الجزائر بين عجز الموازنة وإصلاح الاقتصاد... مسار متعثر نحو الاستدامة المالية

135 مليار دولار الإنفاق الإجمالي والعجز يصل إلى 74 مليار دولار والإصلاح الضريبي في مقدمة الأولويات

المجلة
المجلة

الجزائر بين عجز الموازنة وإصلاح الاقتصاد... مسار متعثر نحو الاستدامة المالية

تتكرر أسئلة ملحة سنويا في الجزائر عند صدور مشروع قانون المالية العامة، في مقدمها: ما أسباب العجز في الموازنة؟ وما الإجراءات الواجب اتخاذها لخفض العجز ومعالجته في المستقبل القريب، من دون اللجوء إلى خيارات مؤلمة وقاسية قد تضر بأصحاب الدخول الثابتة وتؤدي إلى انخفاض مستويات المعيشة؟

تعد موازنة الجزائر لعام 2026 الأكبر في تاريخ البلاد، حيث ستتجاوز 135 مليار دولار. وسجلت ارتفاعا قياسيا في الإنفاق على الدفاع العسكري. ووفق نص المشروع المطروح حاليا على طاولة البرلمان، لا تزال النفقات العامة موجهة بشكل كبير نحو القطاعات الاستراتيجية ذات الأولوية. وتتصدر وزارة الدفاع هذه الموازنة بإنفاق قدره 3,505 تريليون دينار، أي ما يعادل نحو 24 مليار دولار، أي ربع الإنفاق العام للبلاد تقريبا.

ويكرس مشروع الموازنة الحالي الطابع الاجتماعي للدولة الجزائرية، الذي انتهجته منذ بداية الألفية ويتضمن دعما مباشرا وغير مباشر لتغطية جوانب مختلفة مثل الإسكان والمواد الغذائية. وتتوزع أبرز مظاهر هذا الدعم على النحو التالي:

1- الإعانات للمنتجات ذات الاستهلاك الواسع، على غرار الحبوب والحليب والماء المحلى والطاقة والسكر والزيت والقهوة، بمبلغ يقارب 657 مليار دينار (نحو 5 مليارات دولار).

2- التحويلات الموجهة للأفراد المقدرة بـ2,284 مليار دينار (17,57 مليار دولار) ، وتشمل منحة البطالة بـ420 مليار دينار (3,23 مليارات دولار) يستفيد منها أكثر من 2,18 مليون شخص، بالإضافة إلى معاشات التقاعد ومنتسباتها بـ424 مليار دينار (3,26 مليارات دولار).

يعزى عجز الموازنة، إلى عامل رئيس، هو تفاقم الأعباء المالية للدولة في مقابل تراجع الإيرادات نتيجة انخفاض صادرات النفط، التي تشكل الدعامة الأساسية لاقتصاد الجزائر وتمثل نحو ثلثي الإنتاج الوطني

3- الدعم الموجه للمؤسسات العامة والهيئات تحت الوصاية بقيمة 2,812 مليار دينار (21,63 مليار دولار)، منها 1,768 مليار دينار (13,60 مليار دولار) للمؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري.

تضاف إلى ذلك كتلة الأجور لعام 2026، التي تقدر بـ 5,926 مليارات دينار (45,58 مليار دولار).

ما هي أسباب عجز الموازنة؟

يتوقع أن تسجل موازنة الدولة للسنة المقبلة عجزا مقداره 9,62 تريليونات دينار، أي ما يعادل 54,6 في المئة من حجم الموازنة، وهو ما يمثل أيضا 27 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ويوازي هذا العجز 74 مليار دولار، مقارنة بـ62 مليار دولار في عام 2025، وهو ناتج من الفارق بين الإنفاق الجاري والإيرادات الجارية، مع ملاحظة زيادة الإنفاق الحكومي مقارنة بالإيرادات الحالية.

أ.ب.
مجلس النواب الجزائري في العاصمة الجزائر، 28 يونيو 2017

 الأرقام المالية الواردة في تقرير عرض مشروع قانون المالية 2026، تبعث على القلق، وقد شكلت محورا رئيسا للنقاش خلال جلسة مناقشة المشروع التي انعقدت في مبنى البرلمان الجزائري منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي. ومن المداخلات التي رصدت، ما جاء على لسان النائب أحمد بلجيلالي، الذي قال:

"ما يهمنا كثيرا اليوم كنواب هو الرصيد السلبي للموازنة العامة للدولة"، وسأل: "ما هي الخيارات المتاحة للقضاء على عجز الموازنة؟".

قبل المضي قدما في البحث عن إجابات شافية لهذا السؤال، سنستعرض أولا أسباب عجز الموازنة، التي تعزى إلى عامل رئيس، وهو تفاقم الأعباء المالية للدولة في مقابل تراجع الإيرادات نتيجة انخفاض صادرات النفط، التي تشكل الدعامة الأساسية لاقتصاد الجزائر وتمثل نحو ثلثي الإنتاج الوطني. ومن المتوقع أن يسجل قطاع المحروقات وتيرة نمو محدودة للغاية تكاد تعكس حالة ركود فعلي، حيث تشير التقديرات المبدئية إلى تراجع حجم صادرات المحروقات تدريجيا بنسبة 2 في المئة عام 2026، ثم 0,5 في المئة عام 2027، يليه انخفاض بنسبة 2,7 في المئة عام 2028. وتقابل هذا التراجع زيادة في الإنفاق العسكري وارتفاع المدفوعات التحويلية لتمويل الخدمات الاجتماعية وإعانة البطالة.

من بين الخيارات التي لجأت إليها الحكومة، إصدار صكوك إسلامية سيادية بقيمة تبلغ نحو 2,3 مليار دولار، انطلاقا من الشهر الجاري

أقرت الجزائر صراحة بحالة "عدم اليقين" السائدة في المشهد الدولي، الذي تتسم ملامحه بتوترات جيوسياسية مستمرة وتقلبات متزايدة في الأسواق المالية، إلى جانب تصاعد النزاعات التجارية، خصوصا بين الولايات المتحدة والصين. وتظل هذه العوامل مجتمعة تثقل كاهل التجارة العالمية وتقيد فرص النمو الاقتصادي.

وتتضافر أسباب أخرى لعجز الموازنة، أبرزها التهرب الضريبي الناجم عن وجود العديد من الثغرات في تشريع الجباية الحالي، إضافة إلى اتساع رقعة الاقتصاد الموازي، المعروف بكثرة النشاطات غير المشروعة التي تحقق لأصحابها دخولا مرتفعة لكنها لا تخضع للضرائب. ويمكن أيضا الإشارة إلى أن عائدات ضريبة الثروة لا تزال الأضعف تحصيلا في الجزائر، حيث لا تتجاوز 0,02 في المئة من الضرائب المباشرة المحصلة، وفق تقرير التقييم لمجلس المحاسبة، السلطة المستقلة العليا للرقابة عن بعد على أموال الدولة والجماعات الإقليمية والمؤسسات العمومية.

لماذا تستدين الخزينة من البنك المركزي؟

في محاولة لتصحيح هذا الخلل المالي، لجأت الحكومة، وللعام الثاني على التوالي، إلى رفع نسبة اقتراض الخزينة العمومية من البنك المركزي للجزائر من 10 في المئة إلى 20 في المئة، من موارد موازنة الدولة المعتمدة في السنة الماضية. كما تم تمديد الفترة الزمنية لهذا الاقتراض من 240 يوما (أي نحو 8 أشهر) الى سنة كاملة، مع إمكان تمديدها سنة إضافية.

المجلة

وتعد هذه الخطوة أول تعديل لقانون النقد والمصارف الصادر منذ عامين فقط (القانون رقم 23_09، المنشور في العدد 43 من الجريدة الرسمية بتاريخ 27 يونيو/حزيران 2023). ومع ذلك، يسود اتجاه نحو التشاؤم بين بعض الخبراء الاقتصاديين، إذ يعد هذا التعديل بداية العودة التدريجية إلى ما يعرف بـ"التمويل غير التقليدي"، ولو بصورة جزئية، وهي خطوة غير مرغوب فيها على الإطلاق، خصوصا في ظل ارتفاع الدين العام الداخلي.

ومن بين الخيارات الأخرى التي لجأت إليها الحكومة، إصدار صكوك إسلامية سيادية بقيمة تبلغ نحو 2,3 مليار دولار، انطلاقا من الشهر الجاري. وتندرج هذه الصكوك ضمن صكوك الإجارة الخاصة بحق الانتفاع بأصول عقارية مملوكة للدولة لمدة 7 سنوات، لتسترجع الدولة بعد ذلك هذا الحق. وستطرح الصكوك بفئتين: 100 ألف دينار ومليون دينار، بعائد سنوي قدره 6 في المئة، معفاة من كل الضرائب وفقا للتشريعات الجزائرية.

يعتبر إصدار الصكوك الإسلامية السيادية الأضخم في تاريخ الجزائر، ويدخل في إطار تنويع مصادر التمويل للدولة

سليمان ناصر، باحث في مجال المصارف والاقتصاد الإسلامي والصيرفة الإسلامية

لكن يبدو أن الخبراء غير متفائلين حيال هذه الخطوة. في هذا السياق، وصف الباحث في مجال المصارف والاقتصاد الإسلامي والصيرفة الإسلامية، سليمان ناصر، هذا الإصدار بـ"الضخم، كونه يمثل أول إصدار للصكوك الإسلامية السيادية في تاريخ الجزائر، ويدخل في إطار تنويع مصادر التمويل للحكومة. ولكن حتى لو فرضنا أن الاكتتاب كان كاملا وتم تحصيل كامل المبلغ، فهو لا يغطي سوى نسبة 3,7 في المئة من العجز الكبير في موازنة 2025 البالغ 62 مليار دولار".

هناك مجموعة من العراقيل التي تحول دون بلوغ الهدف المنشود من هذه العملية. يشير ناصر إلى أن "قطاعا واسعا من الجزائريين لا يزال يشكك في مشروعية كل مكونات المالية الإسلامية، سواء الصيرفة الإسلامية أو التأمين التكافلي أو الصكوك الإسلامية، وذلك بسبب فتاوى صادرة من الخارج أو من فقهاء لا يمتلكون الإلمام الكافي بفقه المعاملات المالية، أو بسبب بعض الممارسات في السوق، مثل ارتفاع هامش ربح المصرف في معاملات الصيرفة الإسلامية، على الرغم من أن القرار ينص على أن هذه الصكوك المزمع إصدارها ستكون معتمدة من قبل الهيئة الشرعية الوطنية بالمجلس الإسلامي الأعلى. وهذا ما قد يجعل الحصيلة ضعيفة إذا لم يعالج هذا الإشكال".

ترشيد الإنفاق وتعزيز الاستثمار

وبما أن الرئيس الجزائري كان قد انتقد بشدة سياسة "طبع الدينار"، التي انتهجها النظام السابق في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لتمويل الاقتصاد وسد العجز المالي، والأمر نفسه ينطبق على الاقتراض الخارجي، إذ أكد مرارا استحالة اللجوء للاستدانة الخارجية، لم يتبق أمام الحكومة الجزائرية سوى وضع سياسة مالية طويلة الأمد، ترتكز على الحفاظ على موازنة مالية مستدامة وغير نفطية، تهدف إلى تحقيق التوازن بين الإيرادات والنفقات على المدى الطويل.

Shutterstock
العملة الجزائرية في الميزان

ولتحقيق ذلك، ينبغي تعزيز الإصلاح الضريبي وتوسيع قاعدة الطاقة الضريبية، إلى جانب ترشيد الإنفاق العام، أي رفع كفاءة الإنفاق الحكومي من خلال تحسين إدارة المشاريع الكبرى. والأهم من ذلك، تنمية الإنفاق الاستثماري وترشيد زيادة الإنفاق العام، خصوصا في فترات ارتفاع أسعار النفط.

وقد برزت مؤشرات في القانون المؤطر للسنة المالية المقبلة توحي بتوجه الحكومة نحو تقليص الإنفاق العام والسيطرة على المصروفات والاستهلاك، في ظل سياق اقتصادي يواجه تحديات كبيرة وضغوطا على الموازنة. ويشرح سليمان ناصر هذا التوجه في حديثه الى "المجلة"، قائلا: "نسبة تنفيذ النفقات في قانون الموازنة الحالي تقدر بنحو 70 في المئة، مما يعني أنه إذا كانت النفقات المقررة تبلغ نحو 17 تريليون دينار، أي ما يعادل نحو 136 مليار دولار، فإن ما سيستهلك فعليا سيكون في حدود 12 تريليون دينار، وهو ما قد يخفف إلى حد ما حدة عجز الموازنة العامة".

font change

مقالات ذات صلة