هاشم علي... ذكرى فنان يمني منسي

روح ضوء الشرق وألوانه

Facebook
Facebook
لوحات للفنّان اليمني هاشم علي

هاشم علي... ذكرى فنان يمني منسي

يحتفي الوسط الثقافي اليمني كل عام بذكرى رائد الفن التشكيلي في اليمن الفنان هاشم علي الذي توفى في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2009، إلا أن هذا الاحتفاء يقتصر على نشر صور للوحاته في صفحات التواصل الاجتماعي دون أن نجد معرضا استعاديا لأعماله. اليوم، في الذكرى الثمانين لولادته، نتذكر هذا الفنان الرائد الذي ظل مشغوفا بالفن والحياة حتى اللحظة الأخيرة.

قبل أكثر من عشر سنوات حصلت عائلة الفنان الراحل على عرض من الشارقة لإقامة معرض استعادي لأعماله، على أن تقتني بعض أعماله متاحف الشارقة، تكريما للفنان ودعما للعائلة التي صارت تعاني قسوة العيش، لكن المعرض لم يتحقق بسبب صعوبة تجميع اللوحات الموزعة بين المؤسسات الثقافية ومحبي الفنون، في ظل ظروف اليمن الحالية.

هكذا، نُسيت فكرة المعرض الاستعادي، سواء في صنعاء أو في أي مكان آخر، كما نُسيت الوعود بإنشاء متحف يحتوي على أعماله الفنية. وظلت توجيهات الرئاسة اليمنية بمواصلة العناية بأسرة الفنان غير محققة.

ضوء الشرق

يكاد يتفق التشكيليون اليمنيون على أن الفنان هاشم علي يمثل مختلف مراحل تطور الفن التشكيلي اليمني الحديث، فالفنان الذي أقام معرضه الأول في تعز عام 1967، رسم في مختلف الاتجاهات التشكيلية ابتداء من الواقعية والتعبيرية والانطباعية والتكعيبية إلى أعمال الغرافيك، وذلك قبل أن يكوِّن اتجاهه الفني الخاص الذي امتاز فيه خلال السنوات الأخيرة من حياته. وهو اتجاه ينطلق من خلفية فكرية تستعيد روح ضوء الشرق القديم وألوانه، مع معاينة تحوّل الإنسان وتطلعاته الدائمة.

رسم في مختلف الاتجاهات التشكيلية ابتداء من الواقعية والتعبيرية والانطباعية والتكعيبية إلى أعمال الغرافيك، وذلك قبل أن يكوِّن اتجاهه الفني الخاص

هذا المنحى الأخير في أعماله، جاء نتاج بحث شخصي عن عوالم الفن وتاريخه، حتى إن الكاتبة السويسرية لورنس ديونا ذكرت في كتابها "اليمن التي شاهدت"، نهاية سبعينات القرن الماضي، أن الكثيرين من المثقفين الأوروبيين "ممن يحوزون مكتبة ومتحفا يعلمون عن فنهم أقل من هاشم علي اليمني المعزول في أقصى طرف العربية. لقد شاهد كل شيء وقرأ كل شيء: عذارى رافائيل والرسوم الخداعة للباروكية وزخارف الحصر للزخرفة المثقلة، وورقيات كورو ونساء رينوار وملصقات براك، وبالنسبة إليه فإن سيزان هو سيّد الفن الحديث".

Facebook
لوحات للفنّان اليمني هاشم علي

ثور هاشم

هاشم علي الذي ولد في إندونيسيا عام 1945 لأبوين يمنيين من حضرموت، وعاد في العاشرة من عمره إلى اليمن، بقي يرى أن فرنسا وإيطاليا هما منبع الفن الحديث، وكان يفضل أن يذهب للدراسة فيهما، بعد رفضه منحة دراسية إلى موسكو، لكن أمنيته لم تتحقق وأصر على التعلم الذاتي حتى عُرضت أعماله في عشرات البلدان. ولم يكن هاشم يحفل بالظهور الإعلامي إلا ما ندر. فهو إذ كُرّم بوسام الأدب والفنون من بلده وأنتخب أول رئيس لجمعية الفنانين التشكيليين اليمنيين، ظل يعيش في منزل متواضع في تعز محتفيا بناسه البسطاء الذي شكلوا الهاجس الأساس لمعظم أعماله.

لم يكن هاشم يناهض التيارات الفنية الحديثة، التي جرّب معظمها في أعماله، لكنه كان عادة ما يتحدث عن الجوهري في الفن، وما يراه تعبيرا عن عظمة الإنسان وعلاقته بالطبيعة

لم يكن هاشم يناهض التيارات الفنية الحديثة، والتي جرّب معظمها في أعماله، لكنه كان عادة ما يتحدث عن الجوهري في الفن، وما يراه تعبيرا عن عظمة الإنسان وعلاقته بالطبيعة والحياة. لذا، كان لديه الكثير من الرؤى النقدية عن بعض الفنانين المشهورين، فهو إذ يفضّل تقنيات بيكاسو الفنية الأولى على أعمال سلفادور دالي، فإنه كان يرفض أن يرسم بيكاسو الثور في لوحته "غيرنيكا" كرمز للوحشية. فالثور، عند هاشم علي، هو اكتمال للعلاقة بين الإنسان ومحيطه. وظهر في إحدى لوحاته الغرافيكية وهو يحرث الأرض إلى جانب الإنسان. وكان بيكاسو يرفض تفسيرات النقاد، ويرى أن الثور في اللوحة هو ثور كما أن الحصان فيها هو حصان ولا شيء غير ذلك.

مع هذا، فإن هذا التصور المغاير عند هاشم علي لما جلبت عليه الدعاية الإعلامية، كان مرتكزا لمفهومه في الفن، بل ولمفهومه للحياة، وعلاقة الشرق بالغرب والحكمة بالفلسفة.

Facebook
الفنان اليمني هاشم علي

حياة مختلفة

بقدر تميّز الفنان هاشم علي في فنه، كان متميزا في حياته، فهو إذ حصل على منحة تفرّغ دائمة للرسم من بلاده منذ عام 1971، بقي مخلصا لفنه، وكانت كل أيامه تدور حول اللوحة وماذا يمكن أن يقدّم من جديد.

فهو يذهب كل صباح إلى السوق ليجلب احتياجاته الخاصة، وفي طريقه، لا بد أن يلوّح بالتحية لكل من يراه من سكان شارعه وباعته في تعز مع ابتسامة، وأحيانا نكتة، تقال كيفما اتفق. وإذ يعود إلى البيت ليتناول وجبة الغذاء في منتصف النهار تماما، فإنه يتفرغ بعدها للجلوس مع أحد أصدقائه المقربين أو أحد تلاميذه الذين يترددون على مرسمه للتعلم. فيبقى نحو ثلاث ساعات ما بين قراءة في كتاب أو حديث، وعادة ما كان يقرأ في الأساطير والحضارات القديمة وفنونها وفي الفلسفة، وبالذات مؤلفات الفلاسفة العرب كابن رشد والرازي. وفي الثالثة والنصف، أو الرابعة، لا بد أن يدخل مرسمه ليستكمل لوحة جديدة.

ربما خشي أولئك الذين شهدوا شهقة موته الأخيرة أن يمدوا أيديهم إلى عينيه ويسدلوا الستار على حياته

كان هذا خط حياته الأبرز، لكنه كان أيضا مستمعا كبيرا الى موسيقى الشعوب. فإن تجلس معه، فستسمع الى مقارنة بين الموسيقى اليونانية والألمانية، أو بين التركية والمصرية. وقد يعطي تصوره لتناول نجيب محفوظ في روايته للطبقة الشعبية.

Facebook
لوحات للفنّان اليمني هاشم علي

عانى هاشم علي في سنواته الأخيرة من الكثير من الأمراض، لكنه كان ينتظر موته، وهو المرح دائما، بكل اعتيادية. ينقل الصحافي والقاص لطف الصراري عنه قوله إنه "لو اجتمع كل أطباء الأرض من أجل أن يؤجلوا موعد موته لما استطاعوا".

هذا القول يعكس روح هاشم علي ورؤاه التي يدركها كل من عرفه. فأي قول كان يصدر منه، يحمل هالة حكماء الشرق وبهاء جمالهم الروحي الذي يبحث عن الجوهري في الأشياء التي قد تبدو في التفاصيل الصغيرة والبسيطة.

تراكم النسيان

في اليوم التالي لوفاته، تحلقنا أمام ثلاجة المستشفى في تعز لنلقي النظرة الأخيرة على جثمان هاشم علي فوجدنا عينيه مفتوحتين، وكأنه هو من ينظر إلينا نظرات وداع. لا أعرف لماذا بقيت عيناه مفتوحتين. ربما خشي أولئك الذين شهدوا شهقة موته الأخيرة أن يمدوا أيديهم إلى عينيه ويسدلوا الستار على حياته التي امتدت أربعة وستين عاما.

شيِّع جثمان الفنان الذي كان ملأ قلوب الناس البسطاء وبصرهم إلى مثواه الأخير، كما يقال، وهناك فوجئ المشيعون بأنه سيدفن في قبر جماعي مخصص لعائلة صديقه فؤاد مهيوب، إذ لن يكون هناك أي معلم واضح يدل على قبره.

من يعرف هاشم علي، يدرك أن هذا يرضيه، وربما كان قد أسرّ الى صديقه قبل وفاته برغبته هذه، ليضاعف تراكم النسيان على ذكراه، وهو الذي عاش منشغلا بهاجس الخلود الأبدي للإنسان وعظمة منجزه في الفن والحياة.

font change

مقالات ذات صلة