جدران شادي أبو سعدة السائرة نحو أمل غائم

"مهاجرون" معرضه الجديد في بيروت

Mark Hachem Gallery
Mark Hachem Gallery
لوحة لشادي أبو سعدة

جدران شادي أبو سعدة السائرة نحو أمل غائم

في معرضه الجديد "مهاجرون" (صالة "مارك هاشم") في بيروت، يتابع الفنان السوري شادي أبو سعدة سرد قصص الجدران التي عرفها منذ طفولته في سوريا حتى لحظة مغادرتها خلال الحرب. وكان عبر السنوات الماضية أوغل في نقل سرديات الجدران حتى باتت مشيدات سحرية أو صفحات مفعمة بالرمزيات، تحولت بدورها إلى ما يشبه خامة للبوح بكل ما تبعثر في نفس الفنان، ورغب في ترتيبه وتجسيده في لوحاته.

لم تعد تلك الجدران سائرة نحو الأمل بالخلاص فحسب، بل غدت أشبه بحياة افتراضية تعيش وتتبلور على هامش الحياة الواقعية في سوريا، ويعيشها هو كفنان في صميم تجربته الوجودية في لبنان، ثم في ألمانيا.

كانت أعمال أبو سعدة السابقة تشي بانشغال ذهنه وقلبه بمعنى مرور الزمن وأثره الفتاك في المكان، وبسعيه الدائم لاستنباط الفرح البسيط. ذلك الفرح، جسده في لوحات ظهر فيها فتيان منهمكون في ضروب من اللهو الطفولي، يتخيلون ألعابا لا يملكونها، إما بسبب الحرب أو الفقر. ذلك كله حضر على خلفيات جدران متصدعة تقشر سطحها بفعل الرطوبة، أو أصيبت بشظايا قذائف أو طلقات نارية.

أحلام

اليوم، يبدو أن أبو سعدة وهب أولئك الفتية والفتيات في لوحاته بعضا مما اشتاقوا إليه أو حلموا به. سيجد الناظر إلى الأعمال صعوبة في تحديد العناصر المتحركة في اللوحات: أهم الأولاد المنهمكون بأعمالهم البسيطة، أم هي الجدران؟ ليخلص إلى أن الفنان أبدع في خلق اتحاد ما بين الثابت في المبدأ والمتحول في الفعل.

حركة الدولاب حول ذاته تذكرني بالمهاجر الذي غادر بلاده قسرا، ولا يزال يتساءل عن هويته وكيف سيصبح وأين سيستقر

اللافت في المعرض أن الفنان أدخل  عنصر الدولاب إلى معظم لوحاته الجديدة. ذكره أو رؤيته، يحيلان أي شخص يعيش في المناطق المنكوبة من الشرق الأوسط إلى رائحته الكريهة حين يحترق، وإلى السخام الذي يلتصق بكل ما يبلغه. إنه اختناق الفضاء المحيط، واختناق النفس. أما حضور الدولاب في بعض لوحات الفنان السابقة، وتكاثره في أعماله الجديدة، فله دلالات مغايرة، على الأقل ظاهريا، إذ يبدو حمالا لمعان إضافية في معرض "مهاجرون" تتجاوز كونه مجرد لعبة بين أيدي الأولاد.

Mark Hachem Gallery
عمل فني لشادي أبو سعدة

عن هذه المغايرة يقول الفنان لـ"المجلة": "سابقا، كنت أستخدم الدولاب، لكن رمزيته اختلفت في هذا المعرض، إذ تحول من عنصر استهلاكي إلى عنصر دلالي بهيئته الدائرية التي تحيلنا إلى نقطة التقاء البداية مع النهاية. تلك النقطة المشتركة تذكرنا بالحياة. أضف إلى ذلك، أن حركة الدولاب الدائرية حول ذاته تذكرني بالمهاجر الذي غادر بلاده قسرا، ولا يزال يتساءل عن هويته وكيف سيصبح وأين سيستقر نهائيا".

الفرح الحزين

في معارضه السابقة، تغيرت ملامح شخوص أبو سعدة، وكان يعزو ذلك إلى تبدل الأشخاص في حياته اليومية. وفي هذا السياق، لا بد أن نتذكر أنه انتقل من سوريا إلى لبنان، ومن لبنان إلى ألمانيا. أما في معرضه الجديد، فيلاحظ الناظر إلى لوحاته أن الشخوص باتت، وبشكل أوضح، لا تنتمي إلى بلد دون آخر، بل هي أقرب إلى ما رسمه في معرضه السابق المعنون بـ"حلم ظل على الجدار"، حيث حضر الفرح ولو طفيفا، لدى أفراد يملكون تطلعات أساسية وأحلاما مشتركة.

ولكن ماذا بالنسبة لهذه الأحلام؟ هل تحقق بعضها أم كلها؟ هل باتت الشخوص سعيدة في تحقيقها لهذه الأحلام؟ أم أنها تلعب دور السعادة في تحركات أوتوماتيكية بعد فقدانها الأمل وبالتالي الرغبة في تحقيق الأحلام؟ أم هي تحولت إلى أوهام مركبة من فرح مبتور ورغبة فقدت بوصلتها؟ لعلنا وجدنا إجابة تقريبية في ما ذكره الفنان في البيان الصحافي المرافق للمعرض. من ناحية، وفي ملامح الوجوه وتفاعلها الغرائبي بعض الشيء مع خلفيات اللوحات من ناحية أخرى، يكتب شادي أبو سعدة في البيان الصحافي: "لم أختر أن أبتعد أو أن أبقى في مكاني، ولم تكن المسافة التي قطعتها مجرد طريق بين نقطتين، بل عبور بين تناقضات هذا الزمن، حيث تتبعثر أوراقنا كلما حاولنا ترتيبها، تحت وطأة سياسات لا ترحم. بعيدا من مشاهد الحروب والدمار، أتحدث هنا عن طريق الهجرة، عن المسافة التي لا تقاس بالأميال، بل بما نخلفه وراءنا من ذكريات على الأرصفة والمحطات.

أما في معرضه الجديد، وبعد مرور سنوات، فيبدو الواقع قد تغير، غير أن الناظر يكتشف أن هذا التبدل ظاهري فقط، إذ باتت شخوصه سجينة مخاوف وقلق متعاظم، من داخل شحنات لونية تتراوح وتيرتها بين الخفوت والاحتدام. حول هذا الحزن المحمول بالفرح، أخبرنا الفنان: "عندما كنت ألتقي أشخاصا يتحدثون معي عن تجربة الهجرة القسرية، كنت أرى ابتسامات على وجوههم، ابتسامات كأنها دليل على شعورهم بأنهم وصلوا إلى بداية تحقيق أحلامهم. لذلك صورت في لوحاتي ذكرياتهم كظلال بدا على بعضها أثر السعادة والراحة".

Mark Hachem Gallery
لوحة لشادي أبو سعدة

نحو الشمس

في المعرض، بدت لوحة واحدة مختلفة عن سائر اللوحات، إذ تقف فيها مجموعة من الأشخاص المتشابهين، يرتدون ثيابا شبه بيضاء. تتخلل هاماتهم المشبعة بالصمت سيقان أزهار تشبه دوار الشمس من حيث الشكل، لكن لا من حيث اللون. ما يميز هذه الأزهار أن كل واحدة منها تلتفت نحو وجهة مختلفة. أحببنا أن نطلق على هذه اللوحة عنوان "البوصلة"، رغم أنها بوصلة مشكوك في أمرها. عن هذه اللوحة يقول أبو سعدة: "هذه اللوحة هي الوحيدة التي أردتها أن تكون مختلفة عن باقي اللوحات. وقد وضعت لها عنوان 'نحو الشمس'. رسمت فيها لحظة وصول المهاجرين إلى بر الآمان وصورتهم كأزهار دوار الشمس التي تدير رؤوسها بحثا عن النور".


يبدو أن أبطال لوحات أبو سعدة يتذكرون، في إطار معرضه الجديد وبشكل جلي، "آخر الألعاب التي لعبوها" وآخر الانهماكات والأحلام أيضا

لم تعد الشخوص في هذه اللوحات هلامية بيضاء أو شفافية شبحية، ولا حليقة الشعر كما في معظم أعماله السابقة، بل اكتسبت ملامح أوضح، وبدت مكونة من السخام والدخان الملون بأصباغ فاقعة ومحروقة. لعبة تشكيلية مميزة برع الفنان في الالتفاف على قوانينها، ليخترق بشخوصه الخلفية اللونية للوحات، مانحا إياهم القدرة على العودة منها إلى الواجهة، ولكن في وهج تداخلهم البصري مع العنصر الوحيد الحاضر في جميع اللوحات (عدا لوحة "نحو الشمس")، وأعني به الدولاب، بتوسعه أو تعاظمه أو حتى ركاكة حضوره في لوحة دون أخرى.

Mark Hachem Gallery
من أعمال شادي أبو سعدة

يبدو أن أبطال لوحات أبو سعدة يتذكرون، في إطار معرضه الجديد وبشكل جلي، "آخر الألعاب التي لعبوها" وآخر الانهماكات والأحلام أيضا. في إحدى اللوحات، يبدو أحد الأولاد منشغلا بـ"استعراض" قطعة بطيخ شديدة الحمرة أمام ظلال شخوص من الماضي في الخلفية، وهو واحد منهم. أما في لوحة أخرى، فيظهر ظلا فتاة وصبي يمسكان احدهما بيد الآخر، ويتأملان بصمت دواليب أنهت مهمتها وارتمت أرضا.

Mark Hachem Gallery
عمل لشادي أبو سعدة

أبطال لوحاته يبدون أكثر حضورا وأكثر رغبة في الانفتاح على مستقبل بشّر به الفنان. لكن، هل استطاع عبر لوحاته ومنحوتته الوحيدة لدراجة هوائية مستغنية عن استخدام دواليبها، أن يحقق ما أراده من مشاهد معرضه السابق حين قال: "أعود وأقول حطموا جدرانكم واتبعوني... إنه مجرد حلم؟". سؤال لا تمكن الإجابة عنه بسهولة، لكن يحلو التأمل فيه.

font change

مقالات ذات صلة