في الأيام الأخيرة اشتعلت منصات التواصل الاجتماعي بحالة غير مسبوقة من الجدل، بعدما بدأت منصة "أكس" -تويتر سابقا- في تفعيل تحديث جديد يعرض معلومات تفصيلية عن الحسابات الشخصية، من بينها تاريخ انضمام المستخدم الى المنصة، والموقع الجغرافي للحساب، وعدد مرات تغيير اسم المستخدم. وقد ظهر هذا التحديث تحت ميزة جديدة تحمل اسم "حول هذا الحساب".
مع التحديث الجديد لمنصة "إكس"، وجد المستخدمون أنفسهم أمام تغيير لافت أثار الكثير من الجدل، فرغم أن هذا التحديث — الذي يجري طرحه تدريجيا خلال الأيام الماضية — يأتي في إطار ما تصفه الشركة بتعزيز الشفافية ورفع مستوى الصدقية في المحتوى، فإنه فتح في المقابل بابا واسعا للنقاش حول خصوصية المستخدمين ومدى دقة البيانات الجغرافية التي تعرضها المنصة، إضافة إلى حدود الإفصاح في البيئة الرقمية. وبينما تؤكد الشركة أن الهدف الأساس هو مواجهة الحسابات الوهمية وتقديم سياق أوضح للمحتوى، يرى كثيرون أن هذا التغيير قد تترتب عليه أخطار أمنية وإمكان تعرض المستخدمين للتتبع غير المرغوب فيه، خصوصا في المناطق ذات الحساسية السياسية أو الأمنية.
يأتي التحديث الأخير لمنصة "إكس"، الذي يتيح الكشف عن الموقع الجغرافي للمستخدمين بصورة أكثر وضوحا ودقة، انسجاما مع التوجه العام الذي تبنته المنصة منذ انتقالها إلى إدارة إيلون ماسك. فمنذ توليه زمام القيادة، اعتمد ماسك رؤية تقوم على مفهوم الانكشاف الكامل بوصفه ركيزة لبناء فضاء رقمي أكثر حرية وشفافية، لكنه في الوقت نفسه أقل قابلية للتلاعب والخداع.

تقوم فلسفته على فكرة أن حرية التعبير يجب ألا تقيد، وأن المنصة يجب ألا تمنع أحدا من الكلام أو إبداء رأي سياسي أو اجتماعي — مهما كان مثيرا للجدل — لكن هذه الحرية يجب أن تمارس في بيئة مكشوفة الهوية والمصدر، حيث يعلم المستخدمون من يقف خلف كل حساب، ومن أي مكان في العالم يتحدث.
وفق هذا المنطق، لا يسعى ماسك إلى إسكات الأصوات أو حظر الحملات المؤثرة، لكنه يريد أن تتحول منصة "إكس" إلى ساحة نقاش مفتوحة لا يمكن فيها للاعبين الخفيين — سواء أفرادا أو منظمات أو جهات سياسية — أن يعملوا في الظلام أو يوجهوا الجمهور من وراء ستار. بمعنى آخر، هو لا يحظر الخداع من حيث المبدأ، لكنه يسعى إلى جعل ذلك الخداع مكشوفا، بحيث يصبح المتلقي أكثر وعيا بطبيعة المحتوى الذي يصله وبالجهات التي قد تقف خلفه.
شفافية الهويات
من هنا يمثل التحديث الجديد خطوة متقدمة في مشروع ماسك لإعادة تنظيم منصات التواصل الاجتماعي حول الحرية المعلنة لا الحرية المتخفية، وحرية تبادل الآراء مع شفافية الهويات، لا غموضها. فالمنصة لم تعد تتعامل مع حرية التعبير كمساحة مفتوحة بلا سياق، بل كبيئة يجب أن يعرف فيها القارئ من يتحدث، ومن أين يصدر الخطاب، وما الظروف المحيطة بالمعلومات المتداولة. إظهار الموقع هنا يتحول إلى أداة لفضح الحسابات التي تبني حضورها على هوية مشوهة أو موقع مضلل، خصوصا في القضايا السياسية التي تستغل فيها الحسابات المجهولة غياب أي معلومة عن السياق الحقيقي لصاحب الرأي.
يتكامل هذا الاتجاه مع خاصية التحقق المجتمعي التي أصبحت خلال العامين الماضيين إحدى أهم الأدوات المركزية في فرز المعلومات أمام الجمهور على منصة "إكس". فبدلا من النهج التقليدي الذي يعتمد على حذف المنشورات المخالفة أو حظر أصحابها، تتبنى المنصة الآن أسلوبا علنيا يقوم على وضع ملاحظات تصحيحية فوق المنشورات التي تتضمن معلومات ناقصة أو مضللة. وبذلك لا يختفي الخطأ، بل يكشف أمام الجميع ويواجه بالتصحيح الجماعي. هذه الآلية تعيد تعريف العلاقة بين النشر والمحاسبة: فالمنصة تسمح بمرور المحتوى، لكنها تجعل تصحيح المغالطات ممارسة عامة وشفافة، ليصبح كشف الكذب جزءا من النقاش وليس جزءا من العمليات الخلفية المغلقة.

