في الذكرى الخمسين لرحيله... الحب كلمة بازوليني الأخيرة

ديوان يخلط الاعتراف بالشهادة السياسية

بازوليني

في الذكرى الخمسين لرحيله...
الحب كلمة بازوليني الأخيرة

على غلاف الطبعة الأولى من ديوانه الشعري الأخير، "ارتقاء وتنظيم" (1971)، كتب الشاعر والسينمائي الإيطالي بيير باولو بازوليني (1922 – 1975) تقديما له يبدأ بالفقرة التالية: "القراء الحقيقيون لهذا الكتاب هم أولئك القادرون على أن يسبغوا عليه موضوعية معينة. صحيح أن هذا يحدث مع جميع كتب الشعر في إيطاليا، لكن لا بد من ذلك مع هذا الكتاب بشكل خاص لأنه، على الأقل في النصف الأول منه، يتألف من "وثائق"، إما خاصة (تشهد على حياة)، أو أدبية (تشهد على تطور لغوي وفكري)".

هل أن الجانب الوثائقي، "غير الشعري" عمدا، في هذا الديوان، هو ما يفسر سقوطه من دائرة اهتمام مترجمي الشعر؟ لا نطرح هذا السؤال لتبرير قصور لا مبرر له، بل لمحاولة فهم لماذا توجب انتظار أكثر من نصف قرن، وهمة المترجمة فلورانس بازوتو، كي تصبح ممكنة قراءة هذا العمل باللغة الفرنسية. ترجمة تأتي إذن في الوقت المناسب لأنها تبدد إهمالا جائرا دام طويلا، وأيضا لأن صدورها حديثا في باريس، عن دار "لانسكين"، يتزامن مع مرور خمسين عاما بالتمام على مقتل بازوليني في ظروف لا تزال غامضة.

"ارتقاء وتنظيم" يتألف من قسمين رئيسيين يتضمن كل منهما أجزاء عدة، ويجمع بين دفتيه 63 قصيدة كتبها بازوليني بين عامي 1968 و1970، وصدر معظمها في مجلات أدبية مختلفة. قصائد طويلة نسبيا، يتناول الجزء الأكبر منها أحداثا بارزة في زمنها وشخصيات عامة، والجزء الآخر وجوها مركزية في حياة الشاعر آنذاك، مثل نينيتو دافولي الذي ربطته به صداقة طويلة، أو المغنية ماريا كالاس التي أدت في فيلمه "ميديا" الدور التمثيلي الوحيد في حياتها المهنية، وجمعتها به علاقة حميمة لامست الحب.

من فلورانس بازوتو، نعرف أن بازوليني فكر في البداية في منح هذا الديوان عنوان واحدة من قصائده، "أناشيد المطهر الست الأولى"، مع إضافة إليه "وقصائد شيوعية أخرى"، قبل أن يختار "ارتقاء وتنظيم". وحول هذا العنوان، صرح يوما: "كلمة "ارتقاء" (Trasumanar) مستخدمة بالمعنى الصوفي للزهد الذي يتعذر وصفه، لا يمكن قوله بكلمات، لأنه تجربة للحظة ميتا-تاريخية. كلمة أقابلها، من باب المفارقة الساخرة، والمحاكاة الصوتية، بكلمة "تنظيم" (Organizzar) التي هي نقيضها، لأنها تتعلق بممارسة دنيوية، برغماتية، بفعل، ويمكن أن تعني أيضا تنظيما حزبيا، ثوريا من دون شك".

من بازوتو نعرف أيضا أن مصدر "Trasumanar" هو دانتي الذي استخدم هذه الكلمة مرة واحدة فقط في النشيد الأول من "الفردوس"، ومصدر "Organizzar" هو غرامشي. وبينما يحضر دانتي بقوة في هذا الديوان مع ملحمته "الكوميديا الإلهية"، لا سيما في نص "أناشيد المطهر الست الأولى، مشروع قصيدة"، ومن خلال اقتباسات عديدة، مباشرة أو غير مباشرة، وتواتر موضوع الأب والمرشد، فإن غرامشي لا يُذكَر أبدا، لكن عدة قصائد تتعلق مباشرة بالحزب الشيوعي الإيطالي الذي انتمى الشاعر إليه، قبل أن يفصل عنه بسبب سلوكه التحرري.

مرحلة محورية

أما قصائد هذا الديوان، فتأتي كتابتها خلال مرحلة محورية من حياة بازوليني وعمله. فمن جهة، تتغير آنذاك علاقته بصديقه الحميم نينيتو دافولي حين يبلغه هذا الأخير بنيته في الزواج، ومن جهة أخرى، تنطلق علاقة صداقة وتواطؤ بينه وبين ماريا كالاس، أثناء تصويره فيلم "ميديا" عام 1969. علاقة ألهمته تسع قصائد تحضر في "ارتقاء وتنظيم".

القراء الحقيقيون لهذا الكتاب هم أولئك القادرون على أن يسبغوا عليه موضوعية معينة... لأنه يتألف من وثائق تشهد على حياة وتطور لغوي وفكري

إضافة إلى ذلك، فإن بازوليني، الذي كان كف عن "التوهم في موضوع الشعر"، من دون التوقف عن كتابته، شهد في تلك المرحلة لحظة تجديد لغوي وداخلي على حد السواء، قال عنه: "العنصر الأخير في تجديدي اللغوي وتجددي الداخلي هو موقف فكاهي تجاه الواقع، وهو أمر لم أختبره قط قبل ذلك". وفعلا، نستشف في نصوص "ارتقاء وتنظيم" حسّ دعبى تفاعل الشاعر به مع الأحداث العنيفة التي عصفت ببلده والعالم، ومع أحداث حياته الخاصة. حس سمح له بفضح الكلبية السائدة، الانحراف في الخطاب السياسي أو جانبه المبتذل، الضياع، التقييس (أو العولمة، كما نقول اليوم)، وتحلل المقدس والخطاب الشعري والفكر السياسي تحت تأثيرات نزعة استهلاكية وصفها بـ "التوتاليتارية". نستشف أيضا في هذه النصوص نأيه عن ذلك الأسلوب الذي تبلور في دواوينه السابقة، ويمنح انطباعا باستمرارية، واستبداله بكتابة أخرى، غير شعرية، تقترب جدا من الشفهية، تحتك بالوقائع (التي تزداد مراوغتها، وبالنتيجة، صعوبة الإمساك بها)، تنفتح على لغة التقرير كما على التأتأة والمصاداة، وتستقبل تارة كلمات لاتينية وطورا مفردات عامية، لا سيما تلك المستخدمة في ضواحي روما البائسة.

كتابة موجّهة غالبا إلى شخص أو فريق معين، حية وملحة، متنبهة بشدة للأماكن والأحداث، وأيضا لشخصيات معاصرة لبازوليني، تاريخية وأسطورية توراتية أو أدبية. كتابة توظف الجسد لتمزيق الصمت السائد، وتواجه امحاء الواقع بالتأملات والأحاسيس والانفعالات المكثفة، وتستدعي، لتنظيم مقاومتها، مواد متنافرة تماما، كما يتجلى ذلك بقوة في قصيدة "باتموس"، حيث تتجاور القائمة الطويلة لضحايا الاعتداء الفاشي في ساحة "فونتانا" بميلانو عام 1969، مقتطفات من سفر رؤيا يوحنا، والاستجواب العنيف للرئيس جوزيبي ساراغات على يد الشاعر.

غلاف ديوان "ارتقاء وتنظيم"

حول هذا الديوان، صرح بازوليني عام 1969: "الشعر الذي أكتبه حاليا هو شعر غير مستحب، شعر يصعب استهلاكه". تصريح يتضح ويأخذ كل معناه في ضوء ما قاله يوما عن الشعر عموما: "الشعر ليس سلعة استهلاكية (...). حول هذه النقطة، علماء الاجتماع مخطئون، وعليهم الإقرار بذلك. إنهم يعتقدون أن النظام يبتلع كل شيء ويستوعبه. هذا خطأ، فثمة أشياء يعجز النظام عن استيعابها أو هضمها، والشعر هو من هذه الأشياء، يمكننا قراءة ديوان شعر آلاف المرات، لكننا لن نستهلكه".

بورتريه لبازوليني

ضدّ الاستهلاك

لكن بما أن بازوليني كان يعرف تمام المعرفة الطبيعة الاستهلاكية لمجتمعاتنا، كما كان يعرف أن "قلة هم أولئك الذين يقرأون كتاب شعر من البداية إلى النهاية"، ينصح في مقدمته لهذا الديوان "من يبدي مثل هذا التسرع، المفهوم"، بقراءة الأقسام التالية فيه: "ارتقاء وتنظيم"، "ميثاق ملطّخ"، "قصائد عرجاء" و"تظاهُر"، لأنها "الأكثر إثارة للاهتمام"، في نظره.

بازوليني وماريا كالاس

ولأنه كان يعلم أيضا أن "ثمة قراء لا يقرأون إلا قصيدة واحدة من ديوان"، ينصح في هذه الحال بقصيدة "شعر التقاليد" التي كتبها كرسالة مفتوحة لشباب جيله بغية تحذيرهم من أشياء كثيرة، أبرزها: "سنوات الصبا تمضي سريعا/ ستبلغون منتصف العمر ثم الشيخوخة/ دون أن تكونوا قد تمتعتم بما كان لكم الحق في التمتع به (...) وعندها ستكتشفون أنكم خدمتم العالم/ الذي قاومتموه بحماسة". قصيدة يختمها باستنتاج مرير بقدر ما هو بصير: "مع تقدمي في السن رأيتُ رؤوسكم ممتلئة بالألم/ تدور فيها فكرة ملتبسة، يقين مطلق/ وغطرسة من يظن أنه بطل لا يموت/ يا شبابا تعساء، رأيتم في متناول اليد نصرا رائعا لا وجود له".

الشعر ليس سلعة استهلاكية... ثمة أشياء يعجز النظام عن استيعابها أو هضمها، والشعر هو من هذه الأشياء

من جانبنا، نرى أنه لا بد من مطالعة كل نصوص "ارتقاء وتنظيم"، من دون استثناء، لأن ما ينتظر القارئ في هذا العمل هو تجربة شعرية نادرة القوة، لم يتمكن الزمن من النيل من قيمتها وراهنيتها، على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن عليها. تجربة تهز من يخوضها بحدة خطابها وسطوة مضمونها، وتخرجه من خدر التفاهة التي تحاصرنا جميعا اليوم، بتقديمها له صورة نقية، دقيقة، لواقعنا المرير، وفي الوقت نفسه، خلاصة لأثمن الابتكارات الشكلية التي ثورت كتابة الشعر على طول القرن الماضي.

font change

مقالات ذات صلة