رحيل أسعد عرابي معلم النقد ورسام الأمكنة القلقة

اللبناني الدمشقي المهموم بالحداثة العربية

فيسبوك
فيسبوك
الفنان أسعد عرابي

رحيل أسعد عرابي معلم النقد ورسام الأمكنة القلقة

تلتقيه رساما غير أن تلتقيه ناقدا. ارتباك الرسام وقلقه لا يذكران بثقة الناقد وقوة حيلته. في الحالين فإن الفنان اللبناني الدمشقي الفرنسي أسعد عرابي (1941-2025) الذي فقدته الحياة الثقافية العربية يوم أمس كان يبدو متوترا ومشدودا ومنضبطا ودقيقا في حركته وهو يرسم، كما في كلماته حين يكتب، وهذا ما تعلمه من الدرس الأكاديمي يوم درس الفلسفة.

بين مدينتين وحضارتين

رسام على قدر كبير من الغنائية الحزينة، وناقد يبحث في الأصول الكلاسيكية عن أسرار الجمال الحي. لغته التعبيرية في الرسم تكشف عن جرأة وحرية استثنائتين في تناول الموضوعات الاجتماعية والسياسية، على الرغم من أنه كان يحن بين حين وآخر إلى التجريد الذي يضفي على نزعته التعبيرية طابعا تأمليا هو أقرب إلى شطحات المتصوفة التي لم تقف بينه وبين الالتفات إلى ما هو عابر ويومي وزائل من وقائع.

لوحاته "مرويات دمشقية" تمزج قوة الصورة بما يرافقها من همس عاشق. هناك بلاد تتشكل على سطوح لوحاته كما في ذاكرته، هي ما تبقى من حياة عاشها على عجل قبل أن ينفتح على العالم بثقافته الشاسعة لينظر من شباك شقته في ديفانس (الضاحية الباريسية) إلى العالم باعتباره مدينة من زجاج.

ما أن يلقي المرء نظرة إلى لوحاته حتى يتأكد أنه ورث من المحترف الفني السوري ما لم يرثه إلا القلة ممن تربوا في أحضان ذلك المحترف: صلابة في البناء التصويري وشاعرية في التعبير الحر.

ما لم يختره أسعد عرابي أن يكون سوريا على الرغم من أصوله اللبنانية. "ما الفرق؟" سيتساءل البعض. الفرق يظهر حين يكون المرء فنانا. أما أن يكون ذلك المرء أسعد عرابي، فإن شبهة التخلي ستلاحقه. فالمحترف الفني اللبناني لا يمت بصلة إلى المحترف السوري. هما محترفان مختلفا المزاج والأفكار والرؤى والأساليب.

بمرور الوقت صار عرابي دمشقيا أكثر مما كان عليه في الماضي على الرغم من تلك الأربعين سنة الباريسية التي فصلته عن دمشق

كان عرابي مخلصا لما تعلمه في دمشق، لا على مستوى التقنية بل أيضا على مستوى النظر إلى الحياة. بمرور الوقت صار عرابي دمشقيا أكثر مما كان عليه في الماضي على الرغم من تلك الأربعين سنة الباريسية التي فصلته عن دمشق.

ليس الشخص نفسه دائما

"كما يهرب الناس من وحدتهم، فقد قُدر لي أن أهرب من المكان الذي أتعلق به. هذا هو شأني مع مدن الوجدان، دمشق وصيدا"، يقول اسعد عرابي الذي ولد في دمشق عام 1941 في عائلة لبنانية.

الفنان والناقد اللبناني الفرنسي الدكتور أسعد عرابي

بالنسبة إليه لم يكن هناك شيء مؤكد، حتى سنة ولادته. غير أن ذكريات طفولته الدمشقية تعود إلى ما قبل عام 1948 حين عاش في كنف عائلة أمه التي تنتسب إلى "البهلول"، الأخ الزاهد والمتصوف للخليفة العباسي هارون الرشيد.

في الخامسة عشرة اكتشف الرسم الذي سلمه إلى عالم لا يزال يتوارى بمقتنياته خلف حجب من ضباب. عام 1966 أنهى دراسة الرسم في جامعة دمشق، ليتوزع وقته بين التدريس في الجامعة نفسها والتنقل بين صيدا وبيروت، حيث أتيحت له فرصة العرض في "غاليري وان" والقرب من الشاعر يوسف الخال.

عام 1976 سيشد الرحال إلى باريس في بعثة لإكمال دراسته الفنية. ومنذ ذلك الحين إلى وفاته وهو يقيم هناك. على الرغم من حصوله على شهادة الدكتوراه في علم الجمال وفلسفة الفن، فإنه عمل قليلا في التدريس  الجامعي، وأحيانا كان يتعاون مع مؤسسات، حرص دائما على أن ينشر مقالا أسبوعيا عن الفن في غير صحيفة عربية، وفي المقابل رسم كثيرا، بل يمكن اعتباره واحدا من أكثر الرسامين العرب غزارة وتنوعا في الأساليب، إذ أنه فضل التفرغ للفن على الرغم من صعوبة ذلك الخيار على المستوى المادي.

حرص الفنان بحكم دربته في الكتابة وتمكنه من الدرس الفلسفي على توثيق خبرته في الفن من خلال كتاباته، إن في الصحف أو في مؤلفاته التي يقف كتابه "وجوه الحداثة في اللوحة العربي" الذي صدر في الشارقة بالإمارات العربية المتحدة عام 1999 في مقدمتها، تلاه كتاباه "معنى الحداثة في اللوحة العربية" (2006) و"صدمة الحداثة في اللوحة العربية" (2009)

يمكن اعتباره واحدا من أكثر الرسامين العرب غزارة وتنوعا في الأساليب، إذ أنه فضل التفرغ للفن على الرغم من صعوبة ذلك الخيار

يقول عرابي: "أسعى جهدي ما استطعت ألا أسلك طريقا كنت طرقته سابقا"، وهو ما يعني أن الفنان الذي عرفته في أوقات سابقة في مرسمه بدمشق هو ليس الشخص نفسه الذي التقيته آخر مرة في غربته الباريسية التي صارت وطنا. أما حين التقيته في البحرين عام 2019 وقد خصص جناح كبير لأعماله في المعرض السنوي، فكان في أشد حالاته قلقا. كان لا يقوى على إخفاء مزاجه القلق حين يعرض رسومه في مكان عام.

لم تخدش الحرب شغفه بالحياة                   

غير مرة، وقف عرابي أمام الموت وجها لوجه، وهو ما جعله يتأمل تجربته في الحياة باعتبارها مجموعة متلاحقة من الوقائع التي لا تتكرر. "أبتدئ اللوحة من حدث تشكيلي صدفوي عابر يقترح المرحلة الثانية بالتداعي قبل ان أتوقف عند المحطة الأبلغ احتداما". وهو ما يعني أن الفنان كان يبدأ تأسيس لوحته على قاعدة شكلية منضبطة تقع خارج ما ينوي التفكير فيه شكليا، ثم يأخذ كل شيء مجراه في اتجاه الموضوع الذي يشغل حيزا من خياله في مرحلة رسم تلك اللوحة.

أم كلثوم تغنّي أمام السنباطي والقصبجي، أكريليك على قماش، 2010

الموضوع هو ما لا يتكرر لدى عرابي، فكل مرحلة موضوعها، غير أن بنية لوحته تظل واحدة، وهي بنية تنتمي إلى المرحلة التي لم تفك فيها الحداثة علاقتها بالاصول الحرفية للرسم. لا يزال هناك الشيء الكثير من بول سيزان في لوحات عرابي، على الاقل على مستوى البناء الرصين والمحكم، على الرغم من أن خبرة الفنان بالموت جعلته يقبل بشيء من التشظي الذي لا يقع خارج سيطرته.

ولأن عرابي يرى لوحته من موقعين، من داخل الرسم ومن خارجه، فإن حرصه على متانة البناء الشكلي لا يتعارض كثيرا مع رغبته في الهروب من قواعد الرسم. وهو ما منح أعماله قوة تعبيرية صادمة. أليس ذلك كفيلا تفسير قدرة رسومه على أن تبقي جمالياتها نضرة في تأثيرها، متشنجة في انفعالها؟

كائنات عرابي المسكونة بمصيرها تشبه رسامها الذي سعى إلى وصف تيهه الشخصي. ستظل تلك الكائنات تذكرنا به وهي وصيته

تأملته وهو يقف أمام أبطاله النازحين في آخر  سلسلة من أعماله مثل طفل لا يملك أجوبة عن الأسئلة التي تتدفق من عينيه مبتلة بالدموع. شعرت أنه يفتح طريقا جديدا للوحته بعد أن لوح لأولئك الهاربين من الجحيم السورية بيده. لم تخدش الحرب مرآة شغفه المطلق بالحياة. لقد تعلم من الموت أن يكون أقوى مما يتوقع.

في التجريد والتشخيص

في أقصى تجريدياته صفاء، ظل أسعد عرابي ممسكا بخيط رفيع يقود إلى الإنسان. وفي المقابل فإن رسومه التشخيصية تغص بالمساحات التجريدية التي يختبر من خلالها سبل معالجته لموضوعاته. في الحالين انتقل عرابي بخفة واسترسال كأنه كان يفعل الشيء نفسه. فالفنان الذي يجد حرية في أن يمد يده إلى إرث الفن الحديث كله باعتباره إرثه الشخصي، وهو محق في ذلك، لا يجد أن المسافة التي تفصل بين التجريد والتشخيص ممكنة النظر. فعرابي بكل ما تنطوي عليه صوره من متعة بصرية، ليس رسام معان، بالرغم من أنه يجازف في الكثير من صوره في القبض على العلاقات الإنسانية، من جهة ما تشكله من أبنية جاهزة، يمكن اتخاذها أساسا لبناء الصورة.

لوحة للفنان أسعد عرابي

ولأن عرابي كان يستلهم في ما يرسم وقائع حية، قد يكون جزء منها متخيلا على الرغم من أن ذلك الجزء كان التحق بالذاكرة واندس بين ثناياها، فإنه حرص على أن يستحضر انفعاله وتوتره لحظة الرسم كما يفعل الرسام الانطباعي وهو يراقب التغير السريع الذي يطرأ على المرئيات بتأثير مباشر من قوى الطبيعة. قوة الرسم لدى هذا الفنان تكمن في تقلب مزاجه. ربما لم تكن حاضرة في ذهنه كل تلك الانقلابات قبل أن يمارس فعل الرسم. بالنسبة إليه فإن الرسم كان يفعل ما يشاء وليس على الرسام سوى أن يقتفي أثره.    

كائنات عرابي المسكونة بمصيرها تشبه رسامها الذي سعى إلى وصف تيهه الشخصي. ستظل تلك الكائنات تذكرنا به وهي وصيته.       

font change

مقالات ذات صلة