إسرائيل والحوثيون... مناورات أم عود على بدء؟

 أ ف ب
أ ف ب
مؤيدون للحوثي يرفعون صورة للمسؤول العسكري في الجماعة، محمد الغماري اثناء تجمع للتنديد بالهجمات الاسرائيلية على اليمن في 17 اكتوبر

إسرائيل والحوثيون... مناورات أم عود على بدء؟

لم تكد جماعة الحوثيين الموالية لإيران في اليمن تفرغ من محاولتها، بعد حرب غزة من تغيير اتجاه بوصلتها نحو الدعوة للعودة إلى "مسار السلام" الذي لم تؤمن به في أي يوم من وجهة نظر كثيرين حول العالم، حتى هرع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلى إعادة تشغيل اسطوانته المشروخة للسجال والتهديد والوعيد للجماعة، مؤكدا أنها رغم الضربات الجوية الماحقة التي تلقتها لا تزال "تشكل تهديدا كبيرا لإسرائيل" متهما الجماعة بأنها لا تزال منهمكة في إنتاج الصواريخ البالستية وأسلحة أخرى، وهذ أمر قابل للتطور في إطار "خطة لتدمير إسرائيل".

وتعهد نتنياهو في حديث متلفز خلال اجتماع للحكومة الإسرائيلية ببذل ما بوسع بلاده بهدف "القضاء على هذا التهديد".

الأمر إذن لم ينته بعد، والحساب لا يزال مفتوحا بصرف النظر عما يحدث في غزة، ومرهون بمدى تطور النزاع بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل ومعهما القوى الغربية الأخرى، وإن كان يتمثل في جانب منه بتصفية ذلك الحساب مع الحوثيين من قبل إسرائيل حيث كان وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس توعد الحوثيين منذ أيام بأن إسرائيل "لم تحسم أمرها مع اليمن بعد" وأن "الحوثيين سوف يدفعون ثمنا باهظا" على حد قوله.

وقد جاءت هذه التصريحات، في ضوء عجز ميناء ايلات الإسرائيلي عن استئناف نشاطه جراء الحصار الذي تفرضه جماعة الحوثيين على حرية الملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب، برغم مساعي إدارة الميناء في التواصل مع الولايات المتحدة ودول إقليمية أخرى لممارسة ضغط على الحوثيين لرفع هذا الخصار.

ماذا وراء دعوة الحوثيين للسلام؟

من وجهة نظر تحليلية اتفق خبراء وباحثون في إسرائيل والمنطقة العربية على حد سواء على أن الدعوة الحوثية للسلام لا تعدو أن تكون مجرد تكتيك مرحلي أو هروب للأمام يخفي وراءه انشغال الحوثيين، بشكل حثيث، بالعمل على تطوير قدراتهم العسكرية اعتمادا على قدراتهم الذاتية، خصوصا بعد أن تكبدوا خسائر مادية كبيرة خلال المواجهات السابقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وبعد أن تقطعت تقريبا كل سبل الإمداد المالي وطرق تهريب الأسلحة من إيران.

‏قطعا، لا نعلم الكثير عن مجموع سلاح الحوثيين الذي كان في الأصل مزيجا من السلاح الذي تم نهبه والاستيلاء عليه من مخازن ومستودعات الجيش اليمني السابق إضافة إلى ما تراكم لدى الجماعة من السلاح الإيراني المهرب أو المصنع لاحقا داخل الأراضي اليمنية.

‏ولا ندري كذلك ما الذي بقي من هذا السلاح بعد أن تم استهدافه خلال الغارات الأميركية والإسرائيلية على المواقع التي يعتقد بوجود ذلك السلاح بداخلها، لكن الأرجح أن الأميركيين ومعهم الإسرائيليون يعرفون الكثير عن ذلك، وأن الجميع لا يعرف حتما ما بقي من ذلك السلاح وماذا تم أو يجري تطويره من أسلحة جديدة.

‏من المعروف أن عمليات تهريب السلاح أو تخزينه والاحتفاظ به في مواقع مجهولة داخل الأراضي اليمنية اعتمد على برامج عالية السرية يجهلها حتى كثير من القيادة الوسطى للجماعة، وسار الأمر على هذا النحو حتى اليوم وربما زاد قليلا بعد الاختراقات الأمنية الخطيرة التي تمكنت منها قوات الجيش الأميركي وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، من تدمير جزء كبير من الأسلحة.

ما من مرة لجأت فيها جماعة الحوثيين إلى اتباع طرق التمويه والتخفي من أجل التغطية على عمل آخر تقوم به إلا ونجحت في الأمرين معا

ما هي خيارات الجماعة؟


خيارات عديدة قد يلجأ الحوثيون إلى أحدها بحسب ما تقتضيه احتمالات عودة المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل ومعها الولايات المتحدة، أو في حال تعثرت جهود سلطنة عمان لاحتواء التصعيد الحوثي في كل الاتجاهات.
أحد هذه الخيارات هي العودة للاقتتال مع خصومها في الداخل، الحكومة اليمنية الشرعية وحلفائها الكثر، القبليون وغيرهم، حيث لم تكف الجماعة يوما عن استحداث مواقع قتالية جديدة على مختلف خطوط التماس مع هؤلاء الخصوم، سيما في محافظات تعز وسط البلاد ومأرب والجوف إلى الشمال الشرقي منها، كما لم تتوقف الاشتباكات المتقطعة في خرق سافر للهدنة الهشة القائمة، وهنا يحذر مراقبون من مغبة أي مخاطرة كهذه على الجماعة قبل غيرها، خصوصا بعد الضربات الأميركية والإسرائيلية العنيفة التي أفقدتها الكثير من مصادر دخلها وتمويل مجهودها الحربي.

من جنازة المسؤول العسكري الحوثي محمد الغماري في صنعاء في 25 اكتوبر أ ف ب

ثاني هذه الخيارات، أن يعود الحوثيون إلى التصعيد مع الغرب تحت أي ذريعة، إذ شدد زعيم الجماعة، عبد الملك الحوثي، في أكثر من مناسبة على الاستعداد  لجولات قادمة من الصراع مع إسرائيل، مؤكدا استمرار تطوير القدرات العسكرية للجماعة التي تتخذ من معاداة الغرب "عقيدة" راسخة كما يعبر عن ذلك شعارها "الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود"، وهنا لا يهم الحوثيين أي كلفة لهذه المواجهة، فهم لا يدفعون أصلا هذه الكلفة بل يتحملها اليمنيون المدنيون العاديون من مقدراتهم وأصول بنيتهم المدنية التحتية.
أما الخيار الثالث وهو الأضعف أو الأقل احتمالا، فهو أن تعود جماعة الحوثيين إلى التحرش بالدول المجاورة مما يترك باب الرد العنيف مفتوحا.

أساليب التمويه والتخفي


‏ما من مرة لجأت فيها جماعة الحوثيين إلى اتباع طرق التمويه والتخفي من أجل التغطية على عمل آخر تقوم به إلا ونجحت في الأمرين معا، وذلك منذ تحول تمردها وحروبها ضد الدولة من "مظلومية" أقر بها واعتذر عنها الجميع لاحقا، تفاديا للمزيد من سفك الدماء، إلى تمرد صريح مدعوم وممول من جارة الجيران البعيدة إيران، فيما اعتبر الجوار ذلك شيئا ثنائيا بين صنعاء وطهران.

أمام اليمن المترامي الأطراف وشعبه الفقير المتنامي المتزايد الحاجات ربما لم يجد الرئيس الراحل صالح خيارا أفضل للتعامل مع محافظة صعدة، معقل الحوثيين، من تسييرها لا تطويرها

ولطالما كانت عوامل الجدة والغرابة والابتكار هي أهم عناصر ذلك المشروع التمويهي المستلهم أصلا من تجربة الثورة الإيرانية وحرسها الثوري، حيث تم في البدء تجنيد المئات من الشباب اليمنيين واستقدامهم إلى محافظة صعدة شمال البلاد ضمن برامج تأهيلية وتعبوية جرت في الغالب على أساس الانتماء السلالي والمذهبي، ومن ثم إلحاق النابهين في تلك البرامج بمشاريع تدريبية في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت قبل أن يتحول الأمر إلى ميدان عمل علني بين إيران والحوثيين، بدت فيه الجماعة نسخة أخرى من "حزب الله"، شمل مجالات تدريب غير عسكرية، تنظيمية ومعلوماتية وسياسية وإعلامية ضمت معها معارضين جنوبيين للرئيس اليمني الراحل.

أ ف ب
دخان فوق العاصمة اليمنية صنعاء بعد غارة اسرائيلية في 24 اغسطس

يبدي اليوم الكثير من سكان العاصمة (المختطفة) صنعاء الكثير من الدهشة كيف أنهم لم يدركوا أن شبانا من جيرانهم القادمين من بعض محافظات الشمال الغربي كانوا خلايا وقادة في الجماعة الحوثية إلا بعد استهدافهم والإعلان من قبل الحوثيين عن "ارتقائهم" في معركة "الفتح الموعود" مع أعداء الإسلام داخل العاصمة صنعاء وخارجها، ويستبد الخوف اليوم بأغلب سكان المدينة خشية من تجدد المواجهة بين إسرائيل والجماعة.

خلفية تاريخية


أمام اليمن المترامي الأطراف وشعبه الفقير المتنامي المتزايد الحاجات ربما لم يجد الرئيس الراحل صالح خيارا أفضل للتعامل مع محافظة صعدة، معقل الحوثيين، من تسييرها لا تطويرها ومن الحفاظ على ما هو قائم فيها خيرا من تدميره. لكن دوام الحال من المحال إذ قام ذلك طوال معظم فترات عهده على ‏حلول معالجاته الشخصية محل الدولة وحضوره مكان المؤسسات ما أدى إلى فساد أنتج بدوره صراعا مريرا في عموم البلاد خلال احتجاجات ما عرف بالربيع العربي العام 2011 واضطراره إلى التنحي في العام الذي يليه، ولا بد أنه أراد أن يضرب القوى المتنازعة على وراثة حكمه ببعضها، وقد اختار لسوء حظه دعم جماعة الحوثيين والتحالف معها، ظنا منه أنه سوف يكون قادرا على التحكم بها وترويضها، ما أفقده الكثير من ثقة غالبية سكان البلاد، وأضعف موقفه العسكري والسياسي لينتهي الأمر بمقتله على يد هذه الجماعة التي تحالف معها.

font change