الولايات المتحدة في الفراغ الاستراتيجي الأفريقي

أنت ترى ما تفهم (مثل أفريقي)

أ ف ب
أ ف ب
مسؤول من الحكومة البوروندية يتحدث الى لاجئين وصلوا من الكونغو يتنظرون الحصول على مساعدة غذائية من الدفعة الاخيرة من مساعدات وكالة التنمية الاميركية قرب بوغندا في 6 مايو

الولايات المتحدة في الفراغ الاستراتيجي الأفريقي

في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2025، أعلن المبعوث الرئاسي الأميركي ستيف ويتكوف أن إدارة دونالد ترمب تعمل على التوسط في محادثات بين الجزائر والمغرب، أملا في التوصل إلى اتفاق سلام في غضون شهرين. ظاهريا، بدا الأمر مذهلا، وربما استراتيجيا. لكن وللأسف، سلط هذا الإعلان الضوء على الفراغ الاستراتيجي في السياسة الأميركية تجاه أفريقيا، حيث يحل التيسير محل الاستراتيجية، والتصريحات محل الأفعال.

كان وصول إدارة ترمب إلى الساحة الأفريقية مثل "فرقعة الفشار" صاخب ومتلاحق كموجة اضطرابات نجمت عن محاولات تفكيك إرث عهد بايدن. حيث عُلّق العمل بالكثير من البرامج أو أغلق ببساطة، وأصيبت أقسام وزارة الخارجية المعنية بأفريقيا بشلل جزئي، وتجمدت عمليات "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" في جميع أنحاء القارة فعليا.

بيد أن إيقاف "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (USAID) لم يمحُ كل التبعات. فإلى جانب انعدام كفاءتها المزمن، أصبحت الوكالة أرضا خصبة لشرائح من النخب السياسية الأفريقية. وبدلا من تعزيز المؤسسات، عملت على تعزيز استياء بنيوي: عداء دفين ولكنه مستمر تجاه الوجود الأميركي، حتى في ظل البرامج التي بدت على الورق كأنها تسعى لتقديم المنفعة.

بدأت استراتيجية واشنطن الجديدة تجاه أفريقيا بالتبلور خلال عام 2025، مع محطات رمزية فارقة: كاتفاق السلام في يونيو/حزيران بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا، والقمة المصغرة مع دول أفريقيا الأطلسية في يوليو/تموز، وإعادة هيكلة القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) في أغسطس/آب. وتجسدت مبادئ هذه الاستراتيجية الأساسية في شعارات عملية مثل: "التجارة بدل المساعدات"، و"الموارد من أجل الأمن"، و"الاستثمار من أجل الولاء". وهذه الشعارات البراقة ما هي إلا عبارات طموحة وخاوية في الوقت نفسه، فهي لا تعدو كونها إعادة صياغة للتدخل دون معالجة نقاط الضعف الهيكلية التي لطالما قوضت السياسة الأميركية.

عادت المواجهات المسلحة في شمال الكونغو لتتصدر المشهد، وتلاشت وعود واشنطن بشأن هيكلية ما بعد الاتفاق في البيانات الصحافية

الولايات المتحدة تملك بالفعل استراتيجية تجاه أفريقيا وهي استراتيجية أميركا لدول أفريقيا الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، التي اعتُمدت لأول مرة عام 2020، وجرى تحديثها في عهد بايدن عام 2023. أما نسخة ترمب لعام 2025، فهي ليست استراتيجية جديدة بقدر ما هي "إعادة تشغيل تجميلية": مجرد وثيقة أعيد إصدارها، خالية من أي جوهر عملي. وعلى أرض الواقع، ما هي إلا كراسة لتصريحات منفصلة، ومشاريع تجريبية، وبرامج محلية، مع غياب لأي أهداف واضحة، أو أدوات عملية، أو آليات تنسيق حقيقية. 
تبدو مفاهيم "الاستثمار- التأمين- التأثير" نموذجا تسويقيا أوليا أكثر منها مبدأ استراتيجيا. حتى مبلغ الـ550 مليون دولار الذي تعهدت به إدارة ترمب عام 2025 لممر لوبيتو في أنغولا ليس سوى استمرار لإرث الإدارات السابقة، يقدم إمكانية الاستمرارية دون أفكار جديدة أو ابتكار.
ولئن ظل النظام الأميركي بارعا في صياغة الاستراتيجيات، فقد خسر قدرته على تحويلها إلى واقع ملموس، وحلت التصريحات الرنانة محل العمل المؤسسي، فانتهى الأمر بشلل عملي متخفٍ في صورة استراتيجية مشرقة. وهو ما تجلى بوضوح في "صفقة" ترمب في الكونغو، وهي حالة من السلام التبادلي، حيث عومل السلام كصفقة لا كنهج. وبقي الاتفاق حبرا على ورق، مفتقرا لأي إطار تنفيذي أو آليات قابلة للتطبيق على الأرض. وبحلول أكتوبر 2025، عادت المواجهات المسلحة في شمال الكونغو لتتصدر المشهد، وتلاشت وعود واشنطن بشأن هيكلية ما بعد الاتفاق في البيانات الصحافية.
منذ أوائل عام 2025، تردد كبار المسؤولين من وزارة الخارجية والبنتاغون ودوائر الأعمال الأميركية إلى العواصم الأفريقية، والتقوا بنظرائهم هناك. وتصدرت تلك الزيارات عناوين الصحف التي احتفت بتجدد الاهتمام الأميركي، إلا أن غياب النتائج الملموسة يوحي بأن تلك الزيارات كانت رمزية إلى حد كبير، كما لو أن الرحلات نفسها أصبحت هي الهدف المنشود.
على أرض الواقع، تواجه المؤسسات الأميركية ما يمكن تسميته "متلازمة الحريش– أو قانون هامفري"، أي عدم اليقين بشأن أي خطوة ينبغي اتخاذها أولا. وتذكرنا الفجوات المؤسسية بحكاية كريلوف "البجعة وسمكة الرمح وجراد البحر"، حيث يسحب كل طرف الشبكة في اتجاهه بدلا من العمل معا لتحقيق الهدف المشترك: فوزارة الخارجية، مثل البجعة، تصب جلَّ اهتمامها على الدبلوماسية والتحالفات والمنافسة مع الصين وروسيا وتعزيز القيم؛ بينما تتجه القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم)، مثل جراد البحر، نحو اتخاذ إجراءات حازمة، تتعارض مع الدبلوماسية أحيانا؛ أما مؤسسة تمويل التنمية الدولية الأميركية، مثل سمكة الرمح، فهي تصبو إلى إنجاز استثمارات مربحة بعيدا عن المخاطرة واحتمالات الخسارة. وعلى الرغم من تحالف هذه الهيئات الثلاث رسميا، إلا أنها تعمل وفقا لمنطق وعصور وثقافات إدارية مختلفة.

النخب الأفريقية اليوم هي نخب تكنوقراطية، مترابطة عالميا، ومنسجمة مع التوجهات السائدة في مختلف أنحاء الجنوب العالمي وآسيا والشرق الأوسط

تكمن المشكلة الجوهرية في أن إدارة ترمب، رغم نأيها بنفسها عن النهج السابق، ورثت بنية متجذرة من الاستخفاف المؤسسي بأفريقيا. وهذا التشويه المعرفي والمفاهيمي يرى في القارة موضوعا يمكن التأثير به واستغلاله، وليس شريكا فاعلا. فواشنطن، كعهدها دائما، تتصرف كما لو أن أفريقيا مجموعة من المساحات الخاضعة للسيطرة، باتباع منطق "التحكم في العمليات"، في حين تعمل السياسة الأفريقية في ظل سيادة موزعة، إذ تفرض الدول سيطرتها بشكل متزايد على مجالات مختلفة. وجاء طرد القوات الأميركية من النيجر ليؤكد أن أفريقيا لم تعد خاضعة للسيطرة الخارجية. فهي تحدد من يُسمح له بالوجود على أراضيها وتحت أي ظروف، مستغلة تنافس القوى العظمى لمصلحتها الخاصة.
ومما لا شك فيه أن التحيز المعرفي يشوه التصور الأميركي. فأفريقيا لا يُنظر إليها كما هي حقيقة، بل من خلال صور نمطية بالية لا ترى فيها إلا منطقة أزمات، أو خزانا للموارد والثروات، أو ساحة للتنافس بين القوى العظمى. وهذا التصور الخاطئ يشكل حجر عثرة أمام أي استراتيجيات تتلاءم مع الواقع. وغالبا ما تثبت مراكز الأبحاث والمراكز الفكرية عدم جدواها: حيث تقلل الجهات الفاعلة من قيمة مخرجاتها، وتفشل المعرفة في أن تُترجم إلى استراتيجيات مجدية، بل تتحول إلى مناهج اعتباطية تطبق على الجميع بغض النظر عن خصائصهم الفريدة في ظل  مجموعة من التصورات الخاطئة ما يعيد إلى الأذهان "سرير بروكرست" والأسطورة اليونانية لرجل كان يمط ضحاياه أو يقطع أوصالهم لجعل أجسادهم تتناسب مع طول سريره ذاك.

أف ب
مدخل مدينة العيون في الصحراء الغربية في 6 نوفمبر

ويتجلى هذا العمى المعرفي بوضوح في الممارسة العملية. حيث تستمر واشنطن في لعب دور الوسيط الخارجي، ولا تتدخل إلا في الأزمات فقط؛ سواء في النزاعات المسلحة أو الكوارث الإنسانية. وينتج عن هذا النهج على أرض الواقع "فقاعات أمنية" وهي مناطق استقرار خاضعة للإدارة والتحكم، معزولة عن الاقتصادات والمؤسسات الوطنية، لتكون نموذجا للسيطرة الخارجية دون تنمية داخلية.
تتجه السياسة الأميركية نحو إرساء المزيد من التيسير؛ من خلال إنشاء منصات للتفاوض، وتنظيم الحوارات، ومراقبة العمليات، وتقديم الدعم الرسمي. وتسعى واشنطن إلى تطبيق نفوذ دون استثمار، وفرض توجيه للدفة دون تحمل المسؤولية. إنها استراتيجية بديلة مناسبة، تسمح لها بالبقاء "في اللعبة" دون التزام. غير أن تيسير العمليات التي لا تملك الولايات المتحدة أي نفوذ أو أدوات عليها هو ضرب من المستحيل، وخاصة في ظل الاضطرابات التي تشهدها أفريقيا.
وعندما يجتمع هذا النهج، الذي يفتقر أساسا إلى القدرة والنية، مع الطابع الإعلاني للبيانات والمبادرات، يصبح زائدا عن الحاجة وغير مثمر. فأفريقيا تحتاج شريكا استراتيجيا قادرا على حل المشكلات، أكثر من حاجتها إلى وسيط خارجي أو مدير للأزمات.
إن النخب الأفريقية اليوم هي نخب تكنوقراطية، مترابطة عالميا، ومنسجمة مع التوجهات السائدة في مختلف أنحاء الجنوب العالمي وآسيا والشرق الأوسط. وهي ترى وتفهم أكثر وأعمق مما تعترف به الروايات الرسمية. فوراء خطاب الشراكة الأميركي ثمة إحجام ملموس عن تقاسم عبء التنمية.
ونتيجة لكل ما سبق، غالبا ما تستغل الحكومات الأفريقية النهج التصريحي والتيسيري الذي تنتهجه واشنطن من أجل اكتساب الشرعية والضمانات المؤقتة والفضاء السياسي الآمن، وتطلق في الوقت نفسه إشارات تحذير حول تراجع مكانة أفريقيا في التسلسل الهرمي لأولويات الولايات المتحدة.

ما لم يغير البيت الأبيض نهجه، فستبقى الولايات المتحدة دخيلة على قارة تتآكل فيها قدرتها على ممارسة النفوذ بشكل مطرد

في تسعينات القرن الماضي وأوائل القرن الحادي والعشرين، كانت أميركا رمز "العالم المفتوح" بالنسبة لأفريقيا وبوابتها نحو المستقبل، من خلال المنح الدراسية والتكنولوجيا والشركات الناشئة. أما اليوم، فحتى الدول المتحالفة تقليديا مع الولايات المتحدة (مثل كينيا ونيجيريا وغانا والسنغال) تسعى إلى تنويع علاقاتها وتعميقها مع كل من الصين وروسيا ودول الخليج. فأفريقيا لم تعد ترى في واشنطن الضامن الوحيد للاستقرار؛ بل أصبحت هذه المهمة من نصيب جهات فاعلة تقدم انخراطا ومشاركة أكثر وضوحا وواقعية.

 أ ف ب
الموفد الاميركي الخاص ستيف ويتكوف يتحدث امام منتدى الاعمال الاميركي في ميامي في 6 نوفمبر

فالتوسع الاقتصادي الصيني الشامل، ونهج تركيا المرن الذي يجمع بين التعاون الإنساني والتجاري والعسكري التقني، واستثمارات دول الخليج وخدماتها المصرفية الإسلامية، وصادرات روسيا الأمنية، كلها حقائق ملموسة في أفريقيا: مطلوبة، ومتطورة، ومتنامية. وفي الجهة المقابلة لا ترقى مبادرات واشنطن إلا لتكون مسرحا إعلاميا صاخبا: ضجيج من المعلومات يحاكي الحضور حيث تغيب المشاركة الاستراتيجية الجوهرية.
ولعل أفريقيا تحولت اليوم إلى مسرح لمعركة معرفية؛ صراع على الإدراك والتفسير وشرعية التأثير. وفي هذه المعركة، يبدو أن الولايات المتحدة تتعرض للخسارة: فقد حولها التيسير والمبادرات الإعلانية والاستخفاف المستمر إلى مجرد مراقب لا إلى مشارك فاعل.
وما لم يغير البيت الأبيض نهجه، فستبقى الولايات المتحدة دخيلة على قارة تتآكل فيها قدرتها على ممارسة النفوذ بشكل مطرد.
وباستعارة لكلمات ألبير كامو، سيحتاج دونالد ترمب إلى قفزة إيمان وشجاعة حقيقية للإقدام على الخطوة الأولى دون أي ضمانات. ما يعني إعادة صياغة السياسة الأميركية في أفريقيا، ومعالجة المفاهيم المعرفية الخاطئة، وإرساء آليات وأدوات قابلة للتطبيق.
وفي نهاية المطاف ثمة سؤال مشرّع على أكثر من إجابة: هل يشكل هذا الأمر أولوية في السياسة الخارجية الأميركية؟

font change