الصحراء الغربية... بين الإجماع الداخلي وعقبة التأويل

التحرك لإقفال الملف الشائك نهائيا

أ.ف.ب
أ.ف.ب
مروحية ميل مي-8 تابعة لبعثة الأمم المتحدة بعد هبوطها في الصحراء الغربية على الجانب المغربي من معبر الكركرات الحدودي بين المغرب وموريتانيا، الواقع في الصحراء الغربية، في 25 نوفمبر 2020

الصحراء الغربية... بين الإجماع الداخلي وعقبة التأويل

تلبية لمتطلبات القرار الأممي الأخير حول الصحراء الغربية، شرع المغرب رسميا بداية هذا الأسبوع في تدشين مرحلة "المشاورات رفيعة المستوى" بين القصر الملكي وزعماء الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان. بهدف صياغة مشروع وطني مفصل لخطة الحكم الذاتي في الصحراء، يشمل الجوانب القانونية والمالية والإدارية.

يبين هذا الحراك الداخلي أن المغرب ينظر لتطبيق المبادرة بجدية ومسؤولية، معتبرا الخطة التفصيلية المعدة بإجماع وطني هي الأرضية الوحيدة التي سيتم تقديمها دوليا وترجمتها على أرض الواقع، مؤكدا الانتقال من مرحلة الطرح إلى مرحلة التنفيذ.

لن نعود إلى الوراء، إلى نصف قرن مضى من عمر أزمة الصحراء الغربية، بل سنحاول استكشاف التطور البارز والأعمق خلال السنوات الخمس الأخيرة، من أجل فهم ماذا جري؟

شهدت السنوات الخمس الأخيرة تحولا جذريا في ملف الصحراء، تمثل في القطيعة مع الجمود وتثبيت خيار الحكم الذاتي. إذ بدأت نقطة التحول بأزمة "الكركرات" (نوفمبر/تشرين الثاني 2020)، التي كسرت وقف إطلاق النار وألغت الإطار الأمني القديم. تبع ذلك تحول دبلوماسي ضخم، بدأ باعتراف أميركي بمغربية الصحراء، وتواصل بتراجع دولي عن الاعتراف بالبوليساريو، وفتح قنصليات عديدة، ليتوّج هذا التحول بقرار مجلس الأمن الذي تبنى الحكم الذاتي كحل وحيد "واقعي وعملي"، مما أقصى خيار الاستفتاء عمليا.

هنا، انتقل المغرب على الفور إلى مرحلة التنفيذ، عبر إطلاق مشاورات رسمية بين القصر والأحزاب لإعداد خطة تنفيذية مفصلة للحكم الذاتي، مع تسريع التنمية في الأقاليم الجنوبية، بهدف تحويل الإجماع الداخلي إلى أرضية المفاوضات الوحيدة في المرحلة القادمة.

تاريخيا، ظل "ملف الصحراء" يدور في فلك سياسي ضيق، محاطا بسياج من التكتم، حيث كان إشراك الأحزاب السياسية والنقابات، مع الهيئات المدنية، محدودا ورمزيا إلى حد كبير.

شهدت السنوات الخمس الأخيرة تحولا جذريا في ملف الصحراء، تمثل في القطيعة مع الجمود وتثبيت خيار الحكم الذاتي

شهدت المراحل الأولى للنزاع، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، استثناءات، برز فيها ثقل الرموز السياسية التاريخية. حين تمت الاستعانة بشخصيات بارزة كحاملي رسائل ومستشارين غير رسميين، ما يبرز وزنهم التاريخي والتنظيمي آنذاك. نذكر منهم على سبيل المثال: محمد بلحسن الوزاني مؤسس حزب "الشورى والاستقلال". وعلال الفاسي زعيم حزب "الاستقلال"، والشيوعي علي يعتة، الذي كلف بجولات على بلدان المعسكر الشرقي لضمان الدعم. والاشتراكي عبد الرحيم بوعبيد والاستقلالي امحمد بوسته اللذين شاركا في مسارات حاسمة.

أ.ف.ب
مخيم الداخلة للاجئين الصحراويين، على بُعد 170 كيلومترًا جنوب شرق مدينة تندوف الجزائرية، في 8 يوليو 2016

في الاثنين 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، شهد الديوان الملكي اجتماعا رفيع المستوى، جمع مستشاري الملك بزعماء الأحزاب الممثلة في البرلمان. كان الموضوع هو حث الأحزاب على إعداد تصوراتها لإعداد المشروع المغربي المفصّل حول خطة "الحكم الذاتي"، وفقا لطلب الهيئة الأممية. هذا التحرك يؤكد أن تفعيل المقاربة التشاركية بات أمرا حتميا لتأمين الإجماع الوطني على التفاصيل التنفيذية للمقترح.

هذا التحول يتزامن مع بروز قوة الدبلوماسية الموازية، البرلمانية والمدنية، التي أصبحت أداة استراتيجية فاعلة تتجاوز الدبلوماسية الرسمية، حيث يتيح تطور شبكات التواصل للنخب المدنية والبرلمانيين نقل وجهة النظر المغربية بمرونة، والوصول إلى الرأي العام الأجنبي والمؤسسات الدولية. وقد ساهمت هذه القوة الناعمة بشكل كبير في تجميد الاعترافات وتمهيد الطريق لفتح القنصليات، عبر إقناع المؤثرين بـ"الواقع على الأرض".

هذا التحرك يؤكد أن تفعيل المقاربة التشاركية بات أمرا حتميا لتأمين الإجماع الوطني على التفاصيل التنفيذية للمقترح

داخليا، لتفعيل المقترح وضمان شرعيته، بواسطة تفعيل المشاركة بإشراك الأحزاب والبرلمان والهيئات المدنية في صياغة تفاصيل الحكم الذاتي (القانونية والمالية والإدارية) لضمان الإجماع الوطني. وتعزيز التنمية بتسريع وتيرة المشاريع التنموية الكبرى في الأقاليم الجنوبية، لتدعيم الاندماج وجعل خيار الحكم الذاتي جاذبا معيشيا لسكان المنطقة. واستخدام الخطة التنفيذية المفصلة والمعدة داخليا كأرضية وحيدة للنقاش المستقبلي.

وخارجيا، لتثبيت الواقع على الأرض، عبر حشد التأييد الدولي للمقترح وتحويله إلى اعترافات رسمية جديدة، وفتح المزيد من القنصليات في العيون والداخلة. مع المطالبة بالانتقال من صيغة "الموائد المستديرة" إلى مفاوضات مباشرة ترتكز على الحكم الذاتي كإطار وحيد".

رغم أن القرار الأممي الأخير قد أثلج صدور الدبلوماسيين المغاربة، فإن الجميع يدرك أن هذا القرار لا يمثل "عصا سحرية" قادرة على تغيير الأوضاع والمواقف المتجذرة بين عشية وضحاها. فبين صدور القرار وتحويله إلى حقيقة معاشة على الأرض، تكمن حقول ألغام من التخوفات والتحديات.

تترقب المنطقة مناورات وعراقيل قد لا تملك القوة لنسف القرار الأممي، ولكنها كفيلة بإبطائه أعواما أخرى. هذا ما ترشحه مواقف التصعيد والرفض المعلنة صراحة من جبهة البوليساريو. ومن المتوقع أن يتحول النزاع في المرحلة القادمة إلى "حرب تأويل الكلمات"، حيث سيصبح القرار الأممي مادة خصبة للمناورات، يسعى كل طرف لتفسير كل نقطة فيه بما يخدم موقفه.

بالنسبة للبوليساريو، قد تدفعها العوامل الإنسانية واللوجستية في مخيمات تندوف، وضعف التمويل الدولي، نحو مرونة ما. لكنها  قد تسعى إلى قطف نتيجة أوسع من مجرد الحكم الذاتي بالصيغة المغربية.

تشير التوقعات إلى إمكانية البحث عن صيغة "كونفدرالية" تحافظ على جزء من هيبة الكيان المعلن، مع التنازل عن الاستفتاء، في محاولة للحصول على تسوية تبدو "أكبر" من مجرد حكم ذاتي داخلي.

أ.ف.ب
مركبة للجيش المغربي تمر بجانب حطام سيارات في منطقة الكركرات بالصحراء الغربية، في 24 نوفمبر 2020

وفي حوار تلفزيوني، حسم الممثل الدائم للمغرب لدى الأمم المتحدة، السفير عمر هلال، بأن هذه الدبلوماسية الموازية، إلى جانب الدبلوماسية الرسمية، هي جزء من استراتيجية متكاملة. مؤكدا على أن القرار الأممي رقم 2797 يمثل "انتصارا تاريخيا" و"تتويجا للدبلوماسية الملكية"، ومشددا على أن القرار الجديد يعد "لحظة مفصلية"، لأنه "يحدث قطيعة تامة مع القرارات السابقة، ويؤسس لمرحلة جديدة قائمة على الواقعية السياسية".

كما جدد الدبلوماسي المغربي رفض المغرب القاطع لأي حديث عن الاستفتاء، معتبرا أن "الأمم المتحدة ومجلس الأمن دفنا خيار الاستفتاء منذ ربع قرن، وأنه شطب من جميع القرارات الأممية لأنه مجرد أداة سياسية". واستدل بأن 60 قضية من أصل 64 نزاعا يتعلق بالانفصال حول العالم، جرى حلها دون اللجوء إلى الاستفتاء.

جدد المغرب رفضه القاطع لأي حديث عن الاستفتاء، معتبرا أن "الأمم المتحدة ومجلس الأمن دفنا خيار الاستفتاء منذ ربع قرن، وأنه شطب من جميع القرارات الأممية لأنه مجرد أداة سياسية"

في تطورٍ موازٍ ومؤشر على التحول الأوروبي، أعلنت المفوضية الأوروبية موافقتها على إطلاق مفاوضات جديدة لتجديد اتفاقية الصيد البحري مع المغرب. هذا التحول لم يعد ملفا تقنيا، بل مؤشر سياسي بالغ الدلالة يعكس عودة الوعي الأوروبي بأهمية الشراكة الاستراتيجية مع المغرب، وضرورة مقاربة العلاقة وفق منطق المصالح المتبادلة، بعيدا عن الضغوط والمزايدات. ويدرك الاتحاد الأوروبي أن تجديد الاتفاقية يمثل ركيزة لاستقرار المنطقة وتعزيز الأمن البحري ومكافحة الهجرة غير النظامية.

إن التطورات الأخيرة، من قرار مجلس الأمن إلى الإشارات الأوروبية، تؤكد أن الوقت قد حان لـ"قفل ملف الصحراء" نهائيا. فالنزاع الذي استنزف نصف قرن من الزمن الإقليمي والدولي لم يعد يحتمل المزيد من الإبطاء والمناورات.

ويؤكد الدكتور عبد الصمد محيي الدين، الخبير الأنثربولوجي، لـ"المجلة"، أنه "يجب على الأطراف كافة أن تدرك أن استمرار هذا الصراع، وتحويل القرار الأممي إلى مادة للتأويل بدلا من التنفيذ، إنما هو استمرار لهدر الفرص التنموية على حساب خير ومصلحة شعوب المنطقة. لقد ضاع زمن ثمين كان يمكن استدراكه عبر توجيه الموارد نحو التكامل الاقتصادي والاجتماعي".

في هذا السياق، يصبح إحياء الاتحاد المغاربي ضرورة تاريخية لا تقبل التأجيل. إن تسوية ملف الصحراء، ضمن إطار الحكم الذاتي الذي بات الأساس الوحيد الممكن، يمثل المفتاح لإعادة فتح الحدود بين الأشقاء وإطلاق عجلة التنمية الإقليمية المشتركة. فالمرحلة القادمة يجب أن تكون مرحلة البناء المشترك والانتقال من صراع الإرادات إلى تعاون المصالح، ليتمكن المغرب والجزائر وجيرانهما من استدراك الزمن الضائع والشروع في تحقيق الرخاء لشعوبهم".

font change