المشهد من واشنطن... مأسسة الشراكة السعودية -الأميركيةhttps://www.majalla.com/node/328337/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D9%87%D8%AF-%D9%85%D9%86-%D9%88%D8%A7%D8%B4%D9%86%D8%B7%D9%86-%D9%85%D8%A3%D8%B3%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A9
واشنطن- شهدت العلاقات السعودية-الأميركية، يوم 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، إحدى لحظاتها التاريخية الكبرى، حين حطّت طائرة الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء السعودي، في واشنطن بعد غياب استمر سبع سنوات. لم تكن الزيارة مجرد لقاء دبلوماسي على هامش أجندة دولية، بل كانت عملا رسميا كما وصفها ولي العهد، ومناسبة استثنائية لتدشين ما أطلق عليه الرئيس دونالد ترمب "شراكة مستقبلية".
يمكن النظر للاستقبال المهيب الذي قوبل به الأمير محمد بن سلمان في البيت الأبيض بأنه يعكس رغبة الإدارة الأميركية في طي صفحة بعض التوترات السابقة بين الرياض وواشنطن، وتأكيد العلاقة على أساس المصالح الوطنية المتبادلة، متجاهلة الأصوات الداخلية التي تنتقد العلاقة مع الرياض لأسباب خلافية داخلية على المستوى الحزبي. فمن المعروف أن الصحافة الموالية لكل حزب تغلف انتقاداتها لحكومة الحزب الآخر بمبررات ذات صبغة عقلانية أو أخلاقية بهدف التقليل من إنجازات الحزب الحاكم. وهذا بالضبط ما تفعله الصحافة الموالية للحزب الديمقراطي مع إدارة ترمب. ولعل بعض تعليقات ترمب كانت بمثابة إعلان سياسي لإعادة ترتيب الأولويات الأميركية نحو التركيز على الاستراتيجية والصفقات الكبرى.
استثمار قرابة التريليون دولار في شركات ومشاريع أميركية يخلق شبكة مصالح معقدة داخل الولايات المتحدة، تشمل ولايات رئيسة، وأعضاء كونغرس يمثلون مناطق مستفيدة من هذه الاستثمارات
إنّ الجوهر الفلسفي لهذه الزيارة، والذي بُني على مسودة مفاوضات استمرت لعدة أشهر، هو محاولة الرياض نقل علاقتها مع واشنطن من مستوى "الصفقة الشخصية المؤقتة" التي تميّزت بها حقبة ترمب الأولى، إلى مستوى "المعاهدة المؤسسية الملزمة" التي تتطلب موافقة الكونغرس. هذه النقلة ليست ترفا سياسيا أو تفاوضيا، بل هي متطلب استراتيجي لـ"رؤية 2030" التي تمثل عملية تحوّل شاملة للمملكة، تتطلب بيئة أمنية مستقرة وقابلة للتنبؤ بها على مدى عقود. فالتاريخ الحديث أثبت أن ما يوقّعه رئيس بقرار تنفيذي يمكن لرئيس آخر إلغاؤه بجرّة قلم؛ وتجربة "الاتفاق النووي الإيراني" هي المثال الأبرز لهذا التقلب الدراماتيكي الذي يخلق فراغا استراتيجياً في المنطقة. ولهذا، دفعت السعودية لطلب ضمانة الكونغرس الواضحة، لا وعد البيت الأبيض فقط.
في مقال سابق بـ"المجلة"، أشرنا إلى أن التحالف التاريخي قام على معادلة "النفط مقابل الأمن"، لكن هذه المعادلة أثبتت هشاشتها بعد أن أصبحت واشنطن مستقلة تقريبا على مستوى الطاقة، وبعد حادثة استهداف منشآت بقيق وخريص في 2019، التي أظهرت أن "المظلة الأمنية الضمنية" لم تعد مضمونة بالقدر الكافي. هذا التقلب لم يعد مقبولا بالنسبة لدولة تبني مشروعا بحجم "رؤية 2030".
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الأميركي دونالد ترمب اثناء اجتماعهما في البيت الابيض امس
ولذلك، كان التحدي الرئيس في زيارة نوفمبر 2025 هو، هل نجحت الرياض في استخدام أوراقها الاقتصادية والعسكرية والسياسية لانتزاع الالتزام المؤسسي الدائم، أم اكتفت بصفقات ضخمة مؤقتة؟ هذا المقال يهدف إلى تحليل نتائج الزيارة ضمن إطار الصراع المفاهيمي بين "الصفقة الرئاسية" و"المعاهدة المؤسساتية".
المحور الأول.. الرافعة الاقتصادية
كان البعد الاقتصادي هو الواجهة الأكثر إبهارا في الزيارة، وهو ما يخدم تماما عقلية "الصفقة" التي يتبناها ترمب، ولكنه يخدم في المقابل استراتيجية "المأسسة الاقتصادية" السعودية. فالمنتدى الاستثماري الضخم المشترك في واشنطن يوم 19 نوفمبر، تصحبه إعلانات عن مجموعة من الاتفاقات الاستثمارية المطروحة كحزمة واحدة. وفيما يلي بعض التفاصيل.
صدمة التريليون دولار وتأصيل الالتزامات
لم يكن الخبر الأهم هو الإعلان عن اتفاقات استثمارية سابقة بقيمة600 مليار دولار، بل رفع سقف الالتزام السعودي بالاستثمار في الولايات المتحدة إلى تريليون دولار على مدى أربع سنوات. هذا الحجم الهائل من السيولة، الذي سيتم ضخه عبر صندوق الاستثمارات العامة السعودي (PIF)، يغطي قطاعات استراتيجية أميركية حيوية، مما يعيد تعريف الدور السعودي في الاقتصاد العالمي من مجرد "مُصدّر للنفط" إلى "شريك في التصنيع والابتكار".
خلق شبكة نفوذ اقتصادية وتشريعية
إن استثمار قرابة التريليون دولار في شركات ومشاريع أميركية يخلق شبكة مصالح معقدة داخل الولايات المتحدة، تشمل ولايات رئيسة، وأعضاء كونغرس يمثلون مناطق مستفيدة من هذه الاستثمارات. هذه المصالح المتبادلة لا يمكن تجاهلها أو تجميدها بسهولة من قبل أي إدارة جديدة، مما يشكل بحد ذاته "ضمانة أمنية اقتصادية" للتحالف، حيث يصبح أي تدهور حاد في العلاقات يهدد عشرات الآلاف من الوظائف ومصالح الناخبين. هذا الضغط الاقتصادي الموزع جغرافيا هو الأداة المثلى التي تستخدمها الرياض لتعزيز موقفها في الساحة التشريعية بواشنطن. القوة الاقتصادية هنا لا تكمن في الحجم المالي فحسب، بل في توطين المصالح السعودية في "العمق الأميركي"، مما يجعل الحفاظ على الشراكة أمرا ذا أولوية قصوى بالنسبة للسياسيين المحليين في الكونغرس.
الموافقة على بيع 48 طائرة من طراز "F-35A"، تجعل القوات الجوية السعودية الأولى عربيا التي تمتلك هذه التكنولوجيا المتقدمة
متطلبات رؤية 2030 كضمانة مضادة
"رؤية 2030" السعودية بمشاريعها العملاقة، لا يمكن أن تزدهر إلا في بيئة أمنية مستقرة وقابلة للتنبؤ بها لمدة لا تقل عن ربع قرن. إن استثمار هذا المبلغ في أميركا هو ضغط غير مباشر لانتزاع المعاهدة، لأن السعودية تطلب أقصى درجات اليقين بخصوص استقرار بيئتها الأمنية مقابل هذا الرهان الاستثماري. إنه تفعيل لمقولة "إذا كنا نراهن على مستقبلكم، فيجب أن تضمنوا أمن مستقبلنا". هذا المفهوم يعكس تحولا جذريا في المنهجية السعودية، فبدلا من الاعتماد على الدبلوماسية التقليدية، يتم استخدام قوة رأس المال ورؤية الدولة الحديثة كأدوات تفاوضية في مواجهة التقلب السياسي الأميركي.
الذكاء الاصطناعي والتعاون النووي... نقطة ارتكاز للتحول الجيلي
تضمنت الاتفاقات تفاصيل مهمة تؤكد تحول العلاقة من الاعتماد على النفط إلى التحالف التقني. كانت الموافقة على تسهيل تصدير رقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة، والاستثمارات المشتركة في البنية التحتية الأميركية للذكاء الاصطناعي، خطوة محورية. هذا يضع المملكة في قلب الاقتصاد الرقمي المستقبلي، خاصة في سياق المنافسة الشرسة بين الولايات المتحدة والصين على قيادة هذا القطاع. هذه الاتفاقات التكنولوجية تمثل اعترافا ضمنيا بأن السعودية لم تعد مجرد سوق، بل هي شريك استراتيجي في تقنيات المستقبل، يشارك في حماية سلاسل الإمداد الأميركية ضد النفوذ الآسيوي المتنامي.
أما الاتفاق الأولي للتعاون النووي المدني، فيمثل اعترافا أميركياً بحق السعودية في استغلال الطاقة النووية، ضمن شروط، ويخدم استراتيجيتها لتنويع مزيج الطاقة والحد من الانبعاثات. هذا الإنجاز التكنولوجي والمدني يخدم بشكل مباشر أهداف "رؤية 2030"، ويُعد جزءا من الحزمة التي وضعتها الرياض على الطاولة مقابل الضمانة الأمنية النهائية. الرهان هنا ليس على الطاقة النووية كمسألة تقنية فحسب، بل كرمز للاعتراف بالقوة والتسليم بالاستحقاق الذي يطالب به الشرق الأوسط الجديد.
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان يصل حفل العشاء المقام في البيت الأبيض حيث كان في استقباله الرئيس الأميركي والسيدة الأولى.
نجحت الزيارة في تحقيق "الصفقة" بأعلى مستوياتها، مما يوفر "حافزا" ضخما لترمب، لكنه يظل مجرد دافع للمعاهدة، وليس إبراما كاملا للمعاهدة نفسها. فبينما يرى ترمب في التريليون دولار إنجازا شخصيا، ترى فيه الرياض رافعة مؤسساتية لضمان الاستقرار الاستراتيجي. كما أكد الطرفان التزامهما بزيادة الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة بشكل كبير، مع تعهدات برفع إجمالي الاستثمارات من 600 مليار دولار إلى تريليون دولار، وهي خطوة وصفت بأنها بداية "مرحلة جديدة" للعلاقات بين البلدين، مع التأكيد على التعاون الاستراتيجي والاقتصادي.
المحور الثاني: "إف-35" وتعزيز الردع
يمثل الملف الدفاعي أبرز التطورات وأكثرها جدلا في الزيارة، خاصة بعد الإعلان عن الموافقة النهائية على بيع طائرات "إف-35" الشبحية للمملكة، كجزء من حزمة أسلحة بقيمة142 مليار دولار. هذه الصفقة هي تتويج لمطالب سعودية قديمة بدأت منذ عام 2017، وهي تعكس رغبة واشنطن في إرسال رسالة ردع قوية لإيران.
طائرة "لوكهيد مارتن إف-35 لايتنينغ" هي مقاتلة من الجيل الخامس، وتمثل قفزة نوعية في القدرات العسكرية السعودية. الموافقة على بيع 48 طائرة من طراز "F-35A"، تجعل القوات الجوية السعودية الأولى عربيا التي تمتلك هذه التكنولوجيا المتقدمة.
بالرغم من قدرة ترمب على تسهيل البيع كإجراء تنفيذي، فإن الجوانب الأمنية الحساسة للصفقة يجب أن تخضع لمعايير مؤسسية وتشريعية
سيادة المعلومات والردع
لا تمنح "إف-35" السعودية مجرد تفوق جوي، بل تمنحها تفوقا على المستوى المعلوماتي وقدرة على الردع الاستباقي. فالطائرة، المتكاملة مع أنظمة استشعار ورادارات متطورة (AN/APG-81)، تعمل كـ"مركز قيادة طائر" يمكنه اكتشاف الأهداف وتوجيه العمليات من مسافات آمنة، مما يقلل بشكل كبير من فعالية التهديدات التقليدية وغير التقليدية كالصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة. هذا يعيد تعريف عقيدة الردع السعودية من الاعتماد على "المظلة" الأميركية إلى "القدرة الذاتية على فرض التكلفة" على المعتدي.
تأثير الصفقة على سباق التسلح الإقليمي
على الرغم من أهمية هذه الصفقة لتعزيز الاستقرار في الخليج، فإنها تثير حتما سباق تسلح إقليمي، حيث قد تسعى دول أخرى في المنطقة للحصول على تكنولوجيا مماثلة أو تعزيز دفاعاتها الجوية القديمة. إن التحول إلى الجيل الخامس من المقاتلات يفرض على كافة الفاعلين الإقليميين مراجعة استراتيجياتهم الدفاعية والهجومية.
جانب من حفل العشاء الذي أقيم في البيت الأبيض على شرف ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان
التفوق النوعي الإسرائيلي ومعضلة الصين
الجدل الأمني يكمن في شرط قانون التفوق العسكري النوعي لعام 2008، الذي يلزم الولايات المتحدة بضمان تفوق إسرائيل العسكري على أي دولة أخرى في المنطقة. وهنا تظهر إشكاليتان تواجهان واشنطن:
موقف إسرائيل والترقيات: على الرغم من ترحيب إسرائيل بالتحالف الأميركي-السعودي، فإنها طلبت ضمانات إضافية، مثل ترقية أسطولها من "F-35I" أو تزويدها بأسلحة متقدمة أخرى، لضمان استمرارية تفوقها النوعي. هذا يضع عبئا إضافيا على البيت الأبيض، الذي يجب أن يوازن بين تعزيز حليفيه الرئيسين. فالموافقة على الصفقة السعودية تعني بالضرورة التزاما أميركياً بزيادة القدرات العسكرية الإسرائيلية، لتلبية المتطلبات التشريعية.
عقبة الصين وأمن التكنولوجيا: الشروط الأمنية تضمنت ضمانات سعودية صارمة بعدم نقل التكنولوجيا إلى الصين أو روسيا، مع إمكانية تركيب "مفاتيح الإيقاف" لتعطيل الطائرات في حالة المخالفة. هذه المخاوف ليست نظرية؛ فهناك تقرير استخباراتي أميركي (13 نوفمبر 2025) حذر من خطر سرقة الصين لتكنولوجيا "إف-35"، خاصة بعد انضمام السعودية إلى مجموعة بريكس وتعاملاتها المتزايدة بالعملة الصينية (اليوان). وهذا يضع الرياض أمام تحدٍ كبير يتلخص في حتمية الموازنة بين شراكتها الاقتصادية المتنامية مع بكين وضرورة المحافظة على التوازن الاستراتيجي مع حليفتها واشنطن فيما يتعلق بملف أمن التكنولوجيا.
هذا الجدل يوضح حدود "الصفقة" الرئاسية. فبالرغم من قدرة ترمب على تسهيل البيع كإجراء تنفيذي، فإن الجوانب الأمنية الحساسة للصفقة يجب أن تخضع لمعايير مؤسسية وتشريعية (QME ومراجعة الكونغرس) لا يمكن تجاوزها بسهولة. إن شراء "إف-35" يمثل قفزة نوعية في علاقة "التحالف"، لكنها ليست بحد ذاتها الضمانة الأمنية الملزمة التي تسعى إليها الرياض.
أضافت حرب غزة بعدا جديدا. إذ ربطت السعودية صراحة رغبتها في الانضمام إلى "اتفاقيات أبراهام" بـ"نزع سلاح حماس" وتقديم دعم سعودي لإعادة الإعمار واستقرار المنطقة
على المستوى الاستراتيجي، كانت اللحظة الأكثر سخونة في الزيارة هي ربط الرياض بين "الجائزة الكبرى" التي يريدها ترمب (توقيع الرياض لاتفاق دبلوماسي مع إسرائيل) و"الضمانة الكبرى" التي تريدها السعودية (المعاهدة الدفاعية).
العلاقة مع تل أبيب مشروطة بـ"حل الدولتين"
أكد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بشكل قاطع: "نريد أن نكون جزءا منها، لكن مع مسار واضح لحل الدولتين الفلسطيني ونزع سلاح (حماس) في غزة." هذا الموقف ليس مجرد مبدأ تاريخي أو التزام قومي وأخلاقي، بل هو فهم عميق لآليات عمل الكونغرس الأميركي، وهو ما كان جوهر تحليلنا السابق. فالثمن الحقيقي للمعاهدة ليس الصفقة الاقتصادية أو العسكرية، بل هو الثمن السياسي الذي يجب على ترمب أن يدفعه للكونغرس لتمرير المعاهدة.
المعضلة التشريعية (67 صوتا): المعاهدة الدفاعية المشتركة تتطلب موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ (67 صوتا). هذا يتطلب حشد أصوات من الجمهوريين ومن الديمقراطيين، خاصة "ديمقراطيي الوسط" الذين يشكلون الكتلة المرجحة.
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الأميركي دونالد ترمب اثناء اجتماعهما في البيت الابيض ومن المنتظر ان يوقعا اتفاقية الدفاع الإستراتيجية بين البلدين
المفتاح الديمقراطي والغطاء السياسي: لن يمنح "ديمقراطيو الوسط" أصواتهم لمعاهدة دفاعية تاريخية بهذا الحجم دون تقدم حقيقي ولا رجعة فيه في المسار الفلسطيني. إنهم يحتاجون إلى غطاء سياسي يبرر تصويتهم لصالح ترمب وخصومهم التقليديين. هذا الغطاء هو إحياء حل الدولتين وتقديم ضمانات بإنهاء الاحتلال.
بهذا، يصبح المسار الفلسطيني ليس مجرد شرط سعودي لإرضاء الرأي العام المحلي والإقليمي، بل هو المفتاح الأمثل والغطاء السياسي الأفضل الذي يحتاجه ترمب لفتح قفل الكونغرس وتأمين الأغلبية المطلوبة. إن الموقف السعودي يدمج المبدأ التاريخي (مبادرة السلام العربية) بالواقعية السياسية الباردة (آليات التصويت في الشيوخ)، مما يرفع القضية الفلسطينية إلى مستوى "الضرورة الاستراتيجية" لنجاح المشروع الأميركي في الشرق الأوسط.
غزة وإعادة الإعمار كـ"ورقة تفاوض" إقليمية
لقد أضافت حرب غزة بعدا جديدا. إذ ربطت السعودية صراحة رغبتها في الانضمام إلى "اتفاقيات أبراهام" بـ"نزع سلاح حماس" وتقديم دعم سعودي لإعادة الإعمار واستقرار المنطقة. هذا يضع السعودية في موقع القائد الإقليمي الذي يملك أدوات الاستقرار (المال، الدعم السياسي) ويضع شروطها لتحقيق السلام، مما يعزز من قوة ورقة "المعاهدة" في يدها.
الطريق إلى "المعاهدة" طويل، ويتطلب من الرياض المحافظة على ورقة الحوار تلوح بها لواشنطن التي يتوجّب عليها أن تبدي استعدادا سياسيا غير مسبوق لتقديم ضمانة تاريخية ملزمة
بوضوح، فإن المملكة تعرض تمويلا لإعادة إعمار غزة، ومستعدة للعب دور قيادي في مرحلة ما بعد الحرب، لكنها في المقابل، ترفض دفع ثمن إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون ضمان أن هذه الخطوة ستؤدي إلى سلام مستدام في المنطقة وليس مجرد هدنة مؤقتة. هذا الموقف يحرج واشنطن، حيث يضعها أمام خيار صعب: إما الضغط بقوة على إسرائيل لقبول شروط الحل المستدام، وإما التخلي عن "الجائزة الكبرى" المتمثلة في التوقيع مع السعودية.
إنجاز "الصفقة" واستمرار معركة "المعاهدة"
لا شك أنه يمكن التأكيد أن زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى البيت الأبيض، هي زيارة نتائج، لا زيارة نوايا. لقد نجحت في تحقيق دفعة هائلة لمسار التعاون الاقتصادي والدفاعي، مع إنجاز "الصفقة" العسكرية والتكنولوجية بأعلى المواصفات ("إف-35". تريليون دولار استثمارات. الذكاء الاصطناعي).
وأعلن ترمب رسميا أن الولايات المتحدة ستمنح المملكة العربية السعودية وضع "حليف رئيس من خارج (الناتو)"، مما يعتبر خطوة كبيرة في تعزيز العلاقات الثنائية. كما أكد الطرفان التزامهما بزيادة الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة بشكل كبير، مع تعهدات برفع إجمالي الاستثمارات من 600 مليار دولار إلى تريليون دولار، ولا سيما في قطاعات البنية التحتية والشركات والتكنولوجيا بما في ذلك الذكاء الاصطناعي والدفاع.
جانب من حفل العشاء الذي أقيم في البيت الأبيض على شرف ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان
كما نجحت في إبقاء ورقة إقامة علاقات دبلوماسية مع تل أبيب معلقة عن طريق ربطها بالضمانة الأمنية، مما يؤكد المنهجية الاستراتيجية للرياض.
وفي ختام لقاء الأمير محمد بن سلمان والرئيس ترمب، وقعا على اتفاقية الدفاع الإستراتيجي. كما تم التوقيع بين الجانبين على عدد من الاتفاقيات والمذكرات الثنائية على النحو التالي: الشراكة الإستراتيجية للذكاء الاصطناعي، البيان المشترك لاستكمال المفاوضات بشأن التعاون في الطاقة النووية المدنية، الإطار الإستراتيجي للشراكة في تأمين سلاسل الإمداد لليورانيوم والمعادن والمغانط الدائمة والمعادن الحرجة، اتفاقية تسهيل إجراءات تسريع الاستثمارات السعودية، ترتيبات الشراكة المالية والاقتصادية من أجل الازدهار الاقتصادي، الترتيبات المتعلقة بالتعاون في قطاع هيئات الأسواق المالية، مذكرة تفاهم في مجال التعليم والتدريب، الرسائل المتعلقة بمعايير سلامة المركبات.
لكن السؤال الجوهري في إطارنا التحليلي يبقى: ما هي آفاق النجاح في تحقيق "المعاهدة" المؤسسية مع واشنطن؟
الإجابة المختصرة هي: لم تُبرَم المعاهدة بعد، لكن الزيارة نقلت طلبها من الإطار التنفيذي إلى الإطار التشريعي. لقد حوّلت الزيارة المطالب السعودية من مجرد "أمنيات" إلى "عمليات تشريعية ودبلوماسية" داخل منظومة واشنطن. ترمب، "الرئيس المناهض للمؤسسية"، وجد نفسه مضطرا للعب بقواعد المؤسسة التي تتطلب منه مواجهة "معضلة الـ67 صوتا" في مجلس الشيوخ.
إن الطريق إلى "المعاهدة" طويل، ويتطلب من الرياض المحافظة على ورقة الحوار تلوح بها لواشنطن التي يتوجّب عليها أن تبدي استعدادا سياسيا غير مسبوق لتقديم ضمانة تاريخية ملزمة. وفي النهاية، سيبقى نجاح هذه الشراكة الاستراتيجية معلقا على إجابة السؤال الذي يتردد صداه في أروقة الكونغرس: هل ستكون الرياض مستعدة لدفع الثمن لانتزاع المعاهدة، وهل سيكون ترمب قادرا على دفع الثمن السياسي الذي يطلبه الكونغرس؟ هذه هي معركة المأسسة القادمة التي ستحدد شكل الشرق الأوسط لجيل قادم.
كل ما نستطيع قوله هنا أن الرياض- لحد الآن- تسير بنجاح وثبات في نقل ثقل العلاقة مع واشنطن من التعامل مع السلطة التنفيذية، الرئيس وحكومته، إلى السلطة التشريعية، مجلسي النواب والشيوخ، بوصفها الضمانة الوحيدة للالتزام المستدام من قبل الحليف التاريخي.