انتخابات العراق السادسة... صراع الأوليغارشيات التقليدية والصاعدة

نظام سياسي وبرلماني يحمل عنوان "ديمقراطي"

رويترز
رويترز
مبنى البرلمان العراقي في بغداد، العراق، 9 يناير 2022

انتخابات العراق السادسة... صراع الأوليغارشيات التقليدية والصاعدة

لم يتبق إلا أيام معدودات على موعد سادس تجربة انتخابية في العراق بعد تغيير نظام الحكم عام 2003. وإجراء الانتخابات في موعدها المحدد 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 يدحض كل التلميحات والتصريحات، وربما الرغبات في تأجيل الانتخابات. وهو مؤشر مهم على أن الالتزام بموعد الانتخابات، بصرف النظر عن نتائجها ومخرجاتها، هو المكسب الوحيد في هذا النظام الذي يؤكد أن التقادم بممارسة العملية الانتخابية هو الخيار المتفق عليه بين فاعلين سياسيين، لم يتفقوا إلا على تقاسم مغانم السلطة والنفوذ. ورغم ذلك يعتقدون أن الانتخابات هي المصدر الوحيد لتجميل شرعية وجودهم في السلطة.

وتختلف هذه الانتخابات عن خمس دورات سبقتها، في غياب التيار الصدري الذي كان حاضرا وفاعلا في كل مواسم الانتخابات السابقة، لكنه اختار طريق مقاطعة الانتخابات المقبلة. ورغم إدراك الصدريين أن مقاطعتهم لن تؤثر على المشروعية القانونية للانتخابات، ما دام لا يوجد نص دستوري أو قانوني يحدد نسبة المشاركة فيها. فإنهم يحاولون التأثير على خفض نسبة المشاركة والتي قد تنخفض إلى أكثر من 15 في المائة عن الانتخابات السابقة. وأيضا يريد الصدريون زعزعة شرعيتها السياسية للمنافسين السياسيين الشيعية من خلال التأكيد على أن القوى السياسية لا تعبر عن تمثيل حقيقي لجمهور مناطق الوسط والجنوب في العراق.

كذلك، ما يميز هذه الانتخابات، وجود جيل سياسي صاعد جديد بدأ يأخذ مساحته في الحضور السياسي. ولعل ائتلاف الإعمار والتنمية الذي يترأسه رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني هو أبرز متغيرات انتخابات 2025.

ورغم أنه يضم الكثير من الشخصيات السياسية التقليدية، فإنه يبقى المنافس للقوى الأوليغارشية الشيعية التقليدية. ومن بين القوى السياسية السنية يسعى الحلبوسي إلى ترسيخ "زعامته للمكون السني" في هذه الانتخابات، وهو يراهن عليها كثيرا، حتى يتمكن من العودة إلى رئاسة مجلس النواب ومواجهة خصومه ومنافسيه في الساحة السياسية السنية، متسلحا بأكثر عدد من المقاعد في المناطق التي يتنافس عليها الفاعلون السياسيون السنة.

تختلف هذه الانتخابات عن خمس دورات سبقتها، في غياب التيار الصدري الذي كان حاضرا وفاعلا في كل مواسم الانتخابات السابقة، لكنه اختار مقاطعة الانتخابات المقبلة

وأيضا، تختلف انتخابات 2025 عن سابقاتها ببدء الصراع مبكرا على من يكون رئيس الوزراء القادم. إذ في الانتخابات السابقة كان التركيز على حصد أكثر المقاعد في البرلمان، كونه يمهد الطريق إلى القائمة الأكثر عددا في الحصول على منصب رئيس الحكومة. رغم إدراك المتنافسين أن لا إمكانية للفوز بمقاعد أكثر في البرلمان إلا بدخول التحالفات. أو تحقيق فوز كاسح بثلثي مقاعد مجلس النواب، وهذا شبه مستحيل في ظل تقسيم الانتخابات إلى مقاطعات مكوناتية للشيعة والسنة والكرد.

التنافس على من يكون رئيس الوزراء أصبح مقترنا ببدء الانتخابات هذه المرة. رئيس الوزراء محمد شياع السوداني يسعى إلى الحصول على أكثر المقاعد من بين القوى السياسية الشيعية حتى يتم تعبيد الطريق أمامه للحصول على الولاية الثانية. في حين يقف نوري المالكي رئيس ائتلاف دولة القانون بقوة ضد رغبة السوداني هذه. ورغم إدراكه عدم القدرة على الوصول إلى مقاعد مقاربة إلى مقاعد "ائتلاف الإعمار والتنمية" الذي يترأسه السوداني، إلا أن سلاحه في معركة رفض الولاية الثانية للسوداني سيكون في تشكيل تحالفات تجمعها رغبة منع تجديد بقاء السوداني رئيسا للوزراء مرة ثانية.

أوليغارشيات السلاح

الفصائل المسلحة، بدأت تحاول تقليد ومحاكاة الفصائل التي سبقتها في العمل بثنائية السلاح والسياسة. وفي هذه الانتخابات غادرت الفصائل المسلحة فكرة الاشتراك ضمن تحالفات انتخابية، وأخذت تشكل قوائم منفرده. تحالف الفتح الذي كان يجمع  بين عناوين السلاح والسياسة، تفكك في هذه الانتخابات. إذ عملت عصائب أهل الحق على تفكيك شراكتها السابقة مع "حركة بدر"، وقررت دخول السباق الانتخابي بقائمة "صادقون". وكذلك عمل شبل الزيدي الأمين العام لـ"كتائب الإمام علي"، بتشكيل قائمة "خدمات". وحركة "حقوق" وهي الجناح السياسي لحركة "حزب الله في العراق"، تريد المشاركة بقوة في هذه الانتخابات لزيادة عدد مقاعدها لضمان توسيع دائرة حضورها السياسي من البرلمان إلى الحكومة.

AFP
عناصر من "الحشد الشعبي" يحملون صور القتلى الذي سقطوا في ضربات أميركية أثناء تشييعهم في بغداد في 4 فبراير

إذن، يبدو أن الصراع في انتخابات 2025 لا ينحصر بين الأوليغارشيات السياسية التقليدية والصاعدة، وإنما سوف يمتد إلى الأوليغارشيات المسلحة التي تريد التنافس مع العناوين التي بقيت تحمل راية "المقاومة" والحضور السياسي، وتقليد تجربتها في الحصول على مقعد داخل التشكيلة الحكومية القادمة، لإدامة وجود السلاح من خلال الحصانة السياسية!

سوف تستفيد كثيرا أوليغارشيات السلاح الصاعدة من مقاطعة الصدريين الانتخابات، إذ ستعمل بسياسة ملء الفراغ الذي تركه الصدريون في الساحة الانتخابية. كذلك تستفيد من انشغال أوليغارشيات السلاح التقليدية في تأكيد حضورها السياسي المنافس للفاعلين السياسيين التقليديين. في حين ستكون دائرة منافستها مع الواجهات السياسية الجديدة للفصائل المسلحة. 

توافقية الأوليغارشيات

تقوم فلسفة الانتخابات على معاقبة الفاشلين، ومن ثم استبدالهم بنخب أو أحزاب سياسية أخرى. ولذلك هي بمثابة استفتاء على الأداء السياسي للطبقة الحاكمة التي تدير الدولة. وتقوم فكرة الانتخابات ومبدأ دوريتها لتحقيق غايات متعددة لا تنحصر فقط بمنح الشرعية للنظام السياسي، وإنما هي محاولة لضمان طريقة التعبير عن آراء الجمهور تجاه الحكومات التي غالبا ما تكون محكومة بالتغيير ولا تعتمد الثبات، وتراعي تغيير قناعات الأجيال إزاء الأحزاب والشخصيات والقوى السياسية. إلا أن هذه الفلسفة والمبدأ العام للانتخابات لا يعملان في التجربة العراقية، حتى وإن مضى أكثر من عشرين عاما على تغيير النظام، وممارسة خمس دورات انتخابية.

وإذا كان مفهوم الديمقراطية يعني أن تحكم الأغلبية البرلمانية باعتبارها حاملة تفويض الشعب، والذي يعني ببساطة أن يحكم الذي يربح الانتخابات وأن تقوم الأقلية المعارضة بمهام ووظيفة المراقبة والمحاسبة، فإنَّ الأمر ليس كذلك في تطبيق ديمقراطيتنا، إذ يتم الالتفاف عليه وإفراغه من مضمونه في التجربة العراقية، فيحكم بدلا من ذلك الكل، الرابح والخاسر، ويشكلون الحكومات، مرة بعنوان حكومة "الوحدة الوطنية"، وأخرى عنوانها حكومة "الشراكة الوطنية"، أو "حكومة مستقلين"، وأخيرا "حكومة ائتلاف قوى الدولة".

تستفيد كثيرا أوليغارشيات السلاح الصاعدة من مقاطعة الصدريين الانتخابات، كذلك تستفيد من انشغال أوليغارشيات السلاح التقليدية في تأكيد حضورها السياسي المنافس للفاعلين السياسيين التقليديين

وفي تجربة حكم العراق بعد 2003، أدركت الطبقة السياسية أن تطبيق النظام البرلماني بصورة صحيحة لا يتلاءم مع رغبتها بالبقاء في الحكم، لذلك هي رسخت تطبيق نظام برلماني هجين يقوم على الجمع بين ثنائية متناقضة: الجميع في الحكم والجميع في المعارضة. وبهذه الطريقة حققت الانسداد الانتخابي الذي يعبّر عن بقاء التنافس الانتخابي بين قوى سياسية تقليدية، حتّى وإن فشلت أو عجزت عن تقديم منجز سياسي أو اقتصادي لمجتمعها.

وبعد أن كان يحكمنا لسنوات دكتاتور واحد، يختزل الدولة بشخصه ومزاجيته. وكان غالبا ما يردد عبارة "أنا وبديلي الفوضى"، فإن نظامنا الحالي الذي يحمل عنوان "الديمقراطية" يخضع لمزاجيات زعامات سياسية لو ثنيت لها الوسادة لما اختلف سلوكها عن حكم الدكتاتوريات، وهي تعيد اليوم نفس مقولة الدكتاتوريات بشأن بديلهم هو الفوضى. ولذلك فإن نظامنا السياسي الحالي هو نظام حكم الدكتاتوريات المتعددة، ولكنّها تتحكَّم فينا بعنوان الديمقراطية وتدعي أن شرعيتها في السلطة والنفوذ تأتي عن طريق الانتخابات. هذه الزعامات تختلف فيما بينها وتتصارع ويُخوّن بعضها الآخر، وتسعى إلى تسقيط بعضها البعض، لكنها على الرغم من ذلك لا يمكن أن نتوقع منها أن تختلف عندما يكون الموضوع تقاسم السلطة ومغانمها، وتتوحد عندما تشعر بأن سلطتها ونفوذها يواجهان تحديا من قبل قوى سياسية جديدة صاعدة وتسعى بكل ما أوتيت من قوة لتدميرها، حتّى وإن كانت الوسيلة إراقة الدماء.

أ.ف.ب
لوحات إعلانية انتخابية في وسط بغداد في 19 أكتوبر 2025

المفكر الفرنسي ألان تورين في كتابه "ماهية الديمقراطية؟ حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية"، يرى أنه مِن الصحيح أنَّ لا وجود لِلديمقراطية دون حرية اختيار الحاكمين من قبل المحكومين، ودون تعددية سياسية، لكننا لا نستطيع الكلام عن ديمقراطية ما إذا كان الناخبون لا يملكون إلا الاختيار بين جناحَين من أجنحة الأوليغارشية أو الجيش أو جهاز الدولة... إنَّ هذا التقهقر الذي تشهده الدول، سواء أكانت ديمقراطية أم لم تكن، يستتبع تدني المشاركة السياسية، ويؤدّي إلى ما سُمي، أزمة التمثيل السياسي. فالناخبون لم يعودوا يشعرون بأنَّهم ممَثّلون. وهذا ما يعبّرون عنه بشجبهم لِطبقةٍ سياسية لا غاية لها سوى تحقيق سلطتها الخاصة، ناهيك عن سعيها أحيانا إلى إثراء أفرادها شخصيا".

بعد أن كان يحكمنا لسنوات دكتاتور واحد، يختزل الدولة في شخصه ومزاجيته. وكان غالبا ما يردد عبارة "أنا وبديلي الفوضى"، فإن نظامنا الحالي الذي يحمل عنوان "الديمقراطية" يخضع لمزاجيات زعامات سياسية لو ثنيت لها الوسادة لما اختلف سلوكها عن حكم الدكتاتوريات

لذلك لا تتنافس القوى السياسية على كسب أصوات المترددين الذين يشكلون عامل الحسم في تحديد نتائج الانتخابات، ولكنها تعتمد أصوات زبائنها وقطاعاتها الانتخابية التي ترتبط بروابط مصلحية معها، والتي رسخت هذا الارتباط المصلحي من خلال تغلغلها في مؤسسات الدولة ووسعت دائرة زبائنها السياسيين.

خيارات المفاضلة بين القوى الفاعلة في منظومة الحكم التي تأسست بعد 2003 أصبحت غير عملية. إذ لا فرق بين من يوظف السلاح في فرض حضوره السياسي، ومن يوظف المال السياسي، ولا من يعمل على استغلال المنصب السياسي وموارد الدولة.

أ ف ب
يحمل أحد موظفي المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق صندوق اقتراع مغلقًا بينما يقوم آخرون بفرز الأصوات يدويًا لمطابقة الفرز الإلكتروني في أحد مقرات المفوضية في منطقة الكرخ ببغداد في 23 ديسمبر 2023

فكل هذه التصنيفات تشترك في مبدأ واحد وهو منطق الغنيمة وليس حكم المؤسسات السياسية. وهذا هو ما يهمين على تفكير وعقلية أغلب الأحزاب السياسية في العراق. ومن ثمَّ، مَن يملك السلاح ويريده أن يكون أعلى من سلاح الدولة لفرض نفوذه السياسي، لا يقل ضررا عن زعامات سياسية تريد أن تتغلغل في مؤسسات الدولة لتحوّلها إلى أقطاعيات حزبية وعائلية للزعامات السياسية وحاشيتها. وفي كلتا الحالتَين ستكون الدولة منهوبة لأنَّ الاختلاف ليس في مشاريع وأيديولوجيات بشأن إدارة الحكم، وإنما في الوسيلة التي تتم من خلالها السيطرة وفرض الهيمنة على السلطة، وكيفية الهيمنة على موارد الدولة. والانتخابات باتت هي الوسيلة لشرعنة حكم الأوليغارشيات السياسية في نظام يحمل عنوان "ديمقراطي".

font change