مصر تفتح صفحة جديدة لإنعاش المصانع المتعثرة

صندوق استثماري بين المركزي والمصارف الحكومية لإعادة هيكلة ودعم أكثر من 6 آلاف مصنع

المجلة
المجلة

مصر تفتح صفحة جديدة لإنعاش المصانع المتعثرة

أطلقت الحكومة المصرية مبادرة جديدة لدعم وإعادة هيكلة المصانع المتعثرة التي يتجاوز عددها 6 آلاف مصنع، من خلال إنشاء صندوق استثماري يشارك في رأس ماله المصرف المركزي المصري مع المصارف الحكومية، في خطوة تقترب من النماذج الناجحة في بعض الدول الآسيوية التي أعادت تشغيل مصانعها عبر شراكات بين القطاعين المالي والإنتاجي تحت مظلة حكومية منضبطة.

تعكس هذه المبادرة جدية الحكومة في معالجة أحد أبرز التحديات التي تواجه القطاع الصناعي، والمتمثل في ضعف التمويل الناتج من ارتفاع تكاليف الإنتاج وتراجع القدرة التنافسية في الأسواق. كما تسعى إلى مواجهة هذه المشكلات من خلال إعادة تشغيل المصانع التي توقفت أو قلصت إنتاجها بسبب التعثر، في خطوة تهدف إلى طي صفحة أزمة ممتدة منذ أكثر من 14 عاما.

تعد المبادرة خطوة مهمة وضرورية في سبيل حل مشاكل العمالة، ودعم الصادرات، وتعزيز القدرة الصناعية المصرية عبر إعادة تشغيل خطوط إنتاج حقيقية واستثمار رأس مال جديد قوي يشترك فيه القطاع المصرفي والدولة معا، مما يمكن أن يشكل محركا اقتصاديا حيويا لزيادة الطاقة الإنتاجية ورفع معدلات التشغيل، وفي الوقت نفسه يساهم في إعادة الثقة بالقطاع الصناعي وفتح آفاق جديدة للاستثمار وزيادة الصادرات.

تأسيس صندوق استثماري يشارك في رأس ماله عدد من المصارف الحكومية، سيستثمر في المصانع المتعثرة ماليا في مقابل الحصول على حصص في ملكيتها تحدد وفق احتياجات كل مصنع 

هناك العديد من المصانع التي تعاني حاليا من ضغوط الأوضاع الاقتصادية العالمية والمحلية، وقد أوشكت على الدخول في دائرة التعثر، مما تطلب وضع خطة عاجلة لإنقاذها عبر توفير التمويل اللازم، وتيسير الإجراءات، وحل مشاكلها المتعلقة بالمواد الخام وسلاسل الإمداد، وإزالة المعوقات البيروقراطية التي قد تعرقل عودة المصانع إلى الإنتاج بكامل طاقتها.

.أ.ف.ب
صورة جوية لموقع أحد المصانع في خارج القاهرة، 6 يناير 2021

ووفقا لنائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية الصناعية ووزير النقل والصناعة، الفريق كامل الوزير، ستشمل المبادرة تأسيس صندوق استثماري يشارك في رأس ماله عدد من المصارف الحكومية، سيستثمر في المصانع المتعثرة ماليا في مقابل الحصول على حصص في ملكيتها تحدد وفق احتياجات كل مصنع وخطة إعادة تشغيله، على أن يحتفظ الصندوق بحق استرداد أمواله بعد استقرار أوضاع هذه المصانع وعودتها إلى الإنتاج، مما يعكس توازنا بين دعم الصناعة وحماية أموال المستثمرين.

حزمة حوافز واعفاءات

كذلك، أعلنت الحكومة حزمة جديدة من الحوافز الموجهة الى المصانع المتعثرة، تتضمن منحها مهلا تتراوح بين ستة أشهر وثمانية عشر شهرا تبعا لحالة كل مشروع، سواء كان حاصلا على رخصة بناء أو في طور استخراجها، إضافة إلى إعفاءات جزئية أو كلية من غرامات التأخير، بهدف تمكين المستثمرين من استكمال الإنشاءات، وتوفير المعدات، والحصول على التراخيص التشغيلية.

كما سمحت الحكومة بإعادة التعامل على الأراضي التي سبق سحبها من المستثمرين وفق السعر المعتمد حاليا، بما يتيح الاستفادة من التصاميم والدراسات السابقة، ويضمن استمرارية النشاط الصناعي دون انقطاع.

التعثر الحقيقي للمصنع هو فقدان قدرته على الاستمرار بسبب مشاكل مالية أو إدارية أو فنية، بينما يمكن إعادة أي مصنع قابل للإحياء من خلال تحسين الإدارة أو إعادة هيكلة الديون أو تمويل التشغيل

الدكتور محمد فؤاد، عضو لجنة الاقتصاد الكلي الاستشارية لدى مجلس الوزراء

وكانت وزارة الصناعة قد أحصت نحو 11 ألف مصنع متعثر على مستوى البلاد، حلت المشاكل الفنية لنحو 5 آلاف منها، بينما لا يزال نحو 6 آلاف مصنع تواجه صعوبات مالية سيجري التعامل معها من خلال الصندوق الاستثماري. ويرى خبراء اقتصاديون أن نجاح المبادرة رهن شروط عدة، أولها إصدار تعريف قانوني واضح للمصانع المتعثرة وتصنيفها وفق طبيعة المشكلة (مالية، إدارية، فنية)، وثانيها تأسيس وحدة فنية متخصصة لإعادة الهيكلة تضم خبراء من الصناعة والمصارف، تعمل وفق معايير محاسبية وفنية دقيقة، وثالثها تقييم الأصول الإنتاجية قبل ضخ أي تمويل لضمان الجدوى الاقتصادية، ورابعها إشراك القطاع الخاص عبر حوافز استثمارية وضمانات محدودة لتوسيع قاعدة المساهمين.

وضوح الصيغة التنفيذية

يتفق أصحاب المصانع على أن مبادرة التمويل الخاصة بالمصانع المتعثرة تمثل خطوة ضرورية لدعم القطاع الصناعي وإعادة تشغيل المصانع المتوقفة، لكنهم يؤكدون أن نجاحها يتوقف على وضوح الصيغة التنفيذية وتوفير التسهيلات الكافية للمستثمرين وترجمتها إلى آليات عملية تمكن المصانع من استعادة نشاطها. هناك من يرى أن أبرز أسباب التعثر يكمن في صعوبة توفير التمويل في ظل التكلفة المرتفعة، إضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الخام، خصوصا المستورد منها، فضلا عن أثر تعويم الجنيه المصري وارتفاع أسعار المحروقات، مما انعكس سلبا على تكلفة الإنتاج والنقل.

.أ.ف.ب
عامل يخزن البضائع في مصنع للأطعمة في القاهرة، 11 أكتوبر 2016

لكن قبل الحديث عن آليات التنفيذ أو التمويل، تظل الإشكالية الجوهرية في تعريف ما يسمى بالمصنع المتعثر ذاته. من الناحية الاقتصادية، يرى عضو لجنة الاقتصاد الكلي الاستشارية لدى مجلس الوزراء الدكتور محمد فؤاد "أن ليس كل مصنع مغلق يعتبر متعثرا، فالتعثر الحقيقي هو فقدان المنشأة قدرتها على الاستمرار بسبب خلل مالي أو إداري أو فني، مع بقاء أصل إنتاجي قابل للإحياء يمكن إعادته إلى دائرة الإنتاج بتحسين الإدارة أو بإعادة هيكلة المديونية أو بضخ تمويل تشغيل مدروس". ويقول لـ"المجلة": "أما المصانع التي فقدت مقوماتها الإنتاجية بالكامل أو أسواقها، فهي لا تدخل من ضمن هذا المفهوم، ويجب التعامل معها كأصول تحتاج إلى تصفية أو إعادة توظيف، لا إلى تمويل إضافي".

ويفيد فؤاد بأن الدولة تطلق منذ عام 2011 سلسلة من المبادرات لمعالجة الأزمة، بدءا من مبادرات المصرف المركزي مرورا ببرامج وزارية متعاقبة، "لكنها كلها واجهت ثلاث عقبات رئيسة: أولا، غياب قاعدة بيانات دقيقة تحدد نوع التعثر وحجمه، وثانيا، محدودية المحافظ الائتمانية المخصصة لتمويل إعادة التشغيل مقارنة بحجم الاحتياجات الفعلية. وثالثا، ارتفاع أخطار التمويل في ظل ضعف الحوكمة المالية داخل هذه المنشآت. وبذلك تحولت غالبية المبادرات إلى محاولات إسعافية مؤقتة تضخ سيولة من دون تغيير هيكلي في نماذج الإدارة أو التشغيل".

ربط التمويل بتحسين الإنتاجية وإعادة التصدير، وليس بتسديد الديون فقط، إلى جانب توفير حوافز ضريبية وجمركية مؤقتة لتحديث خطوط الإنتاج، وحماية الحقوق والشفافية عبر عقود واضحة والتزام معايير الإفصاح ومكافحة الفساد لضمان ثقة الممولين

الدكتور ياسر العالم، عضو اللجنة الاقتصادية في مجلس الوزراء

ويعد الطرح الجديد الذي أعلنته وزارة الصناعة، والقائم على تأسيس صندوق استثماري تشارك فيه المصارف الحكومية، تحولا نوعيا، إذ ينتقل من منطق منح قروض تفاقم المديونية إلى المشاركة في رأس المال والأخطار، بما يسمح بإعادة هيكلة حقيقية للمصنع بدلا من مجرد تمويله.

.أ.ف.ب
مصانع النسيج والقطن شمال ضواحي القاهرة، 8 أبريل 2014

ويرى خبراء أن الفكرة سليمة من حيث المبدأ وتمثل انتقالا من "التمويل الموقت" إلى "الاستثمار المنتج"، لكنها تحتاج إلى ضبط المفهوم وتحديد المصانع القابلة للإنقاذ من تلك التي استنفدت فرصها، ليصبح المشروع منصة حقيقية لإحياء الصناعة الوطنية واستعادة الثقة في قدرة الدولة على إدارة أصولها الإنتاجية بعقل استثماري لا بيروقراطي.

ارتفاع أخطار التمويل

أما العضو المنتدب في "شركة إيجيبت لينك لوساطة التأمين"، عضو اللجنة الاقتصادية في مجلس الوزراء، الدكتور ياسر العالم، فيؤكد في تصريح إلى "المجلة" "أن الأسباب الحقيقية وراء تعثر المصانع تتوزع بين مشاكل السيولة والتمويل، إذ تتحفظ المصارف عن منح قروض جديدة بسبب ارتفاع أخطار التمويل الناتجة من التعثرات المالية، وبين صغر محافظ الإقراض المخصصة للمصانع، مما يؤدي إلى عجزها عن شراء الخامات أو تشغيل خطوط الإنتاج". كذلك يشير إلى "الديون المتراكمة وضعف هيكلة الأصول، مما يجعل كثيرا من المصانع غير قادرة على الاستمرار، إضافة إلى تقادم خطوط الإنتاج والتكنولوجيا المرتبطة بها وتدني الجودة، فضلا عن المشاكل الإدارية، ونقص الخطط التسويقية والتصديرية، والمشاكل البيئية والتنظيمية والموقعية، وأبرزها وجود مصانع في مناطق غير صناعية وصعوبات في استخراج التراخيص أو نقلها لمناطق منظمة".

ويرى العالم أن مبادرة الصندوق الاستثماري "خطوة صحيحة لمعالجة هذه المشاكل إذا وضعت لها آلية واضحة ومرحلية، فتكون لها قواعد دخول وخروج وتمويل قائم على شراكة مصرفية-حكومية تحت إشراف مجلس إدارة مستقل من الخبراء الصناعيين المتخصصين، مع تقييم فني ومالي دقيق قبل ضخ أي تمويل". كذلك يشدد على ضرورة "ربط التمويل بتحسين الإنتاجية وإعادة التصدير، وليس بتسديد الديون فقط، إلى جانب توفير حوافز ضريبية وجمركية مؤقتة لتحديث خطوط الإنتاج، وحماية الحقوق والشفافية عبر عقود واضحة والتزام معايير الإفصاح ومكافحة الفساد لضمان ثقة الممولين". ويدعو إلى إطلاق برامج تدريب وإحلال تكنولوجي بالشراكة مع مؤسسات تدريب وشركات تكنولوجيا لرفع مستوى التنافسية، وربط المبادرة بسلاسل التوريد المحلية والتصدير لضمان وجود سوق مستقر للمنتجات عبر عقود إمداد أو تسهيل عقود تصدير.

font change

مقالات ذات صلة