كاثرين كونولي... الرئيسة ذات الشعبية الجارفة

المنصب الأعلى في أيرلندا قد يكون رمزيا في جوهره، لكنه لا يخلو من الجدل حول المواقف السياسية

أ.ف.ب/رويترز/إدواردو رامون
أ.ف.ب/رويترز/إدواردو رامون

كاثرين كونولي... الرئيسة ذات الشعبية الجارفة

بعد وفاة الملكة إليزابيث الثانية، وقبيل تتويج الملك تشارلز الثالث، راود كثيرين تساؤل مشروع: هل يمكن أن تدفعه آراؤه المعروفة في طيف واسع من القضايا إلى تسييس الملكية؟ بل إن أحد كتّاب المسرح تخيّل هذا الاحتمال في مسرحية شعرية نثرية، يصوّر أزمة دستورية محتملة.

على أن شيئا من هذا لم يحدث، إذ اقتفى تشارلز أثر والدته، محافظا على حياد المنصب السياسي. ومع ذلك، وكما كانت هي، لم يسلم من العواصف السياسية التي تعصف داخل أسرته.

وفيما تعاني العائلة المالكة البريطانية من إحدى فضائحها الدورية، لا عجب في أن ينظر البريطانيون إلى جيرانهم الأيرلنديين بنوع من الحسرة. أما الفرنسيون، فلهم أيضا ما يدعوهم إلى الغبطة من النموذج الأيرلندي، في ظل الصلاحيات الواسعة لرئيسهم وجمود برلمانهم. فأيرلندا، على النقيض من البلدين، تكتفي برئيس رمزي إلى حد كبير، ينتخب مباشرة لولاية مدتها سبع سنوات، ليمثل البلاد في الداخل والخارج.

هذه الأيام، وبينما تتصدر الصحف أخبار سقوط الأمير أندرو من عليائه، وتخبط الرئيس ماكرون في اختيار رئيس وزرائه للمرة الرابعة أو الخامسة، تبدو الترتيبات الأيرلندية أكثر عقلانية وأقل إثارة للدراما. فقد نالت رئيسة البلاد الجديدة لتوها تفويضا انتخابيا غير مسبوق: 63.4 في المئة من الأصوات، وهي أعلى نسبة يحصل عليها أي رئيس أيرلندي منذ تأسيس المنصب عام 1938.

فمن هي الشخصية التي أسرت قلوب الناخبين؟ ليس بوب غيلدوف، رغم مظهره الواثق بعد الانتخابات، فعلى الرغم من أن كثيرين توقّعوا أن يترشّح– بل إنه تباهى بأنه كان "سيفوز بسهولة" لو أنه خاض المعركة– فإنه في النهاية امتنع عن خوض السباق. وبأسلوبه الصريح المعتاد، وصف غيلدوف المرشحين بأنهم "أشخاص أكفاء، ولطيفون للغاية"، لكنه انتقد الحملة ووصفها بأنها مملة. وربما كان من حسن حظ البلاد، أن نجم الروك المتقدم في السن آثر أن لا يختبر شعبيته بين أبناء وطنه، فلعله بذلك جنّب أيرلندا سبع سنوات من الإحراج المسرحي.

وبدلا من غيلدوف كانت الفائزة هي كاثرين كونولي، مدعومة بتحالف يساري موحد ضم "شين فين"، و"الحزب الاشتراكي الديمقراطي"، و"حزب العمال"، و"الخضر"، و"حزب الناس قبل الربح".

كونولي، التي كانت شبه مجهولة خارج بلادها، ولم تكن بارزة حتى داخلها، أصبحت ثالث امرأة تتولى هذا المنصب بعد ماري روبنسون (1990–1997) وماري مكاليز (1997–2011). وقد تبدو للوهلة الأولى شخصية غير مرشحة لإثارة هذا القدر من الحماس.

نالت رئيسة البلاد الجديدة لتوها تفويضا انتخابيا غير مسبوق: 63.4 في المئة من الأصوات، وهي أعلى نسبة يحصل عليها أي رئيس أيرلندي منذ تأسيس المنصب عام 1938

ومع ذلك، فإن فوزها الكاسح يوحي بكاريزما خفية، لا تقل تأثيرا عن تلك التي تمتع بها سلفها، مايكل دي هيغينز، الذي شغل المنصب لأربعة عشر عاما.

لن يكون من السهل على أي أحد، ملء الفراغ الذي تركه هيغينز، الذي كان تركه للمنصب مفروغا منه، لأن الدستور الأيرلندي لا يسمح بأكثر من ولايتين رئاسيتين. إنه شخصية يسهل التعرف عليها فورا: جناحان أفقيان من الشعر الأبيض، يبرزان من جانبي رأس أصلع، يمنحانه هيئة عالم مجنون. لكنه في الواقع يساري صريح، وشاعر له دواوين منشورة.

فرقة "ذا سو دوكتورز"، وهي فرقة "الفولك روك" الشهيرة، ألفت أغنية احتفاء بانتخابه، تصفه فيها بأنه شاعر السلام، وتدعو الشعب للغناء والرقص احتفالا بوصوله إلى الرئاسة.
لقد حان الوقت، وهذه فرصتنا

لنغنِّ ونبتسمْ، لننهضْ ونرقصْ

لقد نال المنصب، لا أحد أفضل منه

الحياة تنبض فيك يا مايكل، افعل كل ما بوسعك

لدينا مايكل دي يهز البرلمان من أجلنا

مايكل دي يهز البرلمان

أ.ف.ب
الرئيسة المنتخبة كاثرين كونولي بعد إعلان فوزها بالانتخابات الرئاسية الأيرلندية في قلعة دبلن في دبلن في 25 أكتوبر 2025.

وبعد أربعة عشر عاما في المنصب، لا يزال هيغينز يحظى بمكانة محببة لدى عامة الناس، وربما لا يوجد دليل أكثر طرافة على ذلك من استخدام صورته في تصميم أغطية إبريق الشاي، وهم الشعب الذي يتفوق حتى على الإنجليز في عشقهم للشاي.

لكن هيغينز لم يكن وديعا حين يستفز، فقد أثار غضب الاقتصاديين حين هاجم النيوليبرالية، واتهمهم بأنهم مهووسون بالنمو والاستهلاك، وغير ملتزمين بما يكفي بالسياسات البيئية. أما الاقتصاديون، فردوا عليه بأنه عالق في سبعينات القرن الماضي، ونصحوه بأن يتفاعل معهم أكثر.

ثم ها هي كونولي، التي عليها الآن أن تشق طريقها الخاص في أعلى هرم النظام الأيرلندي. البروفيسور ديفيد كيني من كلية ترينيتي في دبلن، المتخصص في القانون الدستوري، وصف الرئاسة بأنها ضمير الأمة، وأضاف أن صعود كونولي، قد يعكس تحولا في قيم الناخبين الأيرلنديين نحو مرشحين أكثر صراحة في قضايا معينة، وربما نحو مرشحين من اليسار.

انتماؤها اليساري لا يمكن إنكاره، ومع ذلك، قد يكون هذا في حد ذاته امتدادا لتقليد قائم، فمنذ عقود، أصبحت الآراء المثيرة للجدل، جزءا من المشهد الرئاسي. والمرأتان اللتان سبقتا كونولي في المنصب، كانتا أيضا من ذوي الميول اليسارية، ولم تترددا في إثارة الجدل.

ومن المفارقات أن إسرائيل كانت ولا تزال محورا متكررا للخلاف، ويذكر أن الرئيسة السابقة ماري روبنسون تولت بعد أن غادرت الرئاسة منصب مفوضة سامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وترأست ماري روبنسون مؤتمر ديربان العالمي لمناهضة العنصرية في جنوب أفريقيا.

صعود كونولي قد يعكس تحولا في قيم الناخبين الأيرلنديين نحو مرشحين أكثر صراحة في قضايا معينة، وربما نحو مرشحين من اليسار

وفي مقال ساخر، اقترح الكاتب مايكل روبن محاكمتها بتهمة ارتكاب جرائم حرب، متهما إياها بأنها أشرفت على مجزرة فكرية ضد اليهود وإسرائيل.

وبالمثل، وقعت ماري مكاليز في مأزق كبير بعد حضورها مراسم إحياء الذكرى الستين لتحرير معسكر أوشفيتز، إذ قارنت الطريقة التي يربى بها بعض الأطفال البروتستانت في أيرلندا الشمالية على كراهية الكاثوليك، بالطريقة التي شجع بها الأطفال الأوروبيون على مدى أجيال، على كراهية اليهود. وقد أثارت هذه التصريحات غضب السياسيين الوحدويين في الشمال، واضطرت مكاليز لاحقا إلى الاعتذار، معترفة بأن تصريحاتها كانت غير متوازنة، لأنها انتقدت جانبا واحدا فقط من الانقسام الطائفي.

وهكذا، فإن الرؤساء الأوائل في أيرلندا كانوا شديدي التحفظ في تصريحاتهم، وغالبا ما كانوا يخضعون خطبهم لمراجعة الحكومة قبل إلقائها، لكن ماري روبنسون، وماري مكاليز، ومايكل دي هيغينز، استفادوا إلى أقصى حد من حقهم الدستوري في التعبير المستقل دون إذن مسبق. وقد تميزت مكاليز على وجه الخصوص بكثرة ظهورها في المقابلات التلفزيونية والإذاعية المباشرة.

ومع ذلك، فإن العرف السياسي يقتضي أن يتجنب الرئيس توجيه انتقادات مباشرة للحكومة القائمة. أما كاثرين كونولي، فقد أعلنت أنها لن تتحدث إلا عندما ترى أن ذلك ضروري، وهي صيغة تترك لها هامشا واسعا للتأويل.

رويترز
شخص يرتدي سترة عليها رسالة دعما للمرشحة الرئاسية المستقلة كاثرين كونولي، أثناء عملية فرز الأصوات، في دبلن، أيرلندا، 25 أكتوبر 2025.

وتعطينا تصريحاتها السابقة فكرة عن القضايا التي قد تختار الخوض فيها، فكثير منها ينسجم مع المزاج العام في البلاد. ففي قضية غزة، على سبيل المثال، انتقدت كونولي أفعال الجيش الإسرائيلي، وهاجمت الحكومات الغربية التي تواصل بيع الأسلحة لإسرائيل، قائلة إن دولا مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لا يمكن الوثوق بها، لأنها غارقة حتى النخاع في صناعة السلاح، التي تزرع الموت في أنحاء العالم.

كما أثارت الجدل حين قارنت زيادة الإنفاق العسكري في ألمانيا، بما جرى في ثلاثينات القرن الماضي، مشيرة إلى إعادة التسلح في عهد النازية، ومحذرة من تغول المجمع الصناعي العسكري. وقد قوبلت هذه التصريحات بانتقادات حادة من السفير الألماني في أيرلندا، ورئيس الوزراء ميشال مارتن، ما يوحي بأنها لم تستخلص العبر من المقارنة المثيرة للجدل التي أطلقتها مكاليز من قبل.

وفي لهجة تذكر بانتقادات هيغينز للاقتصاديين، وصفت كونولي الاتحاد الأوروبي بأنه يتبنى أجندة نيوليبرالية صارخة. وفي معرض حديثها عن الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي، قالت إن الحكومة الأيرلندية شاركت بفاعلية في مشروع الخوف الذي سعى إلى إخافة الناخبين البريطانيين، ودفعهم إلى البقاء. لكنها أضافت أنه، على الرغم من محاولة فرض نتيجة محددة، فإن الناخبين لم يخدعوا، وخلال الخطاب نفسه، أشارت إلى وجود عجز ديمقراطي داخل الاتحاد الأوروبي، حيث لا يسمح بإبداء المعارضة حيال مسألة العضوية.

أما موقفها من غزة، فقد ظل ثابتا. ففي أبريل 2025، صرخت في البرلمان الأيرلندي: "أتحدى الجميع، وبينهم أنا، أن نقف لننهي الإبادة الجماعية التي ترتكب باسمنا، لأننا متواطئون"

أما موقفها من غزة، فقد ظل ثابتا. ففي أبريل/نيسان 2025، صرخت في البرلمان الأيرلندي: "أتحدى الجميع، وبينهم أنا، أن نقف لننهي الإبادة الجماعية التي ترتكب باسمنا، لأننا متواطئون". وبما أن أيرلندا كانت من أوائل الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية، وعارضت قصف غزة، فإن هذه التصريحات تتماشى إلى حد كبير مع السياسة الرسمية.

وبالمثل، فإن انتقادها لدعوات الاتحاد الأوروبي إلى زيادة الإنفاق العسكري لا يعد خروجا عن المألوف، فأيرلندا بلد محايد، ومن الطبيعي أن يتوقع من رئيسها رفض عسكرة البلاد.

السؤال الحقيقي هو: هل ستضبط كونولي نبرة خطابها الآن وقد أصبحت على رأس الدولة؟ ما أعرفه أنه من الواضح أن بوب غيلدوف، لم يكن مناسبا على الأرجح لهذا الدور المتزن، لكن هل ستكون كونولي أكثر استعدادا للامتثال لمتطلبات المنصب الاحتفالي؟

المرأة العصامية

مثلها مثل سلفها، تنحدر كاثرين كونولي من خلفية بسيطة، وقد دخلت معترك السياسة الوطنية في وقت متأخر نسبيا. إنها واحدة من أسرة مكونة من أربعة عشر ولدا، سبعة ذكور وسبع إناث، ولدت عام 1957 ونشأت في حي شانتالا الشعبي، أحد أكبر المجمعات السكنية في مدينة غالواي آنذاك. توفيت والدتها وهي في الثالثة والأربعين من عمرها، وكانت كونولي لا تزال في التاسعة، وتولى والدها، وهو نجار تحول لاحقا إلى مقاول بناء، مسؤولية تربية الأبناء، بمساعدة بناته الأكبر سنا.

وفي مقابلاتها، تحدثت كونولي بصراحة عن تشكل وعيها الاجتماعي في سنوات المراهقة، من خلال العمل التطوعي، مع فيلق مريم ثم جمعية مالطة. وقد وصفت نفسها بأنها كانت تجاهد أكاديميا، إذ حصلت على شهادة البكالوريوس في علم النفس من جامعة "غالواي" في أواخر السبعينات، ثم نالت درجة الماجستير من جامعة "ليدز" عام 1981.

أ.ف.ب
كاثرين كونولي أثناء وصولها إلى قلعة دبلن، بعد إعلان فوزها في الانتخابات الرئاسية الأيرلندية المقررة في دبلن في 25 أكتوبر 2025

عملت كإخصائية نفسية سريرية لعدة سنوات، قبل أن تعود إلى مقاعد الدراسة لدراسة القانون، وتتأهل كمحامية في عام 1991.

ولم تدخل معترك السياسة الوطنية إلا في سن السابعة والخمسين، بعد أن أمضت سبعة عشر عاما كعضو في المجلس المحلي. ولكن بدايتها المتأخرة لم تعق انطلاقتها السريعة، بل اللافتة. فقد تمكنت من هزيمة مرشح حزب "فاين غايل" الأكبر حجما في انتخابات منصب لياس كين كومهيرلي، ثاني أعلى منصب في البرلمان الأيرلندي.

ويعتقد البروفيسور غاري مورفي من جامعة "مدينة دبلن" أن أداء كونولي في ذلك المنصب كفيل بطمأنة من يخشون أن تكون ماركسية راديكالية، قد تسللت إلى الرئاسة. أما زميله البروفيسور كيفن رافتر، فيرى أن كونولي ستضطر إلى احترام حدود المنصب، لكنه يضيف أن لديها الآن منبرا لم تحظ به من قبل. ويشير إلى أن الحكمة تقتضي أن لا تسعى إلى صدامات يومية أو أسبوعية مع الحكومة، بل أن تختار معاركها بعناية. ويضيف: "قد تكون العلاقة بين الرئيس والحكومة غير مريحة بعض الشيء، لكنها يمكن أن تسير".

وقد بدأ التركيز بالفعل على اجتماعاتها الشهرية مع رئيس الوزراء الأيرلندي، الذي يعد من الناحية التقنية الرسمية مرؤوسا لها. ويرى رافتر أن التحدي يكمن في حسن استخدام المنصب، فالمهارة تكمن في استغلال المنصة بفعالية، مع إدراك حدود المنصب غير السياسي، والاستفادة من رمزيته وسلطته الناعمة، كما فعل أسلافها الثلاثة الذين سبقوها.

وخلال المناظرة التلفزيونية الأخيرة على قناة "RTE" ذُكِّرت كونولي بأنها اتهمت دونالد ترمب بالمساهمة في الإبادة الجماعية. وعندما سئلت عما ستقوله للرئيس الأميركي إذا زار أيرلندا، أجابت: "إذا كانت زيارة مجاملة، فسأبادلها بالمثل. أما إذا كان الحديث عن الإبادة، فذاك أمر مختلف تماما". (صحيفة "آيرش تايمز"- 27 أكتوبر/تشرين الأول). وقد تكون لحظات كهذه هي التي ترى فيها كونولي أنه من الضروري أن تتكلم.

عادة ما تبنى ملامح السياسيين على أقوالهم وأفعالهم السابقة، لكن في حالة كونولي، قد تكون القصة الحقيقية لم تبدأ بعد. فلعلها تسير على نهج من سبقوها، مع بعض الخروج العرضي عن البروتوكول، وربما تفاجئ الجميع وتشق طريقها الخاص، فمع كل رئيس جديد، تبقى اللحظات الأهم هي تلك التي ستأتي لاحقا، في المستقبل.

font change