سليم باشي يروي فيكتور هوغو في منفاه

"صخرة المنفيين" تنقذ الشاعر من أسطورته

غلاف رواية "صخرة المنفيين"

سليم باشي يروي فيكتور هوغو في منفاه

أحيانا، تنجب المصادفة الموضوعية كتابا باهرا، كما تبين رواية الكاتب الجزائري الفرنكوفوني سليم باشي، "صخرة المنفيين"، التي صدرت حديثا في باريس عن دار "بلون"، ويقف خلفها ألبوم صور وقع باشي عليه بالمصادفة لدى بائع كتب، وقادته الدهشة التي أصابته "أمام القوة المغناطيسية المنبعثة من تلك الصور المصفرة، المحروقة، والملتقطة أحيانا بطريقة رعناء"، إلى بحث مثير حول الماثلين فيها، أفضى إلى نص روائي آسر أثبت صاحبه فيه، من جديد، مهاراته السردية والكتابية التي تجلت منذ "كلب عوليس" (2001) المتوجة بـ"جائزة غونكور للرواية الأولى".

المنفى بسبب نابوليون

الصور التي يتضمنها الألبوم المذكور هي لفيكتور هوغو في جزيرة جيرسي، حيث استقر مع عائلته بعد إدانته نابوليون الثالث بسبب الانقلاب الذي قام به عام 1851 للبقاء في السلطة. ثمة أيضا صور لأفراد عائلة هوغو، وأخرى لمنفيين جمهوريين لجأوا، مثل الشاعر، إلى الجزيرة المذكورة، وباتوا اليوم مجهولين كليا، لكن حضورهم القوي في هذه الكليشيهات، "بوجوه متعبة"، مثل "شيوخ لم يتجاوز معظمهم سن الثلاثين"، خلّف لدى باشي رغبة شديدة لاكتشاف سبب شقائهم وظروفه.

ولأنه لم يكن يعرف سوى القليل عن هذه المرحلة الأولى من النفي الذي خضع هوغو له، ودام 19 عاما، كان لا بد له من التقصي، فقاد بحثا عميقا على مدى شهور، لم يخل من تعثر.

بحث عاد به إلى انقلاب الثاني من ديسمبر/ كانون الأول 1851، إلى أمر نابوليون الثالث باعتقال هوغو لدعوته الشعب الفرنسي إلى العصيان، وإلى فرار الشاعر إلى بلجيكا، حيث التحقت به عشيقته جولييت درويه، "حاملة معها صندوقا مليئا بالمخطوطات"، وولداه، شارل وفرنسوا-فيكتور، بعد الإفراج عنهما من سجن الـ"كونسييرجوري"، وزوجته أديل، لكن ليس قبل أن تنقذ أموال العائلة بتحويلها إلى المصارف البلجيكية والإنكليزية. لكن إثر إصدار هوغو كتابه، "نابوليون الصغير" عام 1852، طرده ملك بلجيكا من مملكته كي لا تنتكس علاقته بنابوليون، فاستقر مع عائلته وعشيقته في جزيرة جيرسي.

بورتريه مؤثر لهوغو يظهر فيه خلال تلك المرحلة العصيبة من حياته إنسانا يعاني من أزمة وجودية عميقة ومؤلمة، لكن متشبثا دائما بقناعاته، ومولعا بالعدالة

كل هذه المعطيات المثيرة، وغيرها، جمعها باشي، لكنه عجز عن ترتيبها داخل رواية في بادئ الأمر، فبقي عالقا عند المشهد الأول الذي يفتتحها: شاطئ في جزيرة جيرسي يقف هوغو عليه ويبدو أنه يتحضر لرمي نفسه في الأمواج الهائجة. لكن ذات ليلة، رأى باشي في الحلم هذا المشهد، وقال لنفسه: يجب أن أحذره، لعلي أتمكن من منعه من الغرق. وعند استيقاظه، رأى في هذا الحلم علامة، وأدرك أنه يجب عليه المضي في كتابة "صخرة المنفيين"، مهما كلف الأمر.

AFP
الكاتب الفرنسي فيكتور هوغو عام 1878

أزمة وجودية

لحسن الحظ، فعل ذلك. لماذا؟ لأنه نجح في هذه الرواية القصيرة نسبيا (248 صفحة)، لكن المكثفة، في خط بورتريه مؤثر لهوغو يظهر فيه خلال تلك المرحلة العصيبة من حياته إنسانا يعاني من أزمة وجودية عميقة ومؤلمة، لكن متشبثا دائما بقناعاته، ومولعا بالعدالة. شاعر معذب "يبدو، مثل البحر الذي يمغنطه، عاجزا عن السكون، لكن وحده البحر قادرا على تهدئته".

ثمة سببان آخران للابتهاج بتمكن باشي من كتابة هذه الرواية: تشييده فيها سردية متقطعة ومحمومة تعانق على أكمل وجه اضطراب هوغو الذهني في تلك المرحلة، واختياره لكتابتها لغة متوهجة، غالبا تعزيمية، تضفي على شخصية الشاعر عظمة سامقة، وفي الوقت نفسه، تكشف هشاشته في أقسى تجلياتها.

فعلا، لا يستسلم باشي في "صخرة المنفيين" لإغراء الكتابة التمجيدية عن هذا العملاق، بل يتناول عناصر واقعية من حياته وشخصه لصوغ رواية خرافية أكثر صدقا من الواقع نفسه. رواية نرى هوغو فيها إنسانا "يعرج، يئن، يضحك مثل ممسوس، يتجشأ في وجه المحيط، يشتم ذويه، ويتوه في متاهات الحداد".

shutterstock
تمثال نصفي لفيكتور هوغو في حديقة ارميتاج في صباح ربيعي

أما المنفى المصور فيها، فليس مجرد إطار تاريخي لها، بل مقفز لـ"الغوص في الهوة الداخلية لإنسان محطم، ممزق بين واجب الذاكرة والنشوة الصوفية"، كما أصاب أحد النقاد في وصفه. إنسان كان قد أصبح شاعر فرنسا الأكثر شهرة، وعلى هذا الصعيد، يتوافق داخل الرواية مع صورته الحقيقية كشاعر رومنطيقي مخلد، بكل إشراقاته ومبالغاته ونزواته. لكنه أيضا، وربما قبل أي شيء، هوغو الذي يعاني من ألم عظيم، منذ ذلك اليوم من عام 1843 الذي ابتلعت مياه نهر السين فيه ابنته ليوبولدين.

هوغو السياسي

في الوقت نفسه، ينتظرنا في "صخرة المنفيين" هوغو الرجل العام والسياسي، لأن باشي يروي أيضا حياة المنفيين الجمهوريين الذين كانوا يحيطون به آنذاك في جيرسي، وطبيعة علاقته بأبرز وجوههم. في هذا السياق، يتأمل الروائي هذه الطائفة، مستخلصا سماتها، عيوبها، وخلافاتها، والشاعر في وسطها الذي "يبدو أنه فقد جناحيه"، فيظهر تارة صامتا، وطورا فصيحا، متكلفا في خطابه، غاضبا، وأحيانا مبلبلا. شخصية مغناطيسية في حيويتها، تعبرها النشوات الصوفية والإشراقات الشعرية، كما تختبر لحظات من الضياع والاضطراب الشديدين.

الروائي الجزائري الفرنكوفوفي سليم باشي

في السياق نفسه، يتناول باشي في روايته قضية جوليان أوبير التي رواها هوغو في كتابه "أشياء رأيتها"، وتتعلق بذلك المنفي الذي مر ببروكسيل ولندن، وكان الشاعر يظنه "شيوعيا متحمسا"، مثل سائر رفاقه، قبل أن يتبين في النهاية لهم أنه كان جاسوسا لنابوليون الثالث. خيانة لم يتصور الجمهوريون المنفيون جزاء لها سوى الإعدام، لأنها كلفت عددا منهم حياته، وعرضت حياة البقية لخطر الموت.

لا يستسلم باشي في "صخرة المنفيين" لإغراء الكتابة التمجيدية عن هذا العملاق، بل يتناول عناصر واقعية من حياته وشخصه لصوغ رواية خرافية أكثر صدقا من الواقع نفسه

لكن هوغو، الذي لم يكن قد نسي الرواية التي وضعها عام 1829 بعنوان "اليوم الأخير لمحكوم بالإعدام"، وانقض فيها على عقوبة الإعدام، دافع عن هذا الخائن في مرافعة باهرة ينجح باشي في تجسيد حدتها وسط حضور بدا معاديا لها في البداية، قبل أن يرضخ لقوتها الجدلية وإنسانيتها، فيلتزم الصمت. مرافعة تتجلى من خلالها عموما نظرة صاحب "البؤساء" الشخصية للخطأ والخلاص والعدالة، بينما ترسخ الحبكة الدرامية الخاصة بقضية هذا الخائن نص الرواية داخل توتر سياسي وأخلاقي يمتزج مع عذابات الشاعر الداخلية المصورة.

shutterstock
تمثال فيكتور هوغو في روما، إيطاليا

في "صخرة المنفيين"، نتعرف أيضا الى هوغو الرجل الذي كانت له عشيقات كثيرات، والذي دمر زوجته أديل بخياناته المتكررة، مفضلا عليها في جزيرة جيرسي عشيقته جولييت، وشوه سمعته في وطنه بسبب شبقه الجنسي. نتعرف أخيرا إليه من خلال العلاقة التي جمعته بمواطنه، الكاتب الواقعي بلزاك. علاقة معقدة قامت على صداقة مؤثرة وإعجاب متبادل لم يخل من توتر. عملاقان "مختلفان في كل شيء تقريبا، لكن كليهما كان محفورا منذ ذلك الحين في رخام الخلود".

تحت جلد هوغو

في اختصار، رواية آسرة تتعدد زوايا مقاربة هوغو فيها، وتفيض بتفاصيل مثيرة حوله يجهلها معظمنا، وبصور مدهشة في صوغها ووقعها، تساهم في تجسيده وتسهل الانزلاق تحت جلده. رواية تتطور سرديتها بين ومضات غنائية، وانفعالات ميلودرامية، وحوارات تتأرجح بين واقع وخيال، ويوقع فصولها استحضار الشاعر بانتظام قصص حبه المفقودة، التزاماته السياسية المتقلبة، وأيضا مساءلته القارصة للسماء، خصوصا في ما يتعلق بابنته الحبيبة ليوبولدين، التي تدفعه مأساة فقدانها باكرا جدا إلى المشاركة في جلسات تحضير أرواح، آملا بذلك في تلقي أخبار عنها، وتهدئة قلقه إزاء مصيرها بعد الموت، وتخفيف شعوره بالذنب لأنه فشل في تجنيبها هذا المصير المروع، ولم يتمكن حتى من حضور جنازتها، بعد انتشال جثتها من نهر السين.

لكن قيمة هذه الرواية لا تقتصر على ذلك، فبفضل الوصف الرائع الذي تحظى به جزيرة جيرسي فيها، خصوصا موقع "صخرة المنفيين" على أحد شواطئها، يتحول هذا المكان، الذي تعصف به الرياح على مدار العام، وتلطمه أمواج البحر بلا كلل، إلى مرآة مثالية لهوغو في تلك المرحلة الحساسة من حياته، أي لرجل في حالة صراع مع أشباح ماضيه وحاضره.

سليم باشي

بالتالي، لا يكتفي باشي في عمله الجديد بخط رواية تاريخية، بل يضطلع أيضا بمهمة سبر أعماق عبقري جريح، بغية الإمساك بتعقيدات شخصيته، وتعرية هوغو الإنسان الكامن خلف آثاره الأدبية اللامعة. والنتيجة؟ بورتريه مفعم بالألوان، نادر الدقة والعمق، يظهر صاحب "التأملات" فيه بكل تناقضاته التي تعكسها، على سبيل المثل لا الحصر، مدافعته الضارية والثابتة عن حقوق الإنسان، وتأييده الاستعمار. وبتركيزه على هذه الجوانب المتضاربة في شخصية الشاعر وسلوكه، ينجح باشي في إخراجه من صورة الرجل العظيم الراقد في الـ"بانثيون"، وفي تقريبه من القارئ.

لا يكتفي باشي في عمله الجديد بخط رواية تاريخية، بل يضطلع أيضا بمهمة سبر أعماق عبقري جريح، بغية الإمساك بتعقيدات شخصيته، وتعرية هوغو الإنسان الكامن خلف آثاره الأدبية اللامعة

من هنا أصاب أحد النقاد الفرنسيين في دعوتنا إلى قراءة "صخرة المنفيين" باعتبارها "تمرينا في الإعجاب القلق، بورتريها مسكونا لهوغو في هيئة عوليس غريق، معذب أكثر منه مظفرا، ومحاولة نابضة بالحياة في تجسيد المنفى بوصفه المكان الأخير للحقيقة". كما أصاب ناقد فرنسي آخر في وصف هذه الرواية بأنها "نافذة جديدة تفتح على واحد من أعظم كتاب أدبنا، وكوة لم يجرؤ أحد من قبل على التربص خلفها".

font change

مقالات ذات صلة