بعد عام على انتخابه، يبدو دونالد ترمب أكثر حضورا وتأثيرا من أي وقت مضى. لم يعد مجرد رئيس استثنائي أو ظاهرة خارجة عن المألوف، بل بات تجسيدا لتحوّل عميق في المزاج الأميركي وفي طريقة إدارة القوة العظمى الأولى لشؤون العالم.
"كيف غيّر ترمب العالم"، عنوان قصة غلاف "المجلة" لشهر نوفمبر، بمناسبة مرور سنة على انتخابه، حيث نقدم مقالات ومقابلات عن ملامح السنة الأولى في أميركا والعالم.
في ولايته الثانية، تحرّر ترمب من قيود المؤسسة، وعاد ليقود أميركا وفق رؤيته الصريحة: المصالح أولا، والصدمات والصفقات طريق الإنجاز. ترمب ليس سياسيا تقليديا. جاء من عالم الأعمال محملا بخبرة الأرقام والنتائج، لا بخطابات القيم ولا بلاغة الدبلوماسية. لم يرَ في السياسة الخارجية واجبا أخلاقيا أو مهمة أيديولوجية، بل عملية حساب دقيقة بين الكلفة والعائد. أراد "تطبيع" أميركا، دولةً تدافع عن مصالحها بلا اعتذار، وتعيد تعريف التحالفات بما يراه ترمب يخدمها لا البيروقراطية الدولية. هذه الصراحة، التي اعتبرها خصومه فظاظة، رآها أنصاره عودة إلى الواقعية بعد عقود من مثالية أنهكت واشنطن.
في عامه الأول، أظهر أن منهجه ليس نزقا عابرا بل رؤية متكاملة. على الجبهة الاقتصادية، رفع شعار السيادة الصناعية وحماية الإنتاج المحلي، واستعاد مكانة العامل الأميركي في صميم القرار. وعلى الساحة الدولية، تحرك بثقة مدروسة، يعيد تموضع التحالفات ويعيد ترتيب الأولويات. لم يكن انكفاؤه انسحابا، بل إعادة توزيع للنفوذ بما يتناسب مع عالم متغير.
في مقاربته لبقية القضايا، تبنّى ترمب منطقا واقعيا بعيدا عن الشعارات. في الملف الإيراني، لم يتردد في وصف الاتفاق النووي بأنه صفقة سيئة، لأنه منح طهران الموارد والشرعية من دون أن يغيّر سلوكها
في الشرق الأوسط، كان ترمب واضحا منذ اللحظة الأولى. اختار الرياض لتكون محطته الخارجية الأولى بعد توليه الرئاسة، في رسالة مبكرة بأن السعودية ستكون بوصلته في التعامل مع المنطقة. هناك، في قلب العالمين العربي والإسلامي، أعلن عن مقاربة جديدة تترك لأهل المنطقة تقرير مصيرهم. كانت تلك الزيارة بمثابة إعادة تعريف للشراكة التاريخية بين واشنطن والرياض، إذ لم تعد العلاقة قائمة على النفط أو الأمن فقط، بل على الرؤى المتقاربة للاستقرار والتنمية. أدرك ترمب أن السعودية ليست مجرد حليف تقليدي، بل محور توازن وصوت اعتدال في منطقة مضطربة، وأن بوصلته الشرق أوسطية لا يمكن أن تستقيم إلا إذا كانت الرياض في مركزها.
وفي تطور لافت، نجح ترمب في فرض اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حماس" بعد حرب مدمرة في غزة استمرت عامين. استخدم نفوذه السياسي وعلاقاته الشخصية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلى جانب شبكة اتصالاته الواسعة في المنطقة، ليُرغم الطرفين على القبول بتسوية تجمد العنف وتفتح الباب أمام ترتيبات أمنية جديدة. قدم ترمب في تلك اللحظة خلاصة مقاربته، فرض "السلام بالقوة"، أي السلام الذي يصنعه ميزان الردع لا بيانات المؤتمرات.
في مقاربته لبقية القضايا، تبنّى ترمب منطقا واقعيا بعيدا عن الشعارات. في الملف الإيراني، لم يتردد في وصف الاتفاق النووي بأنه صفقة سيئة، لأنه منح طهران الموارد والشرعية من دون أن يغيّر سلوكها. اختار المواجهة الاقتصادية بدل المساكنة السياسية، ثم استخدم لغة النار. قصف منشآتها النووية وأعادها إلى الوراء ثم فرض وقف النار بين تل أبيب وطهران. وكان شاهدا ولاعبا في نكسات إيران و"محورها".
وفي الحرب على الإرهاب، ركّز على النتائج لا الخطابات. قلّص الوجود العسكري المباشر وفضّل العمليات النوعية، في مقاربة أعادت لأميركا قدرة التحرك السريع من دون استنزاف طويل الأمد. وأضاف إلى قائمته "الحرب على إرهاب المخدرات" في أميركا اللاتينية.
لم تعد العلاقة مع السعودية قائمة على النفط أو الأمن فقط بل على الرؤى المتقاربة
أما في العلاقة مع الحلفاء الغربيين، فقد مارس ترمب الشفافية المؤلمة. طالب الأوروبيين بتحمل مسؤولياتهم والدفع مقابل أمنهم، ورفع مساهماتهم في موازنة "الناتو". ولم يتردد في الضغط على فلاديمير بوتين عندما اقتنع أنه يشتري الوقت ولا يريد وقفا للنار ولا اتفاق سلام، بل قضم الضفاف الشرقية لأوكرانيا.
وفي الشرق الأقصى، خاض مواجهة اقتصادية مفتوحة مع الصين من موقع الندّية، معتبرا أن استمرار الانخراط غير المنضبط كان خطأ استراتيجياً سمح لبكين بتقويض النظام التجاري العالمي. هكذا تحولت الحرب التجارية إلى وسيلة لإعادة التوازن، لا إلى إعلان قطيعة.
يُحسب لترمب أنه استطاع أن يُعيد لأميركا صورة الدولة القادرة على المبادرة. لم يعد البيت الأبيض متفرجا على الأزمات، بل وجهة للباحثين عن حلول، وطرفا مباشرا في صياغتها. وفي عالم يتبدل بسرعة، أراد أن يفرض وضوحا في زمن الغموض، وأن يجعل من واشنطن مركز قرار لا مركز تردد.
بعد عام على ولايته الثانية، لا يمكن إنكار أن ترمب غيّر معادلات كثيرة. أعاد تعريف مفهوم القيادة، وأثبت أن الواقعية ليست نقيض القيم، بل وسيلة لحمايتها.