنهجي، وربما منذ أكثر من مئة وخمسة وعشرين ألف عام. هذا التسارع لا يفسر بعامل واحد، بل هو نتيجة تفاعل معقد بين ثلاثة محركات فيزيائية رئيسة هي تراجع أثر الجسيمات العاكسة في الغلاف الجوي، وزيادة امتصاص الحرارة بسبب تغير خصائص السحب، وانخفاض قدرة سطح الأرض والجليد على عكس الضوء إلى الفضاء.

رويترز
مقر قمة التغيرالمناخي العالمي، في باريس، 24 أبريل 2025

في السابق، كان الغلاف الجوي يحتوي على كميات كبيرة من الجسيمات الدقيقة الناتجة من حرق الوقود الأحفوري غير النظيف، وهذه الجسيمات كانت تعكس جزءا من أشعة الشمس قبل أن تصل إلى سطح الأرض، فتعمل كدرع تبريدية مؤقتة. لكن مع تحسن تقنيات التنقية والحد من الانبعاثات الملوثة – وهو تطور صحي بحد ذاته – تراجع هذا التأثير العاكس، فزادت كمية الطاقة الشمسية التي تحبس داخل النظام المناخي. هذه المفارقة المعروفة في الأوساط العلمية تعني أن الحد من تلوث الهواء لا يؤدي بالضرورة إلى تباطؤ الاحترار، بل قد يكشف عن "الحرارة الكامنة" التي كانت محجوبة خلف ستار من الجسيمات العاكسة.

أما العامل الثاني فيرتبط بتغير سلوك السحب. فالسحب ليست مجرد مظلات بيضاء عائمة، بل عنصر دقيق في ميزانية الطاقة الأرضية. بعض السحب يعكس أشعة الشمس، فيبرد السطح، وبعضها الآخر يحتجز الأشعة تحت الحمراء المنبعثة من الأرض، فيزيد الدفء. تشير القياسات الحديثة إلى أن التغيرات في حرارة المحيطات أدت إلى تشكل أنواع أقل عكسا للضوء من السحب، خصوصا فوق المناطق المدارية والمحيط الهادئ، مما جعل الغلاف الجوي يحتفظ بقدر أكبر من الحرارة. ومع كل درجة حرارة إضافية، تتغير أنماط التبخر والتكاثف، فتتبدل بدورها خصائص السحب في حلقة تغذية راجعة تسرع من الاحترار.

التسارع في الاحترار ليس متجانسا على سطح الكوكب. فالمناطق القطبية تسخن بوتيرة أسرع بمرتين تقريبا من المتوسط العالمي، وهو ما يسبب اضطرابا في أنماط الرياح والتيارات البحرية التي تنظم المناخ العالمي

أما العامل الثالث فهو تراجع قدرة الكوكب على "إرجاع" ضوء الشمس إلى الفضاء، أي ما يسميه العلماء القدرة العاكسية للأرض التي تعتمد على الغطاء الجليدي والثلجي الذي يغطي القطبين والجبال العالية. فالجليد، بلونه الأبيض اللامع، يعكس نسبة كبيرة من ضوء الشمس. لكن مع ذوبانه، تستبدل تلك المساحات الساطعة بسطوح داكنة من الصخور أو المياه، تمتص المزيد من الحرارة بدلا من عكسها، فتزيد درجة حرارة الأرض أكثر. هذا الانخفاض في القدرة العاكسية يعد من أخطر آليات التسارع الذاتي في نظام المناخ، إذ يؤدي الاحترار إلى ذوبان الجليد، وذوبان الجليد يؤدي إلى مزيد من الاحترار، في دورة يصعب كسرها.

ويشير التقرير إلى أن هذا التسارع في الاحترار ليس متجانسا على سطح الكوكب. فالمناطق القطبية تسخن بوتيرة أسرع بمرتين تقريبا من المتوسط العالمي، وهو ما يسبب اضطرابا في أنماط الرياح والتيارات البحرية التي تنظم المناخ العالمي. هذه التغيرات تؤثر بدورها على حركة الكتل الهوائية، فتزيد ثبات الموجات الحارة في مناطق، وتضاعف شدة الأمطار في مناطق أخرى، كما تحدث تذبذبات متكررة في التيار النفاث الذي يفصل بين الكتل الهوائية الباردة والدافئة. كل ذلك يجعل التنبؤ بالمناخ الإقليمي أكثر صعوبة، ويزيد احتمالية الظواهر المفاجئة.

وبينما كان العلماء في الماضي يعتقدون أن الاحترار سيتباطأ مع اقتراب متوسط الحرارة من حدود درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، تظهر البيانات الحديثة أن النظام المناخي أكثر حساسية مما كان متوقعا. فحتى الزيادات الصغيرة – أعشار الدرجة الواحدة – تحدث فروقا كبيرة في توازنات الغلاف الجوي. فكل ارتفاع طفيف في درجة الحرارة يؤدي إلى زيادة في كمية بخار الماء، ويغير توزيع السحب، ويسرع ذوبان الجليد، مما يجعل التغير المناخي أكثر تسارعا من النماذج التقليدية التي بنيت عليها توقعات العقود الماضية.

الذاكرة الحرارية

يصف التقرير المحيطات بأنها "ذاكرة الأرض الحرارية"، إذ تمتص أكثر من 90% من فائض الطاقة الناتج من الانبعاثات، لكنها اليوم بدأت تتحول من درع حماية إلى مصدر اضطراب. فقد بلغت حرارة مياهها مستويات قياسية عام 2025، وتضاعفت كمية الطاقة المختزنة فيها مقارنة بما كانت عليه قبل نصف قرن، وامتد التسخين إلى أعماق تتجاوز الألف متر. هذه الطاقة بطيئة الزوال، مما يعني أن الكوكب سيظل دافئا حتى لو توقفت الانبعاثات فورا.

أخطر تبعات ذلك، يظهر في ضعف "الدوران الأطلسي الشمالي"، وهو النظام الذي ينقل المياه الدافئة من الاستواء إلى الشمال. فذوبان جليد غرينلاند أضاف كميات ضخمة من المياه العذبة قللت ملوحة البحر وكثافته، مانعا المياه من الغوص إلى الأعماق. هذا التحول قد يربك مناخ أوروبا ويغير أنماط الأمطار والزراعة عالميا.

وفي العمق البيئي، يؤدي تسخين المياه إلى تراجع الأوكسيجين المذاب، فتختنق الكائنات البحرية وتنهار سلاسل الغذاء، فيما تتعرض الشعاب المرجانية لموجات بيضاء متكررة تشير إلى موتها. بالتوازي، تتزايد حموضة المحيطات مع امتصاصها المزيد من ثاني أكسيد الكربون، مما يذيب أصداف الكائنات الدقيقة ويهدد بانقراضات واسعة.

كما تمتد التداعيات إلى اليابسة. فاختلال حرارة البحار يغير أنماط الرياح الموسمية والأعاصير. ارتفاع حرارة الأطلسي مثلا في 2024 و2025 غذى أعاصير عنيفة وطوفانات متكررة في آسيا، بينما فاقمت حرارة المتوسط غير المسبوقة حرائق الغابات الأوروبية. ويحذر التقرير من أن هذه الاضطرابات تنذر بمرحلة "لا استقرار هيكلي" في نظام المناخ، حيث تصبح الظواهر المتطرفة أكثر تكرارا وشدة. فكل واط إضافي يختزن في البحر، يعادل طاقة آلاف القنابل الحرارية في الثانية، مما يجعل المحيطات مستودعا هائلا للفوضى المناخية. وهكذا يتحول البحر، الذي كان مرادفا للاتزان، إلى محرك رئيس لعدم الاستقرار الكوكبي.

أما أفريقيا، التي لا تسهم بأكثر من 4 % من الانبعاثات العالمية، فكانت الأكثر تضررا. فقد انخفض إنتاج المحاصيل في شرق القارة بنسبة 30 %، وتسببت الفيضانات في الغرب في نزوح مئات الآلاف، لتجسد القارة أوضح صور اللاعدالة المناخية في العالم الحديث

يشير تقرير جامعة ولاية أوريغون إلى أن الكوارث المناخية لم تعد استثناء، بل سمة دائمة لعصر الاحترار. ففي عام 2024 وحده، تجاوزت الخسائر الاقتصادية العالمية تريليوني دولار، وهو رقم غير مسبوق. فقد شهدت تكساس في ربيع العام نفسه فيضانات أودت بحياة 135 شخصا وشردت مئات الآلاف، مخلفة خسائر تفوق 100 مليار دولار نتيجة اضطراب في ديناميات الغلاف الجوي لا علاقة له بالأعاصير المدارية المعتادة.

وفي لوس أنجليس، تسببت حرائق 2024 في خسائر تجاوزت 250 مليار دولار، بفعل تفاعل ثلاثي بين الحرارة المرتفعة، والجفاف الممتد، والرياح الشديدة الناتجة من احترار المحيط الهادئ، مما جعل الكوارث المركبة أكثر تدميرا.

اللاعدالة المناخية

أما في آسيا، فاجتاح إعصار "ياغي" عام 2025 مناطق واسعة من الفيليبين وتايوان وفيتنام، متسببا في مقتل أكثر من 800 شخص. حمل الإعصار طاقة حرارية تعادل 10 مليارات طن من المتفجرات، وارتقى من عاصفة إلى فئة خامسة خلال 24 ساعة، في مثال على ظاهرة "التكثف السريع" المرتبطة باحترار المحيطات. وتوضح البيانات أن الحرارة الزائدة زادت بخار الماء في الجو، مما ضاعف تأثير الاحتباس الحراري وأدخل الكوكب في حالة "فوضى مناخية إقليمية" تتسع فيها الفجوة بين الجفاف والفيضان.

في أوروبا، احترق أكثر من مليون هكتار من الغابات عام 2025، أي ضعف أسوأ موسم سابق. وامتدت الحرائق شمالا إلى ألمانيا وبلجيكا، في تحول غير مسبوق يعكس الإجهاد الحراري المزمن للغابات المتوسطية.

أما أفريقيا، التي لا تسهم بأكثر من 4 % من الانبعاثات العالمية، فكانت الأكثر تضررا. فقد انخفض إنتاج المحاصيل في شرق القارة بنسبة 30 %، وتسببت الفيضانات في الغرب في نزوح مئات الآلاف، لتجسد القارة أوضح صور اللاعدالة المناخية في العالم الحديث.

تتمتع المجتمعات الرعوية المحلية في شمال كينيا بقدرة كبيرة على مقاومة الإجهاد المناخي

تتحول هذه الظواهر مجتمعة إلى ما يمكن وصفه بـ"الضغط البنيوي على الأنظمة الاجتماعية. "فكل كارثة لا تقاس فقط بما تسببه من خسائر مادية، بل أيضا بما تزرعه من عدم استقرار اقتصادي وسياسي. فبعد فيضانات تكساس، واجهت شركات التأمين الأميركية أزمة سيولة أدت إلى ارتفاع غير مسبوق في أقساط التأمين على الكوارث الطبيعية. وفي آسيا، تسببت الأعاصير المتكررة في هروب رؤوس الأموال من قطاعات الزراعة والسياحة. أما في أفريقيا، فقد أدت الخسائر الزراعية إلى اضطرابات غذائية دفعت حكومات عدة إلى إعادة النظر في خطط الأمن القومي.

ويشير التقرير إلى أن العلاقات بين المناخ والاقتصاد باتت غير خطية، بمعنى أن الكوارث لا تضيف خسائر جديدة فحسب، بل تضعف قدرة الاقتصاد على التعافي من السابقة.

ويرى معدو الدراسة أن ما يحدث الآن هو انتقال العالم من مرحلة الخطر إلى مرحلة الخلل البنيوي، حيث لم تعد الكوارث تقاس بعددها بل بتأثيرها المتقاطع. فالإعصار الذي يدمر مدينة اليوم لا يوقفها فقط، بل يقطع سلاسل الإمداد العالمية ويؤثر في أسواق الطاقة والغذاء، وهو ما ظهر جليا بعد إعصار "ياغي" عندما تعطلت موانئ رئيسة في آسيا، مما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع في أوروبا وأميركا. هذه الترابطات العالمية هي ما يجعل الأزمة المناخية قضية شاملة لا يمكن التعامل معها بمنطق الإغاثة المحلية فقط.

تتطلب معالجة هذا التجاوز تحولا جذريا في أنماط الإنتاج والاستهلاك، وليس مجرد تحسينات تدريجية

ويرى التقرير أن تجاوز الكوكب لحدوده الحيوية يرتبط بثلاث دوائر متشابكة، أولاها الطاقة، وثانيتها الغذاء، وثالثتها الأنظمة البيئية التي تمثل خط الدفاع الأخير ضد الانهيار المناخي. فكل زيادة في استهلاك الوقود الأحفوري تؤدي إلى إطلاق كميات إضافية من ثاني أكسيد الكربون، مما يزيد سخونة الجو ويغير أنماط الأمطار ويؤثر في إنتاج الغذاء. وهذا بدوره يدفع إلى مزيد من التوسع الزراعي على حساب الغابات، فتتراجع القدرة الطبيعية على امتصاص الكربون، ويدخل النظام في حلقة مفرغة من التدهور المتسارع.

سيؤدي استمرار هذا التجاوز إلى نقطة "انقلاب بيئي" يصبح عندها تصحيح المسار غير ممكن بالوسائل التقليدية. فالأرض تمتلك آليات ذاتية للضبط — مثل امتصاص الكربون بواسطة المحيطات والنباتات، وتنظيم الحرارة من خلال السحب والثلوج — لكن هذه الآليات تفقد فعاليتها تدريجيا مع ارتفاع الحرارة وتغير تركيب الغلاف الجوي. وتشير النماذج المناخية الحديثة إلى أن تجاوز هذه الحدود قد يطلق تفاعلات متسلسلة لا يمكن كبحها، كذوبان الجليد القطبي، وازدياد امتصاص الحرارة من سطح المحيطات، وتراجع انعكاس أشعة الشمس، مما يضاعف معدلات التسخين.

تتطلب معالجة هذا التجاوز تحولا جذريا في أنماط الإنتاج والاستهلاك، وليس مجرد تحسينات تدريجية. فخفض الانبعاثات وحده لن يكفي ما لم يرافق بسياسات تقلص الاستهلاك المفرط لدى الفئات الغنية وتعيد توزيع الموارد بما يضمن العدالة البيئية والاجتماعية. ويرى العلماء أن الأزمة البيئية الراهنة ليست مجرد مشكلة تقنية، بل انعكاس لخلل أعمق في بنية الاقتصاد العالمي الذي يقيس النجاح بمؤشرات النمو لا بالاستدامة.

تشير بيانات تقرير جامعة ولاية أوريغون إلى أن استهلاك الطاقة الأحفورية بلغ عام 2024 أعلى مستوى في التاريخ، رغم التوسع في الطاقة الشمسية والرياح التي لا يزال إنتاجها أقل بنحو واحد وثلاثين ضعفا من الفحم والنفط والغاز مجتمعين. ويرى الباحثون أن المشكلة ليست في حجم الطاقة المتجددة بل في البنية التحتية العالمية المصممة لخدمة الوقود الأحفوري، من محطات الكهرباء إلى شبكات النقل والصناعة الثقيلة، وهو ما يخلق ما يعرف بـ "قصور التحول" بين الإمكانات التقنية والقدرة الفعلية على التنفيذ.

ويؤكد التقرير أن تجاوز هذا القصور يتطلب إعادة هندسة منظومة الطاقة جذريا، تشمل تطوير شبكات ذكية لتوزيع الكهرباء، وتخزين الطاقة باستخدام البطاريات أو الهيدروجين الأخضر، وتحديث القطاعات الصناعية لتقليل اعتمادها على الوقود الكربوني.

نتيجة لهذا الاعتماد، بلغت تركيزات ثاني أكسيد الكربون والميثان عام 2024 أعلى مستوياتها منذ مئات آلاف السنين، مما رفع متوسط حرارة الأرض بنحو 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية. كما ساهم انخفاض الجسيمات العاكسة لأشعة الشمس في تسريع الاحترار، بعد زوال ما كان يعرف بالتأثير المهدئ لهذه الجسيمات، مما أدى إلى تغذية راجعة موجبة زادت من تسارع التغير المناخي.

سجل عام 2024 أعلى معدل لفقدان الغطاء الحرجي بسبب الحرائق والجفاف، وتبين أن قدرة الغابات المدارية على امتصاص الكربون تراجعت بنحو الثلث مقارنة بعقد التسعينيات

لمواجهة هذا الاتجاه، يقترح الباحثون إنهاء دعم صناعات الوقود الأحفوري وتحويل الاستثمارات إلى الطاقة النظيفة، مع فرض ضرائب تصاعدية على الانبعاثات الكربونية لتمويل البنية التحتية المستدامة. وتشير النماذج الاقتصادية إلى أن تكلفة التحول الطاقي أقل بكثير من أضرار استمرار الاحترار، إذ تجاوزت خسائر حرائق لوس أنجليس عام 2024  نحو 250 مليار دولار، بينما بلغت أضرار فيضانات تكساس أكثر من 100 مليار دولار.

ويربط التقرير بين أزمة الطاقة والأمن العالمي، موضحا أن تقلبات أسعار النفط والغاز والكوارث المناخية يمكن أن تهدد الاستقرار السياسي والأمن الغذائي والمائي. لذا يوصي بدمج مفهوم المرونة المناخية في سياسات الدفاع والخارجية.

ويختتم الجزء المخصص للطاقة بالتأكيد أن التحول إلى الطاقة المتجددة لم يعد خيارا بيئيا بل ضرورة علمية، وأن العقد الحالي سيكون حاسما لتفادي أسوأ السيناريوهات المناخية، مع تضاؤل النافذة الزمنية المتاحة للعمل.

يوسف كركوكي
نهر "خاصاسو" وسط كركوك، جف بسبب السياسيات الزراعية والتغيرات المناخية

يشير التقرير إلى أن النظم البيئية — من الغابات والمستنقعات إلى المحيطات — تمثل الدعامة الأساس لتنظيم مناخ الأرض، إذ تعمل كخزانات طبيعية للكربون تمتص نحو نصف ما تطلقه البشرية من انبعاثات سنويا. لكن هذه الأنظمة نفسها بدأت تفقد قدرتها على التعويض، نتيجة التغيرات المناخية والأنشطة البشرية.

آليات مجانية

فقد سجل عام 2024 أعلى معدل لفقدان الغطاء الحرجي بسبب الحرائق والجفاف، وتبين أن قدرة الغابات المدارية على امتصاص الكربون تراجعت بنحو الثلث مقارنة بعقد التسعينيات. كما أن ارتفاع حرارة المحيطات أدى إلى اضطراب التوازن الحيوي للطحالب والكائنات الدقيقة التي تمثل أساس دورة الكربون البحرية، مما قلل فعالية "المغسلة الكربونية" للمحيطات.

ويقدر التقرير أن استعادة النظم البيئية وحمايتها يمكن أن تخفف أو تمنع ما يصل إلى عشرة مليارات طن من ثاني أكسيد الكربون سنويا بحلول عام 2050 — أي ما يعادل ربع الانبعاثات الحالية تقريبا. ويتحقق ذلك عبر إعادة تشجير الغابات، وحماية الأراضي الرطبة والمستنقعات، ووقف تدهور الشعاب المرجانية والمناطق الساحلية.

ويرى الباحثون أن الاستثمار في حماية النظم الطبيعية لا يقل أهمية عن خفض الانبعاثات الصناعية، لأن الطبيعة توفر "آليات تكيف مجانية" تحافظ على توازن الماء والغذاء والمناخ. لكن تجاهلها سيحولها من حليف للكوكب إلى مصدر إضافي للانبعاثات، كما يحدث بالفعل في بعض المناطق التي تحولت فيها الغابات المحترقة إلى مطلقات للكربون بدلا من أن تكون مخازن له.

يظهر التقرير أن تسارع الاحترار العالمي في العامين الأخيرين لم يكن مجرد استمرار للاتجاه العام، بل قفزة في وتيرة التغير

يؤكد التقرير أن النظم الغذائية تمثل محورا أساسيا في معادلة المناخ، إذ تسهم بنحو 8 إلى 10 في المئة من الانبعاثات العالمية نتيجة الفاقد الغذائي والإفراط في استهلاك اللحوم. ويشير إلى أن التحول نحو أنماط غذائية غنية بالنباتات، وتقليل الاعتماد على البروتين الحيواني، يمكن أن يخفض الانبعاثات الزراعية بما يقارب الثلث.

كما أن فقد الطعام أثناء الإنتاج والنقل والتخزين يمثل مشكلة خفية. فالهدر الغذائي وحده يطلق كميات من الغازات تفوق ما تصدره معظم الدول الصناعية الكبرى. لذا يدعو التقرير إلى تطوير سلاسل إمداد أكثر كفاءة، وتشجيع الزراعة المستدامة، وتحسين إدارة المياه والتربة.

ويرى الباحثون أن التغيير في النظام الغذائي ليس مجرد خيار بيئي، بل ضرورة علمية وصحية أيضا، إذ يرتبط ارتفاع استهلاك اللحوم بانبعاثات الميثان من الثروة الحيوانية، إلى جانب آثار سلبية على الصحة العامة. أما التحول نحو نظام غذائي أكثر نباتية فيحقق توازنا بيئيا واقتصاديا وصحيا في آن واحد.

يظهر التقرير أن تسارع الاحترار العالمي في العامين الأخيرين لم يكن مجرد استمرار للاتجاه العام، بل قفزة في وتيرة التغير. فمتوسط حرارة الأرض في عام 2024 تجاوز أي عام سابق منذ بدء القياسات، ويرجح العلماء أن الكوكب يعيش أحر فتراته منذ 125 ألف سنة.

ويعزى هذا التسارع إلى تراجع التأثير التبريدي للجسيمات العالقة في الغلاف الجوي، نتيجة انخفاض الانبعاثات الصناعية الكبريتية، إضافة إلى ضعف انعكاس ضوء الشمس عن السحب والثلوج الذائبة. كما أدى ازدياد بخار الماء – وهو غاز احتباس حراري قوي – إلى تضخيم الظاهرة في دورة تسخين ذاتية.

وترتبط هذه العمليات بتفاعلات معقدة بين المحيطات والغلاف الجوي. فالمحيطات تمتص أكثر من 90% من الحرارة الزائدة، لكنها بدأت تظهر علامات تشبع حراري، مما يهدد بإطلاق مزيد من الحرارة إلى الغلاف الجوي. ونتيجة لذلك، أصبحت الظواهر المتطرفة — من موجات الحر إلى الفيضانات والحرائق — أكثر تواترا وحدة في كل القارات.

يعد قطاع الطاقة المحرك الأكبر لأزمة المناخ، إذ سجل استهلاك الوقود الأحفوري في عام 2024 أعلى مستوياته على الإطلاق، رغم الزيادة التاريخية في إنتاج الطاقة المتجددة. ويشير التقرير إلى أن الطاقة المولدة من الشمس والرياح ارتفعت بمعدل غير مسبوق، لكنها لا تزال تمثل جزءا ضئيلا مقارنة بما ينتجه الفحم والنفط والغاز، إذ يقل إنتاجها بنحو واحد وثلاثين ضعفا.

ويرى العلماء أن التحول الحقيقي يتطلب تسريع التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري، لا مجرد التوسع في الطاقة النظيفة. فكل عام من التأخير يعني سنوات إضافية من الانبعاثات ستظل في الغلاف الجوي لعقود. كما يدعو التقرير إلى دمج استراتيجيات الطاقة المتجددة ضمن خطط الأمن القومي والاقتصادي، لأن التحول في هذا القطاع لم يعد خيارا بيئيا فقط، بل شرط للاستقرار السياسي والاجتماعي في عالم يزداد سخونة.

ويخلص الباحثون إلى أن تحقيق نسبة 70% من الكهرباء العالمية من مصادر متجددة في حلول عام 2050 ليس مستحيلا، لكنه يتطلب استثمارات ضخمة، وإصلاحات تشريعية، وإرادة سياسية تعيد هيكلة الاقتصاد العالمي حول مبدأ الكفاءة والانبعاث الصفري.

font change