"الحرب المنسية" لم تعد منسية

تحرّك السعودية لم يكن مفاجئا للعارفين

"الحرب المنسية" لم تعد منسية

استمع إلى المقال دقيقة

في خضمّ انشغال العالم بصراعاتٍ أكبر، من أوكرانيا إلى غزة، ظلّت الحرب في السودان تمضي بصمتٍ ثقيل. شلال دمٍ يمتدّ في الجغرافيا والذاكرة، ومعاناةٌ تفيض عن حدود الاحتمال. حرب منسية بكل ما تحمله الكلمة من معنى: آلاف القتلى، ملايين النازحين، مدنٌ تحوّلت إلى أطلال، وشعبٌ يبحث عن وطنٍ يتنفّس فيه الحياة، وخريطة مهددة بالتقسيم.

لم تعد هناك كاميرات، ولا بيانات عاجلة، ولا مؤتمرات دولية، ولا اهتمام يليق بحجم المأساة. في هذا المشهد الملقى في الأرشيف، جاء تحرّك وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ليعيد الضوء إلى واحدة من أكثر الحروب تجاهلاً في زماننا، وليمنح السودان مكانه المستحق في الوعي الدولي، فيضعه من جديد ضمن دائرة الاهتمام.

وبالفعل، بمجرد تسريب كلام الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال منتدى الاستثمار السعودي-الأميركي، عادت الصحف والمنصّات الدولية إلى الحديث عن السودان، وليس ليومٍ واحد أو عنوان واحد. وهذا وحده إنجاز مهمّ في زمنٍ تُقاس فيه قوة الدول بقدرتها على جعل العالم يُصغي إليها وتغيير المصير والمسار.

التحرّك، لم يكن مفاجئا للعارفين. فالسعودية تابعت منذ البداية تطوّر النزاع، واستضافت على أرضها في جدة جولات التفاوض بين أطراف "حرب الجنرالين". لكنها، كما لاحظ الجميع، أدركت أن لغة البنادق باتت أعلى من لغة الدبلوماسية، وأن الحرب تُدار ببرودٍ دولي غير مسبوق.

عندها اختارت الرياض أن تذهب أبعد: أن توقظ الصمت الدولي بدعوة أكبر لاعب خارجي، الولايات المتحدة. فدعوة ترمب للتدخّل لم تكن خطوة سياسية عابرة، بل محاولة لإدخال أولوية وقف الحرب السودانية في دائرة الاهتمام العالمي.

رد ترمب، كما نُقل، جاء سريعا وإيجابيا. إذ وعد بأن تعمل واشنطن بالتنسيق مع الرياض على وقف النار، ودفع الطرفين نحو تسوية تضع حدّاً للنزيف الإنساني. ولعلها المرة الأولى منذ اندلاع النزاع التي تولد فيها نافذة أملٍ جديدة، في أن يُعاد السودان إلى الواجهة، لا بوصفه أزمةً منسية، بل قضية تستحق الحل ولإعطاء السودانيين "فرصة" للذهاب أبعد من مجرد وقف النار.

المبادرة السعودية لا يمكن فصلها عن رؤيةٍ أوسع تتبنّاها المملكة منذ سنوات. ففي عالمٍ يزداد استقطابا، قررت الرياض أن تجعل من الدبلوماسية أداة توازن لا ترجيح، ومفتاح حل لا قفل مواجهة. من اليمن إلى سوريا، ومن الحوار مع إيران إلى استعادة العلاقات مع تركيا، ومن هدنة غزة، إلى مبادرة "حل الدولتين" والاعتراف بالدولة الفلسطينية، بدا واضحا أن السعودية تسعى إلى شرق أوسطٍ جديد، أقلّ صخبا وأكثر استقرارا، منطقة تتحدث لغة المبادرات وليس الميليشيات. والسودان جزءٌ من هذه الرؤية، دولةٌ عربية وأفريقية تمسّ أمن البحر الأحمر ومستقبل القرن الأفريقي مباشرة وخطوط الإمداد العالمية.

التحرك السعودي تجاه السودان يذكّر بمواقف سابقة اتخذتها الرياض في محطاتٍ عربية حرجة. عندما أقنع الأمير محمد بن سلمان الرئيس ترمب في منتصف مايو/أيار الماضي بلقاء الرئيس أحمد الشرع في الرياض وإلغاء العقوبات "لإعطاء سوريا فرصة"، لم يكن أحد يتوقع أن يزور الشرع البيت الأبيض، وأن يُرفع "قانون قيصر" قبل نهاية عام 2025.

ترمب يدرك أن التحرك في السودان من بوابة السعودية يمنحه شرعيةً وثقلاً، لا سيّما بعد أن أعلن أنه أوقف ثماني حروب في العالم ويسعى إلى جائزة نوبل للسلام

في كل مرة تبتعد فيها القوى الكبرى عن أزمات المنطقة، تبادر السعودية إلى القيادة. لكنها اليوم تفعل ذلك من موقعٍ مختلف، بثقةٍ ناتجة عن "رؤية 2030" التي جعلت من الاستقرار شرطاً للتنمية، ومن التنمية وسيلةً للاستقرار. وحين جاءت المبادرة من المنتدى الاقتصادي، لم تكن بلسان الحاجة، بل بلغة الشراكة والمسؤولية المشتركة.

أما ترمب، فيدرك أن التحرك في السودان من بوابة السعودية يمنحه شرعيةً وثقلاً، لا سيّما بعد أن أعلن أنه أوقف ثماني حروب في العالم ويسعى إلى جائزة نوبل للسلام ويستعجل اتفاقا في أوكرانيا. لذلك جاءت استجابته الفورية لتفتح باباً لتعاونٍ قد يتطور، إذا ما استُثمر جيدا، إلى مسارٍ دولي جديد. فوقف الحرب في السودان لن يكون إنجازا سعوديا أو أميركيا فحسب، بل رسالة إلى العالم بأن هناك من لا يزال يؤمن بإمكانية إنقاذ ما تبقّى من الدولة السودانية، ومن فكرة الدولة ذاتها، في عالمٍ عربي تتنازعه الانقسامات.

"الحرب المنسية" في السودان لم تعُد منسية. فالسياسة ما زالت قادرة على أن تنقذ ما تركته البنادق

لو لم تتحرك الرياض، لما تذكّر أحد أن هناك حربا في السودان. عبارة موجعة وصادقة في آن. قد يقول البعض إن السياسة لا تُبنى على النوايا الحسنة، وإن الجروح عميقة بين عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) مع اقتراب "حرب الجنرالين" من سنتها الثالثة. صحيح، لكن أيضا لا تولد الحلول من دون مبادرات. والعالم اليوم، المنهك من الصراعات الكبرى، يحتاج إلى قياداتٍ تملك الجرأة على إطلاق مبادرات سلام حتى في أكثر الظروف تعقيدا.

الطريق إلى وقف النار في السودان طويل ومعقّد، لكنّ كل خطوة تبدأ بفكرة، وكل مبادرة تحتاج إلى من يتحمّل مسؤوليتها. ومتى ما اجتمع صوت الرياض مع دعمٍ أميركي فعلي، يمكن أن يُفتح الباب أمام تفاهمٍ إقليمي أوسع ينطلق من "اللجنة الرباعية" لإنقاذ السودان من الانهيار. وفي ذلك، لا تبحث السعودية عن مكاسب سياسية، بل عن استقرارٍ ينعكس على جوارها وعلى العالم العربي برمّته.

"الحرب المنسية" في السودان لم تعُد منسية. فالسياسة ما زالت قادرة على أن تنقذ ما دمرته البنادق. وربما، في هذا الزمن المرهق بالحروب، لا نحتاج إلى أكثر من ذلك، أن نُصدّق أن السلام، وإن تأخر، ما زال قابلا للولادة.

font change